هل استوقفتك بعض أسئلة أبنائك يومًا عن الجنَّة والنَّار؟ مَنْ هم الملائكة؟ كيف هم الجنِّ؟ ما الذي يكون عليه الميِّت في القبر؟ كثيرةٌ هي الأسئلة مِن مثل هذا النوع التي أقرأها في أعين أبنائي حين أحكي لهم عن تفاصيل الغيب التي يجب الإيمان بها، أسئلة بريئةٌ تبحث عن جوابٍ مشابهٍ لعالَم المشاهدة الذي يرونه ويسمعونه ويعايشونه. والحقُّ أنَّ مثل هذه الأسئلةِ تؤسِّس لعقيدةٍ يقوم عليها دين هذا النشء، ولا يجوز بحالٍ إغفالها، أو القفز عليها. 

   الغيب كلُّ ما غاب عن حسِّ الإنسان، وعجز عن إدراكه بعقله البشريِّ، وعَلِمَه بالخبر اليقين عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال أبو العالية: "يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنَّته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث، فهذا غيبٌ كلُّهُ"([i]).

  الإيمان بالغيب ركنٌ من أركان الإيمان، وركيزةٌ كبرى تقوم عليها العقيدة، وهو مزية يتميز بها المؤمن عن غيره، إذ وهب قلبه للتسليم بالخبر الصادق الذي جاء به الوحي فيما يخصُّ الحديث عن الله تعالى، وعن صفاته وأفعاله، وعن الملائكة، والجنِّ، والدَّار الآخرة، وغيرها من الحقائق التي لا سبيل لإدراكها إلا بالإيمان بالغيب.

أهمية تثبيت الإيمان بالغيب لدى الأبناء:

   ولـمَّا كنَّا في زمنٍ يموج بالفتن، ويعجُّ بنقضِ الثوابت؛ كان لزامًا على الوالدين تثبيت اليقين في نفوس أبنائهم، والتأكيد على المسلَّمات التي غدت في تصوُّر فئامٍ من الناس ومناقشاتهم من المتغيِّرات، وتبرز أهمية تثبيت الإيمان بالغيب لدى الأبناء في:

1.   تكوين شخصية المسلم: فالإيمان بالغيب إِنْ لم يُتعاهد في بداياتِ تنشئة الأبناء بتثبيتِهِ، وتصحيح التصورات عنه؛ أدَّى إلى انحرافاتٍ في المستقبل طريقها الزَّيغ والضَّلال، قال تعالى: "ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيبَ فِيهَ هُدًى للمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيبِ ويُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"([ii]).

2.   الاقتداء بنهج الأنبياء والمصلحين: قال تعالى قاصًّا تفقُّد يعقوب عليه السلام عقيدة أبنائه وهو في سكرات الموت: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنۢ بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"([iii]).

3.      التنشئة على أصلٍ من أصول الإيمان: من جملة ما يكون به النجاة يوم القيامة، ولو لِمْ يكن من مقاصد تربية أبنائنا إلا أن ننجوَ وإياهم يوم لقاء المولى تعالى؛ لكفى به مقصدًا وغايةً، قال تعالى: "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ".([iv]).

الممارسات العملية لغرس مفهوم الغيب لدى الأبناء:   

1.      تعليم الأبناء الكليَّات وأصول الإيمان بالغيب: نحن في هذه المرحلة نؤسِّس لعقيدةٍ الهدف منها أن يصمد أبناؤنا أمام الشبهات، ومن المهمِّ أن تكون خطواتنا في هذا التعليم متسلسلة مرتبة حتى يعيها الطفل ويتجاوب معها، فنبدأ بتعريفه بوجود الله تعالى، وأنَّه في السماء، ونعلِّمه بعض أسمائه وصفاته، ثم نعلِّمه أركان الإيمان الستة، مبسِّطين له مفاهيمها، مقرِّبين له آثارها، مؤكِّدين على أنَّ الغيب لا يعلمه أحدٌ إلا الله تعالى، هذا المعنى نجده جليًّا في سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم الجارية: أيْنَ اللَّهُ؟ قالَتْ: في السَّمَاءِ، قالَ: مَن أنَا؟ قالَتْ: أنْتَ رَسولُ اللهِ، فقالَ رسول الله: أعْتِقْهَا، فإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ".([v])

2.      تقريب المعنى بتشبيه الغيبيات بأمور محسوسة: وممَّا يعين: ضرب الأمثال، وتعليم الأبناء بطريقة عملية بأن نجعلهم ينظرون إلى السماء والأرض مثلًا ثم نخبرهم بقدرة الله تعالى على خلقهما وتدبير أمرهما، أو نقصُّ عليهم نعيم الجنَّة بعد رحلةٍ استمتعنا معهم فيها بصنوف الطعام والشراب، هذا التقريب ولو كان مختلفًا قليلاً عن الواقع؛ إلا أنه أفضل من ترك الطفل يشطُّ بخياله بعيدًا عن الواقع.

3.      الإجابة عن تساؤلاتهم ببساطة وبطريقة يفهمونها، وعدم استغفالهم بالإجابات الساذجة، أو غير الصحيحة، فإنهم يتقبلون الإجابات البسيطة المناسبة لعقولهم، لذا "يجب على الوالدين تهيئة النفس والاستعداد لتلقي كل أنواع الأسئلة التي قد لا تَرِد على الخاطر، فكثيرٌ من الأطفال يسألون: أين الله؟ وللأسف الشديد ومن باب الجهل أو عدم القدرة على صياغة الإجابة يلجأ الوالدان إلى إجابة غير صحيحة، تؤدي إلى خلل في العقيدة، فتكون إجابتهم: الله في كل مكان، ويقصدان من هذا الردّ تسهيل وتبسيط الإجابة"([vi])، لذلك يجب أن ننتبه إلى أجوبتنا لأنها بذرة العقيدة في نفوس أطفالنا.

4.   استخدام الأسلوب القصصي: تلعب القصص دورا كبيرا في تكوين الفكر عند الطفل، وتعزيز العقيدة لديه، وفي القصص القرآني والنبوي غنية للوالدين في تناول الغيبيِّات بما يناسب عقولهم، فقصة سجود الملائكة لآدم ورفض إبليس على سبيل المثال تعزِّز إيمان الأطفال بالملائكة وعالم الجنَّ، وحديث القرآن عن الجنَّة والنار، يدعِّم إيمانهم باليوم الآخر، القصة وسيلة تربوية أثبتت فاعليتها في كثيرٍ من مناحي التربية.

 

الآثار التي نجنيها من تثبيت مفهوم الغيب لدى الأبناء:

-      تعديل سلوك الأبناء: فالحديث مع الطفل عن اليوم الآخر مثلًا وما فيه من ثواب وعقاب، يحفِّزه للمسارعة لأعمال البرِّ، ويدفعه إلى الهروب من القبائح وما يُقَرِّب إليها، وعند التحدث معهم عن الملائكة، وأنهم عبادٌ أنقياء أتقياء مخلصون، يفعلون ما يؤمرون، يحاول الطفل التشبه بهم، فينشأ محبا للطاعة، مبغضا للمعصية([vii])، وهذا مدخلٌ لطيفٌ يفيد منه الوالدان في تعديل سلوك أبنائهم، وتوجيههم للتصرُّف الأمثل لفعل الخيرِ.

-      إحياء خلق المراقبة في قلوب الأبناء، فإذا تربَّى الطفل على أن الله تعالى يحيطه بعلمه، يراه ويسمعه؛ يشعر أنه مراقب متابع، وإذا تعزَّز إيمانه بالملائكة وأنَّ منهم مَن يُسجِّل أقواله وأعماله، ويحتسب عليه لفتاته ونظراته، يستقيم قلبه على مراقبة الله تعالى.

-      الأمان والاطمئنان النفسي: وهنا يبزر دور الوالدين في توظيف الإيمان بالغيب في بثِّ الاطمئنان والأمان، بأن يُعرَّف الطفل بألّا يخاف من أحدٍ؛ ما دام أنَّ الحافظ له من كلِّ مكروهٍ اللهُ تعالى، ولا يخشى من شياطين الإنس أو الجنِّ؛ لأنه يعلم أنَّ ملائكة الله تعالى تدافع عنه، وتحفظه، وتحميه بأمره سبحانه، هذا التوظيف العملي لهذه المعاني هو المطلوب من الوالدين أن يتفنَّنا في عرضه، وتقريبه لأذهان أبنائهم.

-        الحديث عن الغيب بالطريقة التي تناسب الطفل تقيهِ أن يُعْمل خياله في أمورٍ لا يمكن له تصوُّرها، وهذا يُريحه حال التفكير في قضايا الغيب التي لا يستوعبها عقله، وهذا عينُ ما ِأشار به صلى الله عليه وسلم على من أتاه الشيطان مثيرًا عنده تساؤلاتٍ مؤدَّاها التشكيك في الغيب، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ النَّاسُ يَتساءَلونَ حتى يُقالَ: هذا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، فمَن خلَقَ اللهَ؟ فمَن وجَدَ من ذلك شيئًا، فلْيَقُلْ: آمَنتُ باللهِ، قال: فإذا قالوا ذلك، فقُولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌاللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ثُمَّ لْيَتْفُلْ عن يَسارِه ثلاثًا، ولْيَستَعِذْ من الشَّيطانِ.([viii])

ضوابط وتنبيهات:

    في سياق الحديث عن الغيب مع الأطفال من المهمِّ التأكيد على بعض الضوابط والتنبيهات:

1.   أن يُعرِّف الوالدان الأطفال أنَّ بعض الغيبيَّات لا يمكن للعقل أن يتصوَّرها؛ لعجزه عن إدراكها بشكل كامل، وأنَّ كُلَّ ما عليهم فعله تجاهها؛ التوقُّف عن التفكير فيها، والإيمان بها.

2.   أن يراعي الوالدان الطريقة التي يتكلمون بها عند مخاطبة أبنائهم، بأن يراعوا حداثة سنِّهِم، وطريقة تفكيرهم، فتكون كلماتهم قصيرة ومركزة، ويناسب الخطاب عقولهم، ويقترب من تصوراتهم، ويصلح لأن يبني التصُّور السليم لديهم.

3.   الحذر من أن يكون خطاب الوالدين معقَّدا، مليئا بالتخويف والترهيب، مشتملا على أوامر التكليف والإلزام، جافًّا في محتواه، صعبا عليهم فهمه، وإدراك كنهه. فإنَّ هذه الطريقة في العرض تشتِّت الطفل بين ما يجب الإيمان به، وما يجب أن يفعله حتى لا يلجأ والداه إلى تعنيفه أو ضربه.

4.   التوازن بين الترهيب والترغيب عندما نشرح لأبنائنا الأمور التي تخصُّ العقاب والثواب، والجنة والنار، فلا نبالغ في وصف النار وأهوالها، ولا يقتصر خطابنا على وصف الجنة ونعيهما.

5.   لا لتعنيف الطفل عند السؤال عن الأمور الغيبية، بل يجب تقبل أسئلته برحابة صدرٍ، ومن الجميل أن يجيب الوالدان عن السؤال إن كانا يعلمانه، أو يؤجلا الإجابة للبحث عن المعلومة الصحيحة من مصادرها الموثوقة.

6.   الحذر أن يكون مصادر الأبناء في التعرف على الغيب مواقع التواصل، أو الكتب الفكرية التي لا تؤمن إلا بما يمكن اختباره بالحسِّ، الوالدان الحاذقان هما مَن يكونان مصدر المعلومة الموثوقة التي يتلقَّاها الأبناء من خلال جوٍّ عائليٍ مريحٍ، يتمُّ التحدث فيه مع الأطفال عن الأمور الغيبية، ومناقشة ما يدور في عقولهم من أفكار.

   الآباء الكرام: الإيمان أهمُّ قضية يجب أن تغرس في نفوس الأبناء وأعظمُها، وهو الأساس لأيِّ بناءٍ، والبناء بدون أساس ٍكمنزل يريد أن ينقضَّ؛ يوشك أن يقع في أوَّل لحظة، جميلٌ أن نعتني بمهاراتهم وتحصيلهم ومعارفهم، لكنَّ إهمال تعليم العقيدة منذ الصغر تقصيرٌ في حقهم وأيُّ تقصيرٍ، تقصيرٌ يجعلهم حال كبرهم لا يستطيعون مواجهة الأفكار والشبهات التي تفتنهم عن دينهم، قال ابن القيم –رحمه الله-: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى؛ فقد أساء غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه؛ فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً"([ix]).

   وأشير في ختام المقالة إلى ثلاثة مصادر تساعد الوالدين في الإجابة عن تساؤلات الأبناء حول مفهوم الغيب، وتصلح أن تكون مادة لجلوسهم مع أبنائهم، وتعليمهم، كما يمكن تدارسها معهم في المجالس العائلية والأسرية، المصادر روعي فيها سلاسة العبارات، وتناسبها مع مستويات الأبناء، وتقديمها ما لا يسع جهله في بابا الإيمان، هذه المصادر هي: ما لا يسع أطفال المسلمين جهله، ليزن الغانم، سبل السلام فيما لا ينبغي للمسلم جهله من العقيدة والسير والآداب والأحكام، مقرر العقيدة من إصدارات مركز عيد الثقافي، ويمكن تحميلها من الرابط https://drive.google.com/drive/folders/1O4I5lmmQAK68rldX-O2csi0w2Wp8eEEb?usp=share_link

 



([i]) تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 1/36

([ii]) سورة البقرة: آية (2-3)

([iii]) سورة البقرة: آية 133

([iv]) سورة الْأَنْعَامِ: آية 31

([v]) رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي، رقم(537)

([vi]) غرس العقيدة في نفوس الأبناء مقال على إسلام ويب

([vii]) ينظر: خالد روشه: أثر الإيمان بالملائكة في تربية الطفل، مقال على موقع المسلم almoslim.net

([viii]) أخرجه أبو داود، من حديث أبي هريرة، رقم (4722)

([ix]) ابن القيم: تحفة المودود بأحكام المولود، ص80

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة