حين يتوجه الحديث إلى معلِّمي القرآن الكريم فإنا نتحدث عمَّن عُقِدت فيهم الخيرية بتعليمهم كلام الله تعالى، وكفى بذلك شرفًا وفخرًا إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه" (البخاري).
حين يتوجه
الحديث إلى معلِّمي القرآن الكريم فإنا نتحدث عمَّن عُقِدت فيهم الخيرية بتعليمهم
كلام الله تعالى، وكفى بذلك شرفًا وفخرًا إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم
من تعلَّم القرآن وعلَّمه" (البخاري).
ومما
لا شكَّ فيه
أنَّ مهمة تعليم الناشئة القرآنَ الكريم ليست مهمة عادية -وإن بدت للناس كذلك-؛ لإنها
ترتبط بسلوكٍ عمليٍّ يراد أن تتمحور عليه حياة المتعلِّم، سلوكٍ نتاجه المنشود
والمتوقَّع أخبرت به عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم بقولها: "كان
خلقه القرآن" (مسلم).
المتأمِّل في
تعليم النبي ﷺ أصحابه القرآن الكريم يراه معِّلمًا أحسنَ التعليم، وأعظمه بركة،
وأكثره أثراً في قلوبهم ونفوسهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ} آل عمران(164)، إنه
تعليمٌ يعلِّم الإيمان قبل القرآن، ويُقيم الحدود قبل الحروف، هكذا يُراد أن يكون
متعلِّم القرآن، عن جندب بن عبد الله البجلي قال: «كنا مع النبي ﷺ ونحن فتيان
حزاورة، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به
إيمانا» (البخاري في التاريخ الكبير وابن ماجه).
وحتى يكون هذا
التعليم أعظم نفعا، وأكثر أثرًا؛ يجدر بمعلِّم القرآن أن يمتلك جملةً من المهارات
التربوية التي لا تقف به عند دوره المهنيِّ فقط في إدارة الحلقة، والتسميع للطلاب،
وتصحيح تلاوتهم، وإنما مهارات تقرِّبه أن يكون حقيقةً مربِّيًا بالقرآن؛ وإنَّما
يكبر المعلِّم في أداء رسالته، ويعظم في نفوس طلابه حين يكون كذلك.
في هذه المقالة أسلِّط الضوء على ثلاث مهاراتٍ تربوية أراها أكثر التصاقا بمعلم القرآن، ولا يعني إغفال غيرها؛ عدم أهميَّتها، وإنما لأنها أكثر التصاقا بميدان التربية، وأعظم أثرا في التربية بالقرآن، وقد حرصت على أن يكون لها شواهد من تعليمه ﷺ صحابته رضي الله عنهم، تتناول المقالة مهارات: المعايشة، والتحفيز، وتوظيف الطاقات.
المهارة الأولى: المعايشة:
المعايشة هي المصاحبة والمصادقة في
تفاصيل الحياة، أفراحها وأتراحها، سرَّائها وضرَّائها، هذه المعايشة في حقِّ معلم القرآن
من آكد المهارات، وإن صحَّ إلزام المعلم بمهارة؛ فالمعايشة في حقه أوجب الواجبات، إذ
إنَّه يعالج بالمعايشة ما لا يعالجه بغيرها، وتختصر عليه مسافاتٍ من الزمن في
الإصلاح، وتقويم السلوك، وربط طلابه بالقرآن الكريم.
أيُّ تأثيرٍ تنشده من معلّمٍ للقرآن لا يَعْلم عن طالبه سوى حدود جلسته معه
في الحلقة، لا يُلقي بالًا لمشاكله وهمومه، ولا يبني علاقات إيجابية مع والده
وأصدقائه، الحزن والفرح عنده سواء، والهدايا والرَّزايا كلها سيَّان، يستوي عنده
أحمد ومحمد وعبد الله وووو.... فكلهم ليسوا ضمن دائرة معايشته لقضاياهم، تُعشعش
الهموم على رأس المتعلِّم أيامًا ينتظر التفاتة حانية من معلِّمه، أو سؤالًا يبدي
من خلاله مشاعره، أو يدًا تربِّت على كتفه لتنفض عنه أثقال تلك الهموم، لكن لا
حياة لمن تنادي.
معاشر المعلِّمين والمحفِّظين: ألم يكنِ النبي ﷺ إلا مدرسة في تفقد أصحابه، ومعايشة أحوالهم؟! كان ﷺ كهف همومهم؛ فَأَوَوا إليه، وقبلة مشاكلهم ومشاعرهم؛
فولَّوها شطره، يسمع ﷺ قرقرة بطن
أبي هريرة بالجوع قبل أن تقرقر؛ لأنه قرأ ذلك في ملامحه، يلاطف الصغير، ويسأل
الكبير، يجبر الكسير، ويتفقَّد الغائب، ويشير على الأخرق والعاجز، يوجِّه الهمم،
ويدفع بالعزائم، بل بلغت المعايشة ذروتها أَنْ
قاسم ﷺ المشاعر حملةً للقرآن غادروا الحياة ولم يعلموا عن تلك المشاعر شيئًا، ها
هو ﷺ يقنت شهرًا حين غُدر بسبعين من قراء أصحابه، من رعل وذكوان وعصية وبني لحيان،
في مواساةٍ ما بعدها مواساة، وعرفانٍ بالجميل، وحزنٍ على هؤلاء الغرِّ الأطهار،
حملة القرآن الساهرين على درسه وتعليمه، تلاميذ أول مدرسة قرآنية
في الإسلام رعاها ونشَّأَهَا، إنك لن تجد هذه المعايشة في أرقى جامعات الأخلاق
وأعرقها، لن تجدها إلا في مدرسته ﷺ. وهل
هذا كله إلا تربية بالمعايشة؟! فالزموها معاشر المعلِّمين، فبها:
·
الارتقاء
بإيمان المتعلِّم: يقول ابن عمر رضي
الله عنه: «عشنا برهة من دهرنا وإنَّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتَنزَّل
السورة على محمد ﷺ فيتعلَّم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها». (الحاكم والبيهقي).
·
تقويم
اعوجاج القيم: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسولُ اللهِ ﷺ يُشغَلُ، فإذا
قَدِمَ رَجُلٌ مُهاجِرٌ على رسولِ اللهِ ﷺ دَفَعَه إلى رَجُلٍ منّا يُعلِّمُه
القُرآنَ، فدَفَعَ إليَّ رسولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا، فكان معي في البَيتِ أُعشِّيه
عَشاءَ أهلِ البَيتِ، فكنتُ أُقرِئُه القُرآنَ، فانصرَفَ انصِرافةً إلى أهلِه،
فرَأى أنَّ عليه حَقًّا، فأهدى إليَّ قَوسًا لم أرَ أجوَدَ منها عُودًا، ولا
أحسَنَ منها عِطْفًا، فأتَيتُ رسولَ اللهِ ﷺ فقُلْتُ: ما تَرى يا رسولَ اللهِ،
فيها؟ قال: جَمرةٌ بيْنَ كَتِفَيكَ تَقلَّدتَها -أو تَعلَّقتَها". (أبو
داود)
·
تصحيح الممارسات
والسلوك: اعتكف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ في المسجد، فسمعَهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبَّةٍ له، فكشف
السِّترَ وقال: ألا إنَّ كلَّكم مُناجٍ ربَّه، فلا يُؤذِينَّ بعضُكم بعضًا، ولا
يرفعَنَّ بعضُكم على بعضٍ بالقراءةِ. (أحمد والنسائي).
·
تعزيز صحبة
المتعلِّم للقرآن: من خلال إبراز القدوة العملية للمعلِّم،
وهذا له عظيم الأثر على المتعلِّمين، عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده - رضي الله
عنه -قال: "ما من المُفصل سورة صغيرة ولا كبيرة، إلا وقد سمِعت رسول الله ﷺ
يؤمُّ الناس بها في الصلاة المكتوبة" (أبو
داود).
هذه
القدوة المتمثِّلة في صحبة القرآن وملازمته إنما تبرز في المواقف غير المفتعلة، وتأتي
على سجيَّة المعلِّم فيراها المتعلم طبعا في معلّمه، قد ربَّى نفسه عليها، وأخذ بعزائم
الأمور في الديمومة على تلك الصحبة، مِمَّا يكون له عظيم الأثر على نفس المتعلِّم
ومعايشته للقرآن الكريم.
هذا رسول الله ﷺ كان يأتي صحابته كل ليلة بعد
العشاء فيحدثهم، فلما كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتيهم فيه، سألوه؛
لمّا استبطؤوه، فقال: "إنه طرأ عليَّ حزبي من القرآن، فكرهتُ أن أخرج حتى أتمَّهُ". (أحمد وابن
أبي شيبة، وأبو داود).
ومن
وصايا ابن مسعود رضي الله عنه الذي يعدُّ مدرسة القرآن بالكوفة، أحاطها
بالعمل بالقرآن والسهر عليه، كان يقول لطلابه: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف
بليله، إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون،
وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه
إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حكيماً حليماً،
عليماً سكيتاً". (حلية الأولياء للأصبهاني1/130)، هو
ذاته ابن مسعودٍ الذي يصفه أخوه عبيد الله بأنه كان إذا هدأت العيون، وسكن الليل، وأرخى
سدوله، انتصب قائماً بالقرآن، فكان له دويٌّ كدويِّ النحل. (المعرفة
والتاريخ للفسوي 21/494)
إضافة تعليق