"المشغول لا يُشغَل" هي قاعدة فقهية معروفة( )؛ وهي تعني أنَّ الشيء إذا اشتُغل بأمر لا يُشغل بغيره حتى يفرغ من هذا المشغول به؛ فالدار المُؤجَّرة لا تؤجَّر حتى تفرغ المدة المُتَّفَق على تأجيرها، ولا تُشغل بآخَر حتى يفرغ الحق عنها.
"المشغول لا يُشغَل" هي قاعدة فقهية معروفة([1])؛ وهي تعني أنَّ الشيء إذا اشتُغل
بأمر لا يُشغل بغيره حتى يفرغ من هذا المشغول به؛ فالدار المُؤجَّرة لا تؤجَّر حتى
تفرغ المدة المُتَّفَق على تأجيرها، ولا تُشغل بآخَر حتى يفرغ الحق عنها.
ذكَّرَتني تلك القاعدة
بما يحدُث في بيوت بعض المُرَبِّين والدُّعاة من إهمالٍ في تربية أبنائهم على حساب
تربية آخرين في المساجد والمحاضن التربوية! وقياسًا على تلك القاعدة فإنَّ
المُرَبِّي "المشغول" بتربية أبنائه "لا يُشغل" بتربية غيرهم حتى يُعطي النصيب الأكبر لمَن سيُسأل عنهم -وهم أبناؤه-، ولا
يكون كالذي اشتغل بالمفضول عن الفاضل.
فريضة تربية الولد:
يقول الله U:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ([2])؛ فهذا تكليفٌ رَبَّانيٌّ يُفيد
فرضية تربية الأبناء وبَذْل كل وسائل هداية "الإرشاد والدلالة"؛ اللازمة لتأديبهم والسعي لوضعهم على الطريق المستقيم.
كما امتدح الله U تطبيق تلك الفريضة في القرآن؛
فقال في حق سيدنا إسماعيل u: ﱣﱞ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ([3])؛ يقول السعدي ~ في تفسير هذه الآية: «كان مُقيمًا لأمر الله على أهله؛
فيأمرهم بالصلاة المُتضمِّنة للإخلاص للمعبود، وبالزكاة المُتضمِّنة للإحسان إلى
العبيد؛ فكمَّل نفسه وكمَّل غيره، وخصوصًا أَخَصّ الناس عنده، وهُم أهله»([4])، وعطفًا على ذلك الأمر فقد حَرِصَ
النبيُّ r على فِعل ما أثنى به الله سبحانه
على سيدنا إسماعيل u؛ استجابةً لقوله U:وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهاﱢ([5]). وقد وضَّح النبيُّ r ذلك الحُكمَ في قوله: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ،
وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ؛ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»([6]).
ومن تلك الآيات الواضحات
في أوامرها، ومن هذا الحديث الجلي في التوجيه وتحميل المسئولية؛ يتبيَّن فرضية
تربية الأبناء في الإسلام، وإبطال ادِّعاء مَن يقول بأنها فضيلة أو عمل مُسْتَحَب؛
وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية ~: «فَمَن أَهْمَلَ تَعْلِيمَ وَلَده مَا
يَنْفَعُه وَتَرَكَه سُدًى؛ فقد أسَاءَ إليه غايةَ الإساءَة. وَأكْثر الأولاد إِنَّمَا
جَاءَ فسادُهم من قِبَل الآبَاء، وإهمالهم لَهُم، وَترك تعليمهم فَرَائضَ الدِّين وسُننه؛
فأضاعوهم صِغَارًا؛ فَلم يَنتَفِعوا بِأنفسهم، وَلم يَنفَعُوا آبَاءَهُم كِبَارًا»([7]).
استقالة مرفوضة:
أَذْكُر في يومٍ كلَّمني
أحدُ الآباء "الملتزمين" لمُتابَعة وَلَده في المسجد، وكان يريد مني مُتابعةً مُحْكَمَةً
لولده بعد التحفيظ، وبسبب انشغاله قال لي نصًّا: "اعتبِر أنه يتيم الأب"! ما زالت تلك العبارة تتردد في أذني رغم مرور السنين
عليها؛ فالأب قدَّم في تلك العبارة "استقالته" ضمنيًّا من تربية ولده، وأراد
التهرُّب من فَرْضٍ لا يصلح أن ينوب عنه أحدٌ في أدائه! هذا الموقف هو مثال صارخ
لقلب الأولويات والاهتمام بالمفضول عن الفاضل، حتى ولو كان المفضول عملًا دُنْيَوِيًّا
كوظيفة أو تجارة، أو أُخْرَوِيًّا كدعوة الناس وتعليمهم؛ أليس الأَوْلى ترميم شروخ
بيتك أولًا قبل ترميم شروخ بيوت الآخرين!
إنَّ مثل تلك
الاستقالات التربوية مرفوضة قبل تقديمها؛ لأنها ليست من حق طالبها أصلًا، ولا توجد
أعذار -مَهْمَا بلَغَت قسوتها أو ضرورتها- تسوِّغ لأحد تقديم مثل تلك الاستقالات،
لا سيَّما مَن كان يعمل في الدعوة إلى الله U ومشغولًا بدعوة الناس على حساب
تربية أبنائه.
فتربية الأبناء مسئولية
الوالدَيْن بالشراكة، حتى لو ساعدهما بعض المُرَبِّين أو الدُّعاة في توجيه
أبنائهم؛ فسيظل مجهود هذا الداعية أو المُرَبِّي مُكمِّلًا، ولا يرقى لجهد الوالدَيْن
المطلوب منهما، فالعلاقة بين الأب وولده كأُحْجِيَة لعبة الـ(puzzle)؛ كل قطعةٍ فيه لا تتوافق إلا مع قطعةٍ واحدةٍ فقط صُنعَت لتكمِّلها.
نُؤتَى من الداخل:
في بداية الصحوة
الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات؛ ظَنَّ -بل تيقَّن- البعضُ أنَّ زواج أصحاب
الفكرة الإسلامية سيُوَسِّع القـاعدة العددية للتيار الإسـلامي، بسبب الثـمرة التي
خَرَجَتْ من بيتٍ إسلاميٍّ تَحُوطه الضـوابط الشرعية من جميع الجهات، ولكـن -للأسف-
وَجَدْنا أننا نُؤتَى من الداخل، وأنَّ القاعدة العددية تتآكل بدلًا من توسُّعها؛
بسبب إهمال التربية داخل البيوت المُتَبَنِّية للفكرة الإسلامية، فتلك المشكلة
تطلب منَّا درجةً كبيرةً من الوعي بالتربية واجتناب الإهمال في تربية أبنائنا؛
لإيقاف النزيف الداخلي في بيوتنا. وقد تكلَّمتُ باستفاضة في ذلك الأمر في كتابي "أبناء الملتزمين" -لمَن أراد الرجوع إليه-.
ولكن في ذلك العُنْصُر
أَوَدُّ تحذير الداعية -والمُرَبِّي خاصةً- من انشغاله بالمفضول (المُسْتَحَب) عن
الفاضل (الفرض)، وتحذيره من الاهتمام بالمَدْعُوّين في المحاضن التربوية على حساب
أبنائه الذين من صُلْبه، وتحذيره من ترك النزيف التربوي داخل بيته دون تضميد أو تسكين
أو مُعالَجة.
ونحن هنا لا نطالب
الداعية أو المُرَبِّي بترك العمل الدعوي بالكلية، ولكن نطالبه بالتوازن بين
التربية الدعوية والتربية الأُسَرية، وإيلاء التربية الأُسَرية اهتمامه إذا احتاج
الأمر؛ لأنها فريضة وسيُحاسَب عليها أمام الله U يوم القيامة.
الالتزام لا يُوَرَّث:
التديُّن ليس صفةً
فطريةً وراثيةً يَرِثُها الولدُ بمجرد مَجيئه للدنيا من أبٍ وأُمٍّ مُلتزِمَيْن،
وإنما هو صفة مُكتسَبة ، فلا بُدَّ من بذل جهد الإرشاد والدلالة معه حتى يسلك طريق
الهداية؛ كما قال أبو حامد الغزالي ~: «والصبي أمانة عند والدَيْه، وقلبه الطاهر جوهرة نَفيسَة سَاذِجة خالية عن كل
نَقْش وصورة، وهو قابل لكُل ما نُقِش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخير
وعُلِّمَه؛ نَشَأَ عليه وسَعِدَ في الدُّنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكلُّ مُعلِّم
له ومُؤدِّب، وإن عُوِّد الشرَّ وأُهمِل إهمالَ البهائم؛ شَقِيَ وهَلَكَ، وكان الوِزْر
في رَقَبة القَيِّم عليه والوالي له»([8]).
فأُكـذُوبة تـوريث الالتزام كـانت سـببًا في إهمال الـدُّعاة تربية أبنـائهم، بـل كـانت -أحيانًا- مُسكِّنات للضمير كلَّما قرَّعَه على تفريطه في حق أبنائه، فأبناء الدُّعاة والمُرَبِّين مثلهم مثل الأطفال الموجودين في المحاضن التربوية يحتاجون إلى الاهتمام والمُتابَعة؛ لضمان وصولهم إلى بَرِّ الأمان. كما أنَّ اهتمامك بأولادك هو ضمان تحقيق حديث النبي r: «فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا؛ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»([9])، فبدلًا من بحثك في المناطق البعيدة عن ذلك الرَّجُل، ابحث عنه في أبنائك وذُرِّيتهم، وانظر تحت قدمَيْك للثواب الأقرب والأَوْلى، واضرب عُصْفُورَيْن بحَجَرٍ واحدٍ.
([4]) عبد الرحمن بن ناصر السعدي. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام
المنان. تحقيق: عبد الرحمن اللويحق. مؤسسة الرسالة، بيروت. ط1، 1420هـ. ص 496.
([6]) رواه البخاري. باب: الجمعة في القرى والمدن. حديث رقم (893).
ومسلم. باب: فضيلة الإمام العادل. حديث رقم (1829).
إضافة تعليق