المربي.. وواجبات الوقت في رمضان
إن من نعمة الله على عباده أن يدركوا شهر رمضان العظيم عامًا بعد عام، وكل عام يتقربون إلى الله تعالى بصنوف العبادات، ويصوغ الصيام نفوسهم على التقوى، متعرضين لنفحات الله تعالى راجين المغفرة والرحمة والعتق من النار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وتعد أيام شهر رمضان من أحسن أوقات التطبيق العملي لكثير من جوانب التربية التي سبق وقمنا بتلقينها للأبناء، ففي رمضان يتسع الميدان لأداء عبادات كثيرة مجتمعة على المستوى الشخصي مثل الصيام وقراءة القرآن والذكر، وكذلك على المستوى الجماعي التفاعلي مثل صلاة الجماعة في المسجد وصلة الأرحام وتعاهد الفقراء والمساكين بالصدقات وتوزيع زكاة الفطر وغير ذلك. وليس ثمت ما يعكر صفو هذا الجو الإيماني الرائع سوى عودة «النضر بن الحارث» كل عام!
النضر بن الحارث والميراث البغيض:
كان ولا يزال الإلهاء عن الحق وسيلة من وسائل الصد عن سبيل الله، وها نحن نرى الآلة الإعلامية الفاسدة قد ورثت عن «النضر بن الحارث» فكره وأدواته أيضًا، فما زالت تعمل وتنفق الأموال وتتزيى بزي الثقافة والوعي حينًا أو الترفيه وتخفيف وطأة الصيام حينًا آخر؛ كل ذلك والهدف الحقيقي هو تفريغ هذه الشعيرة الزمانية العظيمة من محتواها الإيماني العميق، وتحويل الشهر العظيم من موسم زاخر بالعبادات إلى أكبر موسم يروج فيه أهل الباطل (الفن) لبضاعتهم، وهو الأمر الذي يختزل معنى تعظيم الشهر الكريم في أذهان الكثيرين في صورة انفعالات عاطفية، وأداء للعبادات فقط!
وهذا الرجل نزل فيه قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْـحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ 6 وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: ٦، ٧]. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، وذلك أنه كان يخرج تاجرًا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها، ويحدث بها قريشًا ويقول لهم: إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم، وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية.
إذن هناك - ومنذ البدايات الأولى للإسلام وإلى يومنا هذا - من لديه الاستعداد والهمة لأن يبذل جهدًا كبيرًا وينفق أموالًا طائلة ليصد الناس عن هذا الدين العظيم، أو يصرفهم عن عبادتهم، وهكذا يتواطأ أهل الباطل بهذا المنهج، وهو شغل الناس بلهو الحديث، وخاصة في فترات زيادة الإيمان ومواسم العبادة، فالخطة قديمة حديثة.. فماذا نحن فاعلون؟
عزيزي المربي ..
للمربي في شهر رمضان العظيم عمل يختص به من قبيل «واجب الوقت»؛ تأصيلًا للخير في نفوس أبنائه، ومواجهةً لجند الباطل الموجَّهين إليهم، الذين يعملون جاهدين ليفسدوا عليهم شهرهم. ولا ينبغي أن يتخاذل عن القيام بهذا الواجب في نفسه وأهله ومن ولّاه الله عليهم من الأبناء أو الطلبة؛ حتى ينجو بهم من هذه الشراك المنصوبة.
ويقوم هذا العمل التربوي على مرتكزات واضحة، من أهمها:
- تربية الأبناء على تعظيم شعائر الله تعالى:
قال عز وجل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ومعنى {شَعَائِرَ اللَّهِ}: المعالم الظاهرة من دينه، التي جعل الله تبارك وتعالى بعضها مكانيًّا، مثل مكة والمدينة، وجعل بعضها زمانيًّا، ومن ذلك الأشهر الحرم وشهر رمضان، فإن الله قد فضله وشرفه كما قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى} [البقرة: 185]. وتعظيم الشعائر لا يكون بالإقبال على الطاعات والاستزادة منها فقط، ولكن بتجنب ما حرم الله تعالى في هذه الأوقات والأماكن لأنها تختص بالعبادات أكثر من غيرها؛ ولذلك يكون ارتكاب المعصية فيها أشد قبحًا وأعظم وزرًا من ارتكابها في غيرها من الأوقات والأماكن، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: «إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء» (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 2/422، ورواه الحاكم في معرفة علوم الحديث).
- تقديم القدوة الصالحة المنضبطة للأبناء:
ليس فقط في أداء العبادات ولكن في مقاطعة المنكرات الإعلامية وغيرها؛ حيث إن امتثال الوالدين للقدوة الصالحة المنضبطة في احترام شرف الزمان في رمضان وتعظيم شعائر الله تعالى فيه يعد من أكبر أسباب انضباط الأبناء وهدايتهم، وذلك لأنهم يتشربون القيم الصالحة عبر تصرفات الوالدين التي يلاحظونها بعيون دائمة الترقب والملاحظة، وكلما كان المربي هو المثال الحي المرتقي في درجات الكمال فإنه يثير في نفس المتربي قدرًا كبيرًا من الإعجاب والتقدير والمحبة، ومن ثم يتطلع إلى محاكاته والاقتداء به، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله حتى يحتل درجة الكمال التي رآها متمثلة فيه.
إن القوة التربوية الهائلة في القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل العالية ترجع إلى أنها تعطي المتربي قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة التي في متناول القدرات الإنسانية؛ فشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
- تقويم أفكار الأبناء:
إن تصحيح أفكار الأبناء وبناء نظرة سليمة لديهم تجاه كل ما من شأنه أن يخدش حرمات الشهر الكريم؛ يجعل إعراضهم عن هذه المنكرات أيسر وبغضهم لأهلها أقوى في قلوبهم، كما أن تأسيس الفكر السليم تجاه الفساد يسهل استغناء الأبناء عن مشاهدته، ويجعلهم يستعلون على مقاصده الفاسدة؛ أما إجبارهم على عدم المشاهدة دون توضيح الأسباب فغالبًا لا يأتي بنتيجة حقيقية، وتظل هذه البرامج بزخرفها وبهرجتها كالحلوى المعلقة في السقف ينتظرون أول فرصة سانحة ليتلقفوها في غفلة من الوالدين!
وشأن الشاشات أن تكون تحت إدارة الوالدين ورقابتهم وبذلك تتحول من معول هدم إلى وسيلة من الوسائل الإيجابية في التربية، خاصة فيما يخدم الجانب المعرفي والثقافي للأبناء.
- تربية الأبناء على معاني الصبر والثبات:
الاستقامة على شرع الله تعالى أمرًا ونهيًا يلزمها الكثير من الصبر، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: «فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الأذى، وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر. ولا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن به ويتنعم به ويتغذى به وهو اليقين» (مجموع الفتاوى: 28/253، نقلًا عن: عبدالعزيز ناصر الجليل: وقفات في ضوء سورة العصر: ج/5، ص: 212)، وأن الله تعالى يضاعف الأجر لمن ثابر على العبادة واجتناب المنكرات في زمن الغربة أكثر ممن يجد أعوانًا على الخير، فعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليـه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم» (أخرجه ابن نصر في كتـاب السنـة، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة المجلد الأول حديث رقم 494).
- ربط الأبناء بالمساجد:
المربي كما يعمل على إضعاف صلة الأبناء بوسائل الإعلام الفاسدة التي أقحمت نفسها وأثرت سلبًا في عملية التربية، لا بد أن يعمل في الجهة المقابلة على ربط أبنائه بالمساجد وحِلق الذكر. إن المسجد عندما يأخذ مكانه الطبيعي الذي بُني من أجله وأراده الله له يصبح من أعظم المؤثرات التربوية في نفوس الناشئين فيه، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ 36 رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، وفيه يرى الأبناء الراشدين مجتمعين على طاعة الله، فينمو في نفوسهم التصور الصحيح للمجتمع المسلم، والاعتزاز بالجماعة المسلمة، فاصطحاب الأبناء إلى المسجد سنة نبوية، وأسلوب تربوي أصيل لتنشئة الطفل على الاعتزاز بالدين وحب المساجد وتعظيم الصلاة والتعود عليها، ويتأكد ذلك كله في شهر رمضان، حيث تتاح فيه عبادات أخرى غير الصلوات المفروضة، مثل صلاة القيام كل ليلة، والاعتكاف في العشر الأواخر (عبدالله قاسم الوشلي: المسجد وأثره في تربية الأجيال، ص: 30).
وأخيراً، عزيزي المربي!
إن التحدي الذي تواجهه الآن هو أن تكون الأقرب لأبنائك والأقوى تأثيرًا فيهم، ولترتكز تربيتك لهم على مراقبة الله تعالى وتغذية مشاعرهم وقلوبهم بمشاعر الحب والتعظيم لمولاهم وخالقهم وإبراز نعمه عليهم؛ فهذه التربية الإيمانية هي أكبر عاصم لهم من الجرأة على المعاصي، وهي التي تبني بداخلهم الرقابة الذاتية التي تقودهم للسلوك المنضبط في كل الأحوال في رمضان وبعد رمضان إن شاء الله تعالى.
إضافة تعليق