يعيب فئامًا من المربين ومعلِّمي القرآن أن بين يديهم طاقاتٍ معطَّلة لم تستغلَّ، ولو توجَّه التوجيه السديد، أو توظَّف التوظيف الأمثل، والآسف من ذلك أن بين يديهم طاقاتٍ لا يعلمون عنها شيئًا، فلا يعرفون من الطالب إلا اسمه،
يعيب فئامًا من المربين
ومعلِّمي القرآن أن بين يديهم طاقاتٍ معطَّلة لم تستغلَّ، ولو توجَّه التوجيه
السديد، أو توظَّف التوظيف الأمثل، والآسف من ذلك أن بين يديهم طاقاتٍ لا يعلمون
عنها شيئًا، فلا يعرفون من الطالب إلا اسمه، ولا من تواجده في الحلقة إلا هيئته
ورسمه، وذلك معيبٌ مِنْ مربٍّ أو معلِّم يسعى أن يكون له ورثةٌ من بعده يخلفونه
علمًا ونصحًا وتوجيهًا، ويبقون له من الباقيات الصالحات.
لقد أحسن ﷺ توظيف
كل طاقة في محلِّها، بحجم ما تملك من مُقدّرات، وما يتاح لها من موارد وإمكانات،
لم يستكثر ﷺ على
أحدٍ من أصحابه مهمَّةً، ولم ير واحدًا منهم دون المأمول في تحقيق أيِّ إنجاز،
يفرح بإيكال المهامِّ إليهم، ويعينهم ويوجِّههم، ويردفهم بالرأي والمشورة والدعاء،
والمتابعة والسؤال، ثم الثناء على الإنجاز، هكذا ينبغي أن تدار المواهب والطاقات
بين يديك أخي معلم القرآن.
بعث رسول الله ﷺ مصعبَ
بن عمير مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى إلى المدينة يُفَقّه
أهلها ويقرئهم القرآن، في بدايات تنزُّله في ثقة مطلقةٍ جعلت من مصعب سفير الإسلام
الأول، واستخلف ﷺ معاذ بن جبل رضي الله عنه على أهل مكة حين خرج إلى حنين، وأمره
أن يعلّم الناس القرآن، وأن يفقّهَهم في الدين (الحاكم والبيهقي)، وبعث
أبا موسى الأشعري إلى اليمن، ثم أتبعه بمعاذ بن جبل يعلّمان الناس القرآن، ويقضيان
بينهم، ولمَّا قدم وفد ثقيف إلى المدينة مسلمين فيهم عثمان بن أبي العاص وكان
أصغرهم، فجاء إلى النبي ﷺ قبلَهم فأسلم،
وأقرأه قرآنًا ولزِمَ أبيَّ بن كعب؛ فكان يقرئه؛ فلمَّا أراد وفدُ ثقيفِ الانصرافَ
إلى الطائف قالوا: يا رسول الله أمّر علينا؛ فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص،
وقال: "إنه كيّسٌ، وقد أخذ من القرآن صدرا" (طبقات ابن سعد)
ولمَّا رأى رسول الله ﷺ إتقان
أُبيّ بن كعب للقرآن الكريم وتميزه على إخوانه من الصحابة؛ وظَّف ذلك في مهمَّة
أسندت له رضي الله عنه هي التي يعبر عنها الفقهاء بالفتح على الإمام إذا أخطأ، فقد
صلى ﷺ صلاة فلُبِّس عليه، فلما انصرف قال لأبيّ: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال فما
منعك؟ أي ما منعك أن تفتح عليّ إذ رأيتني لقد لُبِّس عليَّ؟ (أبو
داود).
ويمتدُّ بُعْد معلم
القرآن ونظره للمآلات المستقبلية لمن يدرسون الآن على يديه؛ فربَّما خرج من بينهم
مَنْ يصلح لمهمة التعليم فيخلفه بخيرٍ، يأتي معاذ إلى النبي ﷺ، يطلب من رسول الله ﷺ
أن يُقْرِأَه القرآن، فيقول رسول الله لعبد الله بن مسعود: «أقرئه»، قال ابن
مسعود: فأقرأته ما كان معي" (ابن أبي شيبة)، وقد
كان ابن مسعود معلّما من المعلمين على عهد رسول الله ﷺ، بل ومدرسة من مدارس
الإقراء التي انتهت إليها أسانيد القراءة، وحبر مدرسة الكوفة لقَّنها إتقان
القرآن، وعلَّمها إملاءه عن ظهر قلب.
ألا ترى أخي
معلِّم القرآن في طلبه ﷺ أن يعرض القراءة على أبيّ بن كعب حين قال له: إن ربي
أمرني أن أعرض عليك القرآن" (البخاري ومسلم) ألا تراها بذرة
من بذور استكشاف موهبةٍ جعلت من أبيٍّ مقرئًا لعموم المسلمين سنين عددًا بعد وفاته
ﷺ.
وهل
العدد الذي انتشر في أصقاع الأرض بعد وفاته ﷺ يعلِّم
ويُقرئ القرآن من صحابته رضوان الله عليهم جاء من فراغ، لقد كانت حركة دؤوبةً منه ﷺ في
التعليم، والفاعلية، واستثمار الطاقات والمواهب، ظهر أثرها لاحقًا، يكفيك أن تطالع
في ذلك فاعلية واحدٍ من مخرجات المدرسة القرآنية المحمّديَة وعطاءه في تعليم
القرآن، قال سويد بن عبد العزيز: "كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع
دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرةً عشرةً، وعلى كل عشرةٍ عرِّيفا،
ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم
رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك، وعن ابن مشكم قال: "قال لي أبو الدرداء:
اُعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفًا وستمائة ونيفا، وكان لكل عشرة منهم
مقرىءٌ" (معرفة
القراء الكبار(ص 20)
إنَّ الأولى بمعلم القرآن
ألا يستثني في توظيف الطاقات طالبًا دون طالب، ولا فئةً دون فئة، ولتكن نظرته لمن
يتلقى بين يديه نظرة فيه رَوِيَّةٌ وبُعْدُ نظرٍ، فربَّ حُسْن توظيفٍ لطاقةٍ فتح
على المستقبل خيرًا كثيرا، ونفعًا عظيمًا ما كان لِيُدْرك؛ لو لم يحسن المعلم ذلك
التوظيف لتلك الطاقة في مكانها، إنه ﷺ لم يستأثر في التعليم وإقراء القرآن أصحابه
من الرجال فقط، بل وظَّف عليه الصلاة والسلام حتى النساء بقدر المتاح لهنَّ وقتًا
وعملاً، في مسند أحمد أن أم ورقة رضي الله عنها جمعت القرآن، وكان النبي ﷺ قد
أمرها أن تؤمَّ أهل دارها.
إننا أحيانا بقصدٍ أو
دون قصدٍ نُغْفِل طاقات مَن تحت أيدينا؛ تذرُّعًا بضيق الوقت تارةً، أو خوفا من
إخفاقِهمْ تارة أخرى، أو انكفاءً على فئةٍ من المتميزين يريحوننا في أداء المهام
على الوجه المطلوب، ولو أردنا حقًّا أن نربي تربية فاعلة ممتدٌّ أثرها لَصَدَقْنَا
أنفسنا القول: إنَّ في طلابنا طاقاتٍ يجدر أن توجَّه التوجيه الأمثل، وخير بوابة
لذلك التوجيه: حلقات القرآن، وخير من يقود توظيف تلك الطاقات: معلم القرآن.
ختامًا: معلِّم القرآن
ننظر إليك نظرة إكبارٍ، ولا يزال لك في أعناقنا دَينٌ لا ندري متى نوفيك إياه؛
لصبرك ومصابرتك على تعليم هؤلاء الفتية، إلا أنَّا ننشد منك أن تأخذ بقلوبهم إلى
الله تعالى، قبل أن توقفهم على نطق الآيات؛ أوقفهم على وضع الخطوات فيما يرضي ربَّ
الأرض والسماوات، قبل أن تلتفت إلى إتقانهم -وهو خير ولا شكَ- التفت إلى إتقان
قلوبهم منازل الآخرة، ومراتب الإيمان، لئلا تخبو جذوة اليقين في قلوبهم في زمنٍ ضج
بالشهوات، وما من عاصم إلا حبل الله المتين.
أعانك المولى على رسالتك العظيمة ألا يخبو فيها بريقك، ولا تنطفأ معها جذوتك، فإن الأبصار ترنو إليك، وتعلِّق آمالها بك، وإن لم يصلك من صوتنا إلا رجع صدًى؛ لإيثار كثيرٍ المتابعة والتشجيع في صمتٍ، فلا يفتُّ ذلك من عضدك، ولا يبطِّئ من سَيرِكَ، فأنت على ثغرٍ قال عنه ﷺ: "لا يزالُ اللَّهُ يغرسُ في هذا الدِّينِ غرسًا يستعملُهم في طاعتِه" (ابن ماجه)، ثغر نراك شامةً فيه، ونرجو الرحمن أن تكون من القائمين عليه، فاثبت ثبَّتك الله بما يثبِّت به أولياءه المصلحين.
إضافة تعليق