"تربية امرأة" .. كثيرًا ما نسمع هذه الكلمة في سياق التنقيص من بعض الأشخاص، وإلحاق ما به من خللٍ، أو عيبٍ، أو زللٍ لأصل تربيته على يد أمّه!

"تربية امرأة" .. كثيرًا ما نسمع هذه الكلمة في سياق التنقيص من بعض الأشخاص، وإلحاق ما به من خللٍ، أو عيبٍ، أو زللٍ لأصل تربيته على يد أمّه! حتى صارت هذه الكلمة تمثل رصيدًا سلبيًّا تراكميًّا في الوعي الجمعي للشعوب العربية والمسلمة.

وهذا إن دلّ فإنما يدل على غياب النظرة الصحيحة، والفهم الحقيقيّ لدور الأمّهات في بناء الأمم، وتربية الأجيال، وليس العيب أن يتربّى الرجل على يد امرأة، فكم من عظماء الرجال تربّوا على أيدي أمهاتهم، فأفادوا أممًا لا أمَّة واحدة! ولكن العيب في بعض النساء واهتماماتهنّ.

وإذا أردت أن تبحث عن سرّ العمالقة والعباقرة والنوابغ والقادة، فابحث عن أمهات هؤلاء، والأسر التي تَربَّوا وترعرعوا فيها، والبيئة التي نشؤوا فيها، والأمهات اللاتي قمن بتربيتهم وتعليمهم، فليس هناك من هؤلاء العلماء والنوابغ من نشأ في كَنَف أمٍّ غير سويةٍ، أو وحشيةٍ، أو قاسيةِ القلب، أو جاهلةٍ، أو خبيثةٍ، لكنهم نشؤوا في كنف أمٍّ أرضعتهم الحب، والحنان، والعلم، والخير، والعطاء بلا حدود، وطبّقت معهم أهمّ وأعظم النظريات التربوية، وذلك قبل أن يكتشفها الغرب بقرونٍ.

فكم من الأئمة الأعلام ربّتهم أمهاتهم، وكانوا هُداةً مهتدين، يأتي على رأسهم إمام الدنيا والدين: الإمام الشافعي، والذي كان سر نجاحه الأول، ودافعه الأقوى للنبوغ والبروز والتفوق، ومعلِّمه الأول، هي أمّه، تلك المرأة الصالحة التي أخرجت للدنيا والدّين علَمًا مقدَّمًا، وعبقريًا نادرًا، قلّ الزمان أن يجود بمثله.

ـ الشافعيّ كان أعجوبة الزمان، وحَسَنَة الأيام، منحه الله مِنحًا عظيمةً، وأفاض عليه من فضله، وعلّمه ما لم يعلم، وألهمه الصواب، وقوّة الحجّة، مجدد القرن الثاني، وحجّة في الحديث، والأدب، والنّحو، والبلاغة، والشّعر، والفقه، والتّجويد، والتّفسير، والعلوم المتصلة بالقرآن، يقول ابن راهويه: جلسنا في مجلس الشافعيّ دون أن يدرِي، فتكلّم في الفقه، فقال ما لم أسمعه من قبل، فقلت: هذا أعلم الناس في الفقه، فتكلّم في الحديث، فقلت: هذا أعلم الناس في الحديث، فتكلّم في التّفسير، فقلت: هذا أعلم الناس في التّفسير، فتكلّم في الشّعر فقلت: هذا أعلم الناس في الشّعر، فتكلم في اللغة العربية، فقلت: هذا أعلم الناس في اللغة، فتكلم في الرّياضة، فنظرت إلى أحمد بن حنبل، وقلت له: من هذا؟.. ما ظننت أن الله خلق مثل هذا، والله لم تر عيناي مثله.

 وهج البدايات

ـ لم أجد سيرةً لإمام من أئمة المسلمين بهذا الزخم التربويّ، ووهج البدايات، كما كانت سيرة الشافعي -رحمه الله-، وهذا الكمّ من الجهاد المتواصل في سبيل النّهضة بالنّفس منذ نعومة الأظافر، إلى أن يشاء الله ويقضي النهاية، ولم أجد من الكلمات المعبرة التي أستطيع بها أن أصف ذكاء تلك النّبيلة التي أثارت في أعماقي مبدأ الرويّة، والثّقة بالله، وفضيلة العلم الذي  أحبت لابنها أن يبلغ فيه مبلغًا وباعًا ليس بالهيّن، ومكانةً مرموقةً بين الأذكياء، والحفاظ بإتقانٍ.

ـ ولد الشافعيّ في غزة سنة 150 هـ، أي في نفس السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-، وعاش فيها سنتين حتى توفي والده، وتركه مع أمّه التي رفضت الزواج بعد أبيه قائلة: "يا بنيّ، مات أبوك وإننا فقراء، وليس لنا مالٍ، وإني لن أتزوج من أجلك، وقد نذرتك للعلم، لعلّ الله أن يجمع بك شمل هذه الأمة"، فانتقلت أمُّه به إلى اليمن؛ لأنها كانت من الأزد أكبرِ بطون اليمن، ومكثت به في اليمن عدّة سنوات، فخافت عليه ضَيعة نسبه الشّريف، فتحوَّلت به إلى مكة، فنشأ بها وترعرع، وأقبل على الرَّمي؛ حتى فاق أهل زمانه في هذا الفنّ، ثم ألقى الله -عزّ وجلّ- في قلبه حبَّ الحديث، والفقه، وذلك من إرادة الله عزّ وجلّ الخير له وللأمّة، فأقبَل على هذا الطريق ينهَل منه بكلِّ سبيلٍ.

وقد ورث الشافعي الذكاء من أمّه، فقد أورد الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- لطيفةً عن أمّ الشافعي في باب شهادة النساء من صحيح البخاري في شرحه العظيم فتح الباري، فقال: "ومن اللطيف ماحكاه الشافعي عن أمّه أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد أن يفرّق بينهما، امتحانًا، فقالت له أمّ الشافعي: ليس لك ذلك؛ لأن الله تعالى قال: أن تضلّ إحدَاهما فتذكّر إحدَاهما الأخرى.

نصائح تبني صروح المجد:

ـ إن نقطة البداية في التربية الصالحة أن يشعر المربي بأهمية التّربية وخطورتها، وخطورة الدّور الذي تتبوؤه، وحين نقول: التّربية، فإنا نعني التّربية بمعناها الواسع، الذي لا يقف عند حد العقوبة، أو الأمر والنهي، كما يتبادر لذهن طائفة من الناس، بل هي معنى أوسع من ذلك، فهي تعني إعداد الولد بكافة جوانب شخصيته: الإيمانية، والجسمية، والنّفسية، والعقلية.

الجوانب الشّخصية المتكاملة أمر له أهمية، وينبغي أن تشعر الأمّ والأب أن لهما دورًا في رعاية هذا الجانب وإعداده، وهو الدور التي وعته أمّ الشافعي، ومارسته باقتدارٍ، جعلها تنتج للأمّة مثل هذه النّوعية من الرجال الأفذاذ، والعلماء الأعلام.

ـ ما فتئت تلك العظيمة تدفع بابنها دفعًا منذ نعومة أظافره، لم يكن لديها مالٌ لترسله إلى الكتّاب، لكن ثقتها بالله كانت قويةً، وحُسْن ظنّها بالله الذي أفاض عليها من لطفه وكرمه، كان ديدنها، فقد أرسلته إلى الكتّاب ليتعلم القراءة والكتابة، ويحفظ القران والتّجويد، لكن المعلّم هناك لم يكن ليأبهَ به، فلا مالَ عنده، كالبقية، ولم يكن في مقدوره دفع مالٍ ثمنَ تعليمِه، فيعود لأمّه حزينًا يجهش بالبكاء، رافضًا العودة إلى ذلك المكان، فترشده بذكائها الذي ورثه عنها إلى خطّةٍ تنجز له ما يريد، دون أن يدفع ثمنًا، وينال من العلم والاهتمام كالذي يناله أصحاب المال، فتقول: يا بنيّ، تحايل على المعلِّم؟، فيجيب: كيف؟ فتقول: إذا وجدت المعلِّم يعلّم أبناء الأغنياء، فاجلس بجوار الغنيّ، واستمع دون أن تشعر المعلِّم بأنك تضيّق عليه، ففعلها الشافعيّ مراتٍ ومراتٍ، يدخل بأدبٍ، فلا يشعر به المعلِّم، ويستمع حتى يتعلَّم جميع ما يقوله معلِّمه ويجيده، ثم إذا قام المعلِّم يجلس الشافعيّ مكانه ويشرح للطّلاب، ثم يأتي إليه الطّلاب، فيقولون: يا شافعيّ، اشرح لنا هذه وكان عمره خمس سنوات فيأتي المعلِّم فينظر إليه، فيجده يعلِّم التلاميذ، فرسخت في ذهن المعلِّم فكرة أن يدعه يتعلم بلا مالٍ، مقابل أن يساعده في تعليم الأولاد، ويتيح له بعض الرّاحة، فعاد الشافعيّ إلى أمّه، يقول: يا أمّاه، تعلّمت الذلّ للعلم، والأدب للمعلِّم.

ـ استمر الشافعيّ يطلب العلم، ويجاهد في سبيل الحظوة به، لكن فقره كان يقف في بعض الأحايين حجرة عثرة في طريقه.

كان الشافعي لا يمتلك المال الذي يشتري به الورق الذي يكتب عليه الأحاديث، وظل يترقب حلًّا لمشكلة أرّقته، فجاءته أمّه، فقصّ عليها، فقالت: لا عليك! فكانت تخرج إلى ديوان الوالي؛ لتجمع له الأوراق التي كُتب على أحد وجهيها، ورميت في سلالٍ، فيأخذه الشافعيّ ليكتب على الوجه الآخر، ولكن الورق لم يكن ليكفيه، فذهب يطلب الصدقة ورقًا، وأخذته أمّه إلى حيث يذبحون الإبل، فتأخذ العظام العريضة لأكتاف الإبل، وتجفّفها له؛ ليكتب عليها!

ـ حين بلغ الشافعي الثّالثة عشر من عمره، كان قد أتقن من العلوم: القرآن، والتّجويد، والحديث، والتّفسير، ثم سمع الليث بن سعد يقول: إن من أسباب فرقة الأمة اختلافها على اللغة، حيث كانت الكلمة الواحدة تفهم بمعانٍ مختلفة، فيختلفون في تفسيرها، ولو استقاموا على فهم اللغة لاجتمعوا، فمن استطاع أن يجيد التّفسير، والحديث، واللغة، يجمع الله به النّاس، ولا توجد اللغة إلا في الصحراء في قبيلة هُذَيل.

فركب الشافعي لهم، وعاد مرةً أخرى إلى أمّه يطلب النّجدة، ويستقي الحِكمة، ويبحث عن ضالته فيها، فقالت: يا بنيّ، تذهب إلى هُذَيل، ثم ذهبت به إلى الصّحراء ليعيش فيها أربع سنوات مع قبيلة هُذيل، ثم قالت له: يا بنيّ، إنك ستبقى هنا سنوات، وإني أخشى عليك أن تسأم، وكذلك أوصيك بالرّياضة؛ حتى لا تختلف عن أقرانك، فذهب الشّافعيّ وكان همّه في أمرين: الرّمي، وتعلّم العلم، فحفظ عشرة آلاف بيت من الشّعر، وكان يصيب الأهداف في الرمي، وألف كتاب "رياضة الرمي".

ويعود إلى أمّه، فتقول له: لا تجلس للفتوى الآن، إن أفتيت الآن صرت طَرَفًا أي: ستكون داخل الصراع الدائر- فعليك أن تتعلم كل العلم، ثم تنظر بعد ذلك بشموليةٍ، فتفتي فتوى صحيحة.

تصدّر الشافعي للفتيا وعمره  18 سنة، وكان مشهورًا بتواضعه، وخضوعه للحق، يشهد له بذلك أقرانه، وتلاميذه، والنّاس، وبلغ غاية في السّخاء جعلته علمًا عليه.

كانت أمّه تقول له كلّ يومٍ من أيامه: يا بنيّ، لا تحمل همّ المال، سنرزق، ولكن احكِ لي ما تعلمته اليوم!

ـ وذات يوم أوقفت أمّ الإمام الشافعيّ ابنها بين يديها، وقالت له: "أي بنيّ، عاهدني على الصدق، فعاهدها الشافعي أن يكون الصّدق له في الحياة مسلكًا ومنهاجًا".

وذات يومٍ خرج الشافعي في أحد أسفاره ضمن قافلةٍ، وإذا بقطّاع الطرق قد خرجوا عليها يريدون من فيها، فسألوا كل واحدٍ منها عما معهم من مالٍ ومتاعٍ، فأنكروا أن يكون معهم شيءٌ، وعندما حان دور سؤالِ الشافعيّ، قال لهم: إنّ معي مالًا، ثم أخرجه من جُعبته، فتعجب قائد اللصوص من مسلكه وفعله، وقال له: أيها الفتى، ما الذي حملك على فعلك، فقد كنت من الممكن أن تنجو بمالك؟ فقال له الشافعيّ: لقد عاهدت أمي على الصّدق، ووفاءً لعهدها صدقتكم القول، والحديث.

فقال قائد اللصوص متعجبًا: أمّك غائبة، وتحفظ عهدها! ثم أعلن توبته، وقال له: إن عهد الله أولى بالوفاء، وأمر من معه برد ما نهبوه من القافلة إلى أهلها.

ـ وهكذا أثمرت التربية الحسنة قوةً في الرأي، وثباتًا في الحق، وصلابةً في الشدة، فأخرجت الشافعيّ فتىً شابًا يافعًا، يحفظ العهد والوفاء لأمّه -حاضرةً وغائبة-، ويترجم بمسلكه عن صلاح التربية في الصغر، فكانت مثلًا وعنوانًا للإنسان في الكبر.

ولا غرابة في ذلك فإن أمّ الشافعي هي التي مرّنته على التربية وآدابها، كما وهبته للعِلم ودروسه، فقد كانت تعيش في مكّة، وأرسلت الشافعي ليتلقى العلم ودروسه بين يدي إمام دار الهجرة مالك بن أنس في المدينة، وعلى بعد الشُّقّة بين مكة والمدينة أقبل الشافعيّ ذات يوم على زيارة أمّه، وعندما طرق الباب عليها، قالت له: من أنت؟

فقال لها: محمّد بن إدريس. ثمّ قالت له: وبم جئتني؟

فقال لها: جئتك بالعلم، والأدب.

فقالت له: لست الشافعيّ.

فحار في أمره، ثم عاد إلى أستاذه ومعلّمه في دار الهجرة، وقصّ عليه أمره، فتبسم الإمام مالك، وقال له: يا شافعيّ، ارجع إلى أمّك، واطرق الباب عليها، فإذا ما سألتك: من أنت؟ فقل لها: محمّد بن إدريس. فإذا ما قالت لك: وبم جئت؟

فقل لها: جئت بالأدب، والعلم. ففعل ذلك، فقالت له الأمّ: الآن يا شافعيّ.

ولعلنا نلحظ هنا أن الأمّ قد ردّت الشافعي إلى أستاذه ليقينها أنه لم يدرك الهدف والغاية؛ إذ قدّم لها في المرة الأولى العلم على الأدب، فردته إلى شيخه ليحسن ويتيقن الهدف من العلم وطلبه، وهو: الأدب، والتربية؛ من أجل ذلك قال الإمام الشافعي: تعلمت من مالكٍ الأدبَ أضعافَ ما تعلّمت العلم.

ــ يقرِّر الشافعي أن يذهب إلى الإمام مالك، وترهن أمّه البيت الذي لا يملكون سواه؛ ليعيش الشافعيّ إلى جواره، وينفق من رهن البيت فترة تسع سنوات -من سن 20 سنة إلى سن 29 سنة-، فيستوعب علم الإمام مالك، وقد حفظ الشافعيّ الموطأ في تسع ليالٍ، وقرأه على الإمام مالك بن أنس، فأعجبته قراءته، ولازمه، ثم رحل إلى اليمن، والعراق، ومصر، واشتهر بحسن سيرته، وذكائه وفطنته، ونَشَر الحديث ومذهبَ أهلِه، وشاع ذِكرُه وفضلُه، وقَصَدَه الناس.

ـ يعتبر الإمام الشافعيُّ من أكثر علماء الأمة تأثيرًا في الحياة العلمية، فالشافعيّ هو الإمام الوحيد الذي نشر مذهبه بنفسه، فلقد طاف البلاد والأقاليم، فلقد ولد بفلسطين، ثم انتقل إلى اليمن، وترعرع في مكة، وبها تعلّم وتفقّه، ثم ذهب إلى المدينة، وسمع من علمائها وشيوخها، ثم عمل بالقضاء في اليمن، ثم دخل العراق أيام محنته مع هارون الرّشيد، ثم عاد إلى اليمن، ومنه إلى العراق مرة أخرى، ثم دخل مصر، ومكث بها فترةً، ثم عاد إلى العراق لفترةٍ وجيزةٍ، ثم عاد مرةً أخرى إلى مصر، واستقرّ بها حتى وفاته، وخلال هذه الرحلات العلمية كان الشافعيُّ يصنِّف التصانيف، ويدوِّن العلوم، ويرد على الأئمة والكبار، متّبعًا الأثر، فبعُدَ صِيتُه، وتكاثر عليه الطَّلبة، وبورك له في تلاميذه، فلم يُعلَم أحدٌ من الأئمة له تلاميذُ نجباءُ أفذاذٌ مثلَ الشافعيّ، الذي كان معلِّمه الأول، ومُلهمه، ومُوجّهه الذي أخذ بناصيته إلى سلّم المجد حتى تبوّأ القمّة، فتربّع عليها بلا منازعٍ إلى اليوم الحاضر، فغفر الله للشافعيّ، وأجزل لأمّه الصالحة المثوبة الكبرى على ما قدّمته من تربيةٍ، وإرشادٍ لولدها النجيب.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة