قد يتجنب
الجراح الحاذق إجراء عملية نسبة نجاحها ضئيلة خوفًا على سمعته المهنية..
ولكنه حين
يعود إلى الوراء عندما كان شابًا في بداية حياته، وكيف كان لتأخير قراراته الحاسمة
أثرًا في تعاسته في هذه الحياة..
عندها يتمسك
بإجراء الجراحة على الرغم من النسبة العالية للألم..
ومن ثم،
فإنه يغرس مشرطه في جسده ويقطع ما ابتلاه الله به من مرض..
يفعل ذلك
مستعينًا بالله إذ "لا حول ولا قوة إلا بالله"..
نعم ..
ليس كل ما
يُعلم يقال، وليس كل ما يُقال يُقال في كل وقت...
في بعض
الأوقات يكون الصمت هو الواجب، بينما في أوقات أخرى يكون الكلام هو الواجب؟!
ومن خلال
التوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام تتكون الرؤية الواعية كما ينطبق الواقع على
المرآة بلا اختلاف.
قلائد الوعيّ
تحمل إلينا أحداث الحياة
في أعناقها قلائد الوعيّ، فهل انتفعنا بها؟، وتسير بنا خطى الزمن بلا صوت، فهل
أصغينا لتلك الخطي لنسمع عبرتها؟
هل تساءلنا يومًا: لماذا
تقصر ذراع وعينا عن قياس سعة زماننا؟
وهل أدركنا يومًا: أننا
حروف في كتاب الزمن، فحاولنا أن نقرأ ما كتبناه فيه؟
تضيع من الإنسان فرصة سماع
الحكمة حين لا يحسن الإصغاء إلى خطي الأيام، ويفقد قدرته على استخلاص العبرة حين
لا يقرأ قصته في كتاب الزمن، ويبقي في خُسر حين يزيغ بصره عن دوره في الحياة،
والكرامة التي رفعه إليها ربه ومولاه..
فاسمع ـ يا صديقي ـ أكثر
مما تتكلم، وكن فخورًا إن قُلت: لا أعلم
فمن كثر كلامه ذُلَ وزَل،
ومن أفتى بغير علم ضل وأضل.
إن أعداءنا يمارسون عملهم
بمكر الثعلب، وتلون الحرباء..
يعلنون أن هدفهم تغيير
الحدود، بينما الهدف تغيير الإنسان..
يعرضون صور هدمهم لما
أنشأنا من أبنية، بينما عيونهم على هدم ما نشأنا عليه من قيم..
يشيعون أنهم يريدون بضعة
أميال من الأرض، بينما هم يريدون بضعة سنتيمترات في عقل كل منّا..
يظهرون أنهم يريدون إخضاع
الدول، بينما هدفهم ألا يخضع أحد لشريعة الله..
وهذا يؤكد إن شجرة
رسالتك لا وادي لها إلا وادي العلم، ولا جبل ترتفع إليه هامتها إلا جبل الوعي..
فلا تهرب من مواجهة
مسؤوليتك، ولا تستوحش من طول الطريق، ولا تتراجع عن رسالتك..
استعن بالله ولا تعجز
.. لا تعجز عن تصور أبعاد أمانة الرسالة التي تحملها .. واطرح علي نفسك السؤال وراء السؤال ليزيد إدراكك ووعيك،
وليتضح لك تصورك عنها يوماً بعد يوم ..
سفينة الرسالة
يظن أنه قادر على فهم
طلاسم الحياة، وحل ألغازها الغامضة.. ثم إذا به يواجه أحداثًا تبقيه حائرًا،
وتبكيه دموعًا ساخنة ربما يخالطها الدم؟!! وهنا.. يعلم ما جهله، ويعيّ ما غفل
عنه..
أنا أعلم أنك تحمل في سفينة رسالتك ماء الشريعة يروي
ظمأك وظمأ كل الراكبين، ولكن احذر يا بُنيّ أن يتسلل إلي سفينتك فأر صغير، فيقضمها،
فإذا قطرات رسالتك العذبة قد تاهت في جوف مياه الباطل المالحة المرّة ..!!
لقد وضعت رحلك بعد طول
السفر في غابة للذئاب الجائعة.. وأنا أشفق عليك كما أشفق على نفسي!!
في الزمن البعيد ظن "مسيلمة
الكذاب "أن تلاعبه بالألفاظ يحول باطله إلى حق عند من يسمعونه..!!
واليوم.. يحاول كل مسيلمة
أن يقوّض خيام الحق بكلماته.. ويسعى كل كذاب أن نصدّقه؛ فننسي ما أحببناه وقبلناه
أسلوب حياة..
وما جرّأ كل هؤلاء إلا
أنهم رأوا هلال الحق قد نحل، وظنوا أنّا لم نعد نرى ألاعيبهم لأن قمر حقنا غير
مضيء؟!!
هل تظن أن كاذبًا من أولئك
يستجيب طلبنا إن قلنا له: من فضلك أعطنا فرصة لنمشي في حرية ولن نضايقك؟!!
إن الذي يحدد كرامتك ويحقق
وجودك هو أن تعرف أين مكانك اليوم، لتدرك ـ بتوفيق الله ـ أين أنت غدًا؟!!
ولا سبيل إلى معرفة اليوم
إلا أن ترد طارق الأفكار الكاذبة الذي لا تثق بصدقه وطهارة مقصده ..
إن ما تراه اليوم من أوراق
جافة زابلة يعرضها عليك الكاذبون ويزعمون لك أنه أوراق رسالتك ليست من رسالتك في
شيء.. إنها من زبالة أذهانهم هم، ولم يروها يومًا ماء الشريعة الطاهر المحمل بالعدالة
ومكارم الأخلاق، ليخرج البشرية من متاهات الظلم إلى جنات العدالة والقيم..
يا صديقي..
هذه كلماتي أحاول أن أعلو بها معك إلي نجوم الحق لتهديك
في ظلمات الباطل، وأصعد بها معك إلي قمة جبل الوعي لنطل منه معاً علي ملامح سبيل
المجرمين الذين لا يقدر على مواجهة باطلهم ألا ..
فقهاء لا خطباء
فقهاء: يخططون لأعمالهم آخذين
في اعتبارهم الاستهداء بنور القرآن والسنة دون إهمال الأسباب المادية، حتى لا تسقط
ثمرات أعمالهم قبل نضجها.
فقهاء: يدركون أن القوة ليست
بالحماس والانفعال، وإنما بالسعي الدائب للوصول إلي الهدف، والتخطيط لذلك، وضبط
النفس أمام التحديات الخارجية التي تحاول الانحراف بهم عن حطتهم من خلال الضغوط
التي تمارسها ضدهم لإخراجهم عن توازنهم ..
فقهاء: يحاولون الوصول إلى أهدافهم
بتوازن يحكم إحجامهم كما يحكم إقدامهم، فهم لا يستسلمون لزهو البطولة الانفعالي
الذي يدفع الإنسان إلى اتخاذ المواقف من خلال سياسة اللحظة السريعة، وليس من خلال
سياسة النَفَسِ الطويل"(1).
فقهاء: يدركون ما في أيديهم فلا
تختلط عندهم "الأمنيات" بـ "الإمكانيات"، وهم يبذلون الجهد
لتحسين إمكانياتهم، والحفاظ على طاقاتهم من الإهدار.
فقهاء: يوقنون أن القيادة
الحقيقية هي قيادة القلوب وليس قيادة الأبدان .. قيادة الرضا وليست قيادة الضغط ..
قيادة التسليم وليست قيادة الإرهاب.
أولئك هم
القادة الحقيقيون، وليس "الخطباء" الذين يظنون أن حل الأزمات يكون
بالخطب والصراخ متناسين أن من يزرع الأقوال لا يحصد إلا الأوهام"(2)!!
ولكي نستطيع تربية "فقهاء" الوعيّ فنحن
في أمس الحاجة إلى تغيير "المحور" الذي يتنافس عليه أبناء الأمة من محور
المال والترف، إلى محور العلم والعقيدة، فيكون تنافس الأفراد في العلم والعمل
الصالح، ويكون تسابقهم نحو تزكية النفس، فيدرك كل إنسان أن أرض الجهالة القاحلة لا
يخصبها إلا العلم.. وأن وحشة الطريق لا يقطعها إلا ..
·
وعي لا يُخْدع
لن تجد طريق الحق حتى تعرف
ربك، و تعرف نفسك، ثم تكتسب وعيًا لا يُخدع بما يدور في واقعك.. فتسأل نفسك هل أنا
أحمل رسالة إلى الآخرين؟ أم أنا في موقع "المتلقي" لرسالة الآخرين؟..
وما هي تلك الرسالة؟..
وتدرك أنك تملك رسالة ينقذ
الله بها البشرية من بحر الشقاء إلى ساحل السعادة، ومن عبادة الأحجار والعبيد إلى
عبادة الله وحده، ومن حمأة الرذيلة إلى قمة الفضيلة.. وأن مبادئ رسالتك تجملها
كلمات ربعي بن عامر عندما دخل على رستم قائد جيش الفرس، فقال له عن المهمة التي
جاءوا من أجلها والرسالة الإنسانية التي يحملونها: "إن الله ابتعثنا لنخرج
العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام،
ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"
لا تكن ذيلًا وتابعًا لهذا
أو ذاك، وإنما تأمل ما يعرضه عليك الآخر، وكن حذرًا ممن يحاولون أن تكون ورقة في
دفتر أهوائهم يخطون فيها ما يشاءون من الضلال والعمى..
واعلم أن تضييق دائرة
الثقة القريبة، وتجويد معاييرها، وفرزها ونقل من لا يستحق البقاء فيها إلى دائرة
أقل حميمية من أهم ما يعينك على خوض الحياة والتعامل مع تحدياتها.
نعم .. كثرة العلاقات والصلات مهمة جدًا، طالما هي في دائرة
العلاقات والصلات، أما تضخم دائرة الصداقة والثقة فهو خلل في جغرافية حياتك.
إذا لم تبق يقظًا واعيًا
تراجع خطواتك؛ ذهبت بك قدماك بعيدًا عن رسالتك، فإذا حاولت الرجوع إليها بعد رحلة
التيه فلربما وجدت يد السرقة قد أخذتها منك لتترك لك مسخًا مشوهًا لا يشبه رسالتك
من قريب ولا بعيد..!!
فجر جديد
على عاتق الأمل وحسن الظن ـ يا رفيق الغربة ـ أتكئ
الآن، لا على عاتق الأسباب، ولا على عاتق الواقع..؟!!
منذ غاب طيفك الجميل عنّي، أبحث في أمسي ويومي
والغد بحسن الظن عن بارقة ربيع تؤجل خريف الأيام..
وأبني بحسن الظن واقعًا جميلًا على جناح الأمل..
وأصغي إلى رياح الخير تحمل لي خبر عودتك من فم طيب يهمس لي أو صوت جهوري يصرخ
ليوقظني..
يا رفيق الغربة ..
لا تحزن ولا تنزعج، فأقدارنا على مقاسنا سعة
وضيقًا.. أقدارنا ملابسنا التي خيطت من
أيام حياتنا، ومن اختياراتنا في تلك الأيام.. لن يكون ما أنت فيه إلا عثرة يجبر
ربنا فيها عظام وعينا الكسير. ثم ما يلبث جرحنا أن يندمل لنقف على أقدامنا بلا عرج
ونواصل سيرنا على الدرب الطويل..
يا رفيق الغربة ..
اعذرني إن سرحت الكلمات من فمي، وتاهت خواطري في
مجاهل نفسي.. اعذرني إن وجدت نقصًا في يقظتي للذئاب، أو سقوطًا في وعيّ بمواطن
الخطر ووحوش الغاب.. اعذرني إن لم تجد لديّ ثوب اليقظة الدائمة الذي يقيك الوحوش
التي لا تنام..
واعلم أنك الوحيد الذي تستطيع نسج هذا الثوب، فكل
نسيج لا يأتي من وعيك أنت لن يكون مناسبًا، ولسوف يأكله البلى..
يا رفيق الغربة..
في وادي الأيام تلاقينا، وتجمعت حبات أفكارنا حتى
جعل منها الرحمن بمنته جبلًا منيعًا.. كان دعاؤنا الدائم أن يكتب الله له البقاء..
وكان عملنا الدائم هو إقامة السدود في وجه الفيضانات التي تهدده بالذوبان..
نعم.. قد يكون العجز قد أصابنا في بعض الأيام،
ولكنا لم نيأس من المحاولة ولم نغلق الأبواب والنوافذ ونقول إن كل ما حولنا ظلام
دامس..
يا رفيق الغربة..
مثلما تتوق كلماتي هذه أن تعبر إليك حيث أنت، أتوق
أنا قبلها أن أقبل بين عينيك.. وهكذا سأبقي أستجدي كل لحظة من لحظات اليوم خبرًا
عنك.. خبرًا يخطه القدر على أوراق ربيع
البشرى بفجر جديد، وصباح لا ليل بعده..
يا
صديقي..
إن حركة قدميك علي
تراب تلك الحياة، لا بد لها من حركة لوعيك وبصيرتك، فاجعل حركة وعيك تسبق خطو قدمك
لتحملك تلك الأقدام من مكانك من الوعي إلي مكان أعلي، ومن هناك ستري ما يرفع وعيك،
وينير بصيرتك .. وفي نور البصيرة يتبدد القلق وتموت الحيرة ..
طريقنا يبدأ من هنا..
إن
الحكمة وقوة البصيرة هي تراكم معرفي طويل الأمد ومراجعة دؤوبة لصفحات التاريخ نرفع
من خلالها أعلام وعينا بما يدور حولنا، ونحاول مع كل من قعد به قصور وعيه.. نحاول
مع أنفسنا ومع كل من حولنا لبعث الوعي قبل السعي..
الهوامش
1- خدمة الصدام
المتعجل – مقال للمؤلف بمجلة ( البيان ) العدد 43.
2- لمحات في فن القيادة – ج .
كورتوا –تعريب الهيثم الأيوبي ص 61.
إضافة تعليق