الثقافة.. طبقة اللاوعي التي توجه سلوك الفرد، وأسلوب الحياة الذي ينتظم المجتمع، حيث تتحول الأفكار إلي كلمات، وتتحول الكلمات إلى أفعال، وتتحول الأفعال إلي عادات..
الثقافة.. طبقة اللاوعي التي توجه سلوك الفرد،
وأسلوب الحياة الذي ينتظم المجتمع، حيث تتحول الأفكار إلي كلمات، وتتحول الكلمات
إلى أفعال، وتتحول الأفعال إلي عادات.. ثم تصبح العادات طباعاً، وتتعمق في نفس
الإنسان، حتي تصبح مثل النَفَس، تعمل آلياً؛ فيمارسها الإنسان بلا كلفة مثلما يدق
قلبه..
وثقافة التيه هي ثقافة القطيع التى ترى العلاقة الوحيدة الممكنة بين مخلوقَين هي أن يصدر أحدهما الأوامر، ويقوم الآخر بطاعتها وتنفيذها؛ فتصبح قاعدة الحياة" إذا كنت تملك المطرقة، فكل من تراهم أمامك مسامير..!!".. فكيف نقي أبناءنا "ثقافة التيه"؟
فقه الواقع..
حين تصبح العملية الفكرية هي عملية استنبات
أفكار من أفكار دون عودة إلى الواقع، يدور الفكر في فلكه الخاص، فيعجز عن الإمساك
بالواقع أو التحكم فيه؛ وتفقد عملية التغيير الرؤية الواضحة لـ"كيف" يكون هذا التغيير؟.. ولذلك، فإنه من الضروري أن نحاول كشف الواقع من
خلال المعايشة اليومية لمشكلات
المجتمع، والدخول في كل مفاصل الحياة.. حتى نمتلك القدرة على قراءة
الواقع وكأنه نص في كتاب، نلتفت إلى كل دقائقه، ونحاول فك شفراته، ونقف علي منابعه
ونقاط تشكله.. ونطالعه عن "كثب" وليس عن "كتب"!!
وكما أن قراءة نصوص الكتب تحتاج إلى أدوات مساعدة
مثل القواميس ودوائر المعارف، فإن قراءة الواقع تحتاج إلى أن نلاحظ بعناية، ونقارن
بدقة، ونستنتج بعمق، ونحرر عقولنا وأحاسيسنا من أن نصدق مقولات الآخرين دون أن
نتغلغل فيما يعتقدون، ونلاحظ ما يعملون.. ننظر إلى الصورة من كل أبعادها، ولا ننظر
إلى منطقة "كُثف حولها البريق" حتى تحجب بقية الصورة الحقيقية..
فإذا اضطربت الرؤية في أنظارنا، قمنا بتجميع أجزاء الصورة المبعثرة هنا وهناك، وانتظرنا حتى تكتمل أجزاء الصورة كلها من خلال..
البصيرة والوعي..
أقف كثيراً عند كل آية في كتاب الله تقدم فيها
ذكر أي أمر من الأمور على الإيمان بالله. فالإيمان بالله هو الركيزة الكبرى التي
تنبثق منها الركائز كلها، فإذا تقدم ذكر أمر من الأمور في آية من آيات القرآن على
الإيمان بالله، فذلك له دلالة خاصة يجب الوقوف عندها، لتدبرها، فتدبر معيّ هذا
المثال من سورة يوسف: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فهنا تقدم ذكر البصيرة علي ذكر العقيدة المتضمن
في قوله تعالي: {وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}..
وهذا يعني أنه لا بد مع الإيمان من البصيرة التي تتكون من خلال التفاعل بين عناصر
ثلاثة: النص، والعقل، ونوازل الواقع وأحداثه..
"وقد أشار الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى
إلى هذا المعنى فيما سماه بالاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وقال فيه: إنه اجتهاد
لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة... كما قال فيه: إن
معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله."(1)..
ولا سبيل لمعرفة محله دون دراسة وعلم.. فلا بد
من النزول إلى الواقع، والتزود قبل هذا النزول بآليات فهم هذا الواقع من العلوم؛
لتكون النتيجة درجة عالية من الفقه.. بل لا يستطيع المفتي أن يتمكن من الفتوي إلا
بنوعين من الفهم:
"أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط
علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتي يحيط به علماً..
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم
حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع.
ثم يطبق أحدهما علي الآخر."(2)..
ولا بد في هذا التطبيق من "اعتبار المآل،
والنظر فيما يمكن أن تؤول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد،
والإفتاء والتوجيه، وإدخال ذلك في الحسبان عند الحكم والفتوى.
وإذا كان تحقيق المناط يقتضي معرفة ما هو واقع،
فإن اعتبار المآل يقتضي معرفة ما هو متوقع، أي ما يُنتظر أن يصير واقعاً. ومعرفة
ما هو متوقع لا تأتي إلا من خلال المعرفة الصحيحة والدقيقة بما هو واقع.
ومن هنا فإن معرفة المآل جزء من معرفة الواقع
وثمرة من ثمراتها؛ لأن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين
بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل"(3)
فمن الضروري مراعاة الإمكان، أي تقدير ما يمكن وما لا يمكن، وتقدير حدود الإمكان
فيما هو ممكن، ذلك أن التكليف الشرعي يدور مع القدرة والإمكان وجوداً وعدماً
وقدراً.
لقد عرفت الكثير من الشباب، وصاحبتهم واقتربت منهم، فوجدتهم من أنقي الناس سريرة، وأنصعهم طهراً، وأصفاهم عقيدةً، ورأيت منهم تشميراً إلي الخير، وفراراً إلي الله تعالى.. لكنه الوعي بالواقع ينقصهم، والبصيرة بمفرداته تغيب عنهم.. فكيف يستطيع أولئك التخطيط للمستقبل الذي لا يعدو أن يكون تطويراً للواقع وهم لا يدركون هذا الواقع إلا من خلال..
التفكير الذريّ..
في السبعينات من القرن الفائت يسّر الله لي مطالعة
كتاب الأستاذ مالك بن نبي "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".. ولأنه
هزني بالفعل، فقد أعدت قراءته أكثر من مرة.. وبعد أن استوعبت الفكرة، بدأت صور
الصراع تتوارد على ذهني، سواء فيما أراه أو فيما أقرأه مما يجرى في الواقع.. ثم تبين لي أن
الموضوع أشمل بكثير مما عرضه المؤلف، وأن الظواهر والأحداث التى تمر بالعالم ليست
كالفاكهة المعلبة المختومة بإحكام، بل هي تؤثر تأثيراً فورياً – سلباً أو إيجاباً
– في كل المجتمعات.. وأنه لكي يكون الإنسان قادراً "علي استيعاب روح الزمان والمكان، فإنه لا ينبغي أن يشغل نفسه بالأحداث
الصغيرة الجارية إلا بالقدر الذي يؤثر علي فهمه لطبائع الأمور الكلية.."(4)؛ فيجمع عناصر القضية التي يحاول فهمها في عملية ذهنية واحدة، ويرتّب
تفاصيلها في سياق واحد.
أمّا الطريقة "الذريّة" في النظر إلي
الأحداث الجارية في الواقع، فإنها تجعل التفكير عاجزاً عن ضم الأحداث في سياق واحد
طبقاً لتسلسلها، فتتحطم وحدة المشكلات العضوية، ويصبح العقل عاجزاً عن صياغة حكم صحيح علي ذلك الواقع، لأن الحكم يفتقر إلى قاعدة
يجب الرجوع إليها، ومقياساً تقاس به الأمور، أي يفترض تركيب مجموعة أفكار وتنسيقها..
ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا إذا "نظرنا للواقعة من خلال شبكة
علاقاتها المنطقية العضوية، فرأيناها نتيجة للواقعة التي قبلها، وعله للتي سوف
تأتي بعدها، وحينئذ يتحدد مركزها في الصراع الفكري."(5)
إن النزعة "الذريّة" هي قفزة البرغوث
من تفصيل إلى تفصيل، بحيث لا تسمح لك أن ترى في مجموعة التفاصيل المعطاة وضعاً
يبرز بالتحديد مشكلة مرحلة من مراحل التغيير.. وبهذه الطريقة سيظل التفصيل مستقلاً
عن الموقف الموضوعي الذي نعيشه، بل يصبح كالحبة التي تضاف إلى مسبحة أحلامنا!!"(6)
ولا شك أن السبب الرئيس للنزعة "الذريّة" هو البعد
عن عرائس الحكمة التي دونها علماء الأمة في كتبهم، والتي توصلوا إليها باتخاذهم
القرآن أنيساً وجليساً على مر الأيام والأعوام نظراً وعملاً، وباستعانتهم على ذلك
بالإطلاع والإحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في آراء السلف المتقدمين
والالتزام بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. تلك الأصول التي تُربى
الفرد على طريقة التفكير العضوية ـ أو الكلية ـ التي تجمع بين الوقائع في تسلسل
وسياق واحد يمكنه من استنباط القانون العام ـ أو المقياس ـ الذي يقيس به الحوادث
الجزئية.
فالإمام الشاطبي –رحمه الله-يقول: "الأدلة المعتبرة هنا
المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد، حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع
من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع - وهذا نوع منه -، فإذا حصل
من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب – وهو شبيه بالتواتر
المعنوي- بل هو كالعلم بشجاعة عليّ ـ رضي الله عنه ـ، وجود حاتم الطائي المستفاد
من كثرة الوقائع المنقولة عنهما"(7)
فهوـ رحمه الله ـ يعرض كيفية اقتناص القطع من جملة أدلة ظنية،
فلم يفتقر في الحكم بشجاعة عليّ ـ رضي الله عنه ـ إلى دليل خاص يـقول بأن عليّ
شجاع.. ولكن باستقراء حوادث كثيرة تتحدث عن مواقف شجاعة لعلي ـ رضي الله عنه ـ."فالعموم
إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغة عموم فقط، بل له طريقة أخرى، وهي استقراء
مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم
المستفاد من الصيغ"(8).
فالشاطبي -رحمه الله- يصف هنا طريق الوصول إلى الأمر الكلي
العام.. إلى القاعدة.. إلى المقياس.. عن طريق تصفح جزئيات المعنى.. ومن وصل إلى
القاعدة الكلية استطاع أن ينّزل على مقتضاها كل الجزئيات التي قد تخالف بظاهرها
هذه القاعدة.
ولقد عالج ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (9) مرض "الذريّة"
في التفكير؛ فروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفراً كانوا جلوساً بباب
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم:
ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فخرج فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان، فقال:" أبهذا أمرتم؟ أو
بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم من قبلكم بمثل هذا،
إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا، والذي نهيتكم عنه
فانتهوا".
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وأكثر ما يكون ذلك لوقوع
المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه".. فالجمع بين أطراف
الأدلة وعدم النظر إليها نظرة جزئية ذرية هو الطريقة الصحيحة في النظر..
وكم من ساعات تمر بسبب نقاش بين طرفين من الناس لوكان عندهم
وضوح في فهم المسألة المتنازع فيها وجمعوا أطرافها وجزئياتها فربما لم يكن للنقاش
مبرر.
وما نقلناه عن عالمين من علماء الأمة، وإن كان يعالج مرض
الذريّة، في جانبه النظري، إلا أن العلم ـ كما يقول الشاطبي ـ إنما يراد لتقع
الأعمال في الواقع على وِفْقه من غير تخلف، سواء كانت الأعمال قلبية أو لسانية أومن
أعمال الجوارح"(10)؛ فكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل
على استحسانه"(11)
ولذلك، فلا بد من إحكام الفهم لهذا الواقع من خلال التأمل في معطيات أحداثه والربط بينها بشكل ينظر إلي تلك الأحداث علي أنها كائنات حية تؤدي دورها من خلال علاقات عضوية تربط بينها..
رصيد التجربة..
في داخل الضباب الذي يلف الواقع يصبح من العسير بمكان أن يشق الإنسان طريقه إلى فهم الحاضر إلا من خبرة الماضي، ذلك أن مجرد الإحساس بالواقع وحده لا يحصل منه وعي، بل لا بد من وجود خبرة سابقة عند الإنسان يفسر بواسطتها الواقع الذي أحس به.!
فأنت حين تعطي كتاباً
باللغة الألمانية ـ مثلاً ـ لإنسان يفتقد أية خبرة بهذه اللغة، وتتركه ينظر في
صفحاته أو يلمس حروفه، فإنه يبقى عاجزاً عن معرفة كلمة واحدة، وإن نظر إليها مليون
مرة، حتى تعطيه خبرة عن اللغة الألمانية، فحينئذ يبدأ في التفكير، ومن ثم يعي
المعاني..
وإذا أتيت بطفل في
الخامسة من عمره، لم ير الأسد ولم يسمع به، ولم ير الكلب ولم يسمع به، ولم ير
الفيل ولم يسمع به، وعرضت عليه أسداً وكلباً وفيلاً، أو عرضت عليه صورة أسد وصورة
كلب وصورة فيل، ثم طلبت منه أن يعرف أي واحد منها، أو يعرف اسمه، فإنه لا يعرف
شيئاً، ولا يمكن أن توجد لديه أية عملية عقلية تجاه أي منها. ولو حفّظناه أسماءها
بعيداً عنها دون أن تقترن بأي منها، ثم عرضت عليه هذه الأشياء، وقلت هذه أسماؤها،
أي الأسماء التي حفظتها هي أسماء هذه الأشياء، فإنه لا يمكن أن يعرف اسم أي منها
إلا إذا أعطيناه اسم كل منها تجاه واقعه، أو تجاه صورة الواقع، وربطته بها، حتى
حفظ الأسماء مربوطاً كل اسم منها بواقعه، فإنه حينئذ يدرك كل شيء باسمه، أي يدرك
ما هو هذا الشيء هل هو أسد أم فيل أم كلب، ولا يخطئ.
فالأمر إذن ليس متعلقاً
بمجرد الحس بالواقع، وإنّما هو متعلق بالمعلومات والخبرة السابقة عن هذا الواقع،
والتي هي الشرط الرئيس والأساس لوعي هذا الواقع..
ولا شك أن "لكل منا ثروة هائلة من التجارب
المختلفة، ولكن أغلبها يذهب هباء لأنها غير منظمة.. إنها تشبه أن يكون لديك مخزناً
كبيراً مملوءاً حتى السقف بأشياء كثيرة، وهكذا فإنك لا تستطيع رؤية أي شيء بداخله
إلا بعض الأشياء قرب قمته، وبضعة أشياء قرب الباب.. ولا يمكنك الاستفادة من كل
الأشياء علي هذا النحو، لأنه ليس منظماً علي النحو الذي يمكنك من العثور علي ما
تحتاجه(12)... ومن ثم لا بد من تنظيم تجاربك وترتيبها للوصول إلي
الحكمة، والتي من تعريفها" رجل حكيم، أي أحكمته التجارب"..
قال ابن القيم: والحكمة،
حكمتان: علمية، وعملية..
فالعلمية: الاطلاع علي
بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً..
والعملية: وضع الشيء في
موضعه
وهي على
ثلاث درجات:
الدرجة الأولي: أن تعطي
كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه."(13)
وهذا الحكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً، فإضاعتها تعطيل
للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدي الحد كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق
البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها عن وقتها كحصاده قبل أوانه وكماله(14).
"ولا شك أن الوصول إلي الحكمة" يتطلب دراسة الواقع وترسم خطاه، ومعرفة منابعه، ونقاط تشكله، وهذا يحتاج بالتالي خلفية عقلية منهجية، وانقلاباً هائلاً في طبيعة العقل من أجل تحقيق هذا المستوي؛ لأن الإنسان حين يحكم علي الأمور بناء علي انطباع شخصي مباشر، يتعرض لأن يصدر أحكامه طبقاً لما يتلقاه عن هذا الواقع بطريق الإيحاء، لا طبقاً لما في الواقع من حقيقة ظاهرة أو كامنة؛ فيموّه عليه الأعداء بما يضره، فيراهم قد أتوا بالورود، بينما سيوفهم تحتها، أو يظن أنهم مارّون فحسب، في حين أنهم لسحقه يخططون..!!
سبيل المجرمين..
نحن ندرك جيداً نشاط المجرمين
عندما يكون مرئياً واضحاً، كأنه لعبة أطفال.. ولكنا لا ندرك مجال هذا النشاط ولا
وسائله – بكل أسف – منذ اللحظة التي يصبح فيها دقيقاً كلعبة الشيطان، لأنه في هذه
الحالة يمارس العمل الصامت الذي يسمح له بقضم المجتمع في صمت
وغموض إلى أن يسقط أشلاء، ودون أن تسمع أذاننا شيئاً مما يجري، ولا أن ترى أعيننا
شيئاً من هذا العمل.. ولا ينهي عمله حتي يتآكل جسد المجتمع، وتُدمر نوابضه، وتختفي
مفاصله..!!
وهكذا يتلاحق عمل
المجرمين" في صورة دقيقة وخفية، تلاحقاً لا يعود معه في مقدورنا أن ندرك منه
شيئاً، لأن الوسائل المستخدمة في قدر حبات الرمل.. لكن حبة رمل واحدة كافية
أحياناً لإيقاف محرك، إذا ما تسربت إلى أحد أجهزته.. وبعبارة أخرى: قد تكفي لذعة
إبرة في مكان مناسب لشل الجهاز العصبي في كائن حي أحياناً"(15)..
إن المجرمين يبذلون كل
جهودهم، ليحولوا بين الفكر والعمل، حتى يبقى الأول غير مثمر والثاني أعمي، وهم
يصلون إلى هذا الهدف باتباع "طريقة تطبق في بعض الألعاب الإسبانية؛ حيث
يلوحون بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج في حلبة الصراع، فيزداد هيجانه بذلك، فبدلا
من أن يهجم علي المصارع يستمر في الهجوم علي المنديل الأحمر الذي يلوح به حتى
تنتهك قواه...
وبنفس الطريقة يلوح
هؤلاء في مناسبات معينة، بشيء يثير غضبنا، ويغرقنا في حالة شبيهة بالحالة
التنويمية التي يفقد الإنسان معها شعوره ويصبح عاجزاً عن إدراك موقفه، وعن الحكم
عليه حكماً صحيحاً، فيوجه ضرباته وإمكانياته توجيهاً أعمي، ويسرف من قواه دون أن
يصيب بضربة صادقة المصارع الذي يلوح بالمنديل الأحمر..."(16)
وهكذا يبقى الصراع الذي إن اكتشفنا بعض تفاصيله،
فإن بقية هذه التفاصيل تبقى في الظلام،
ويصعب وصفها كما يصعب وصف بيت العنكبوت،
وخاصة إذا كانت خيوطه تأتي من بعيد ولا يحيط بها بوضوح إلا من وفقه الله ـ
عز وجل ـ وأضاء بصيرته، فاستقام علي أمر الله له: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، وقوله: {وَمَن
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ
مَصِيراً}[النساء:115]؛ "فالله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين
مفصّلة، وسبيل المجرمين مفصّلة، وعاقبة هؤلاء مفصّلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء،
وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه
لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء، والأسباب التي خذل بها هؤلاء،
وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما، وبيّنهما غاية البيان، حتى
شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتاب ودينه يعرفون سبيل المؤمنين
معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فتستبين لهم السبيلان كما يستبين للسالك
الطريق الموصل إلى مقصوده، والطريق الموصل إلى الهلكة.
وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم الى
يوم القيامة؛ فانهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة الى الهلاك
وعرفوها مفصّلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات الى سبيل الهدى، وصراط
الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلي النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد،
ومن الجهل إلي العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلي العدل، ومن الحيرة
والعمي إلي الهدى والبصائر...
وأما من جاء من بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الاسلام غير عالم تفصيل ضده؛ فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فان اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب: "إنما تنتقض عرى الاسلام عروة عروة إذا نشأ في الاسلام من لا يعرف الجاهلية".. فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها.."(17)
يا صديقي..
إنه لا سبيل إلى
وقاية أبنائنا من "ثقافة التيه" إلا أن نكون على دراية كاملة بـ"فقه
الواقع" من خلال معاناة التقلب بين أصناف البشر، وكشف الغطاء
عما في خبايا هذا الواقع استتر.. واكتساب" البصيرة والوعي".. وترك التعامل مع أحداث
الحياة من خلال "التفكير الذريّ".. والحرص على أن نضيف إلى إحساسنا
بواقعنا "رصيد التجربة" الذي يؤهلنا لاستبانة "سبيل المجرمين"..
ثم القيام من خلال هذه الصورة المتكاملة
لواقعنا بوضع برنامج متطور لحياتنا..
يأخذ الحاضر من الماضي، ويقيس المستقبل علي
الحاضر..
يخطو بحذر، ويتقدم بهدوء ليصوغ كل مناحي
الحياة بعيداً عن ثقافة التيه..
الهوامش
(1) في فقه التدين ـ د. عبد المجيد النجار ـ ص
33.
(2) إعلام الموقعين ـ ابن القيم
ـ ج 1 ص 87.
(3) كما يقول الشاطبي رحمه الله
في الموافقات.
(4) مقدمات
في البعث الحضاري - د. سيد دسوقي حسن - ص
130.
(5) الصراع الفكري في البلاد
المستعمرة ـ مالك بن نبي ـ ص 55، 56.
(6) مشكلة الأفكار – مالك بن
نبي ـ 128 بتصرف.
(7)
الموافقات في أصول الشريعة ـ الإمام الشاطبي ـ ج 1 ص 13 ـ 15.
(8)
المصدر السابق ـ ج 3 ص 188.
(9) راجع إن شئت كتاب "
اقتضاء الصراط المستقيم"
(10)
الموافقات ـ الشاطبي ـ ج 1 ص 99.
(11) المصدر
السابق ـ ج 1 ص 61.
(12) كيف تغير ذاتك وتصبح الإنسان
الذي تتمني ـ ستيف أندرياس ـ ص 163.
(13) الحكمة ـ د.
ناصر بن سليمان العمر ـ ص 25.
(14) مدارج السالكين ـ ابن
القيم ـ ج2 ص 469.
(15)
ميلاد مجتمع – مالك بن نبي ـ ص 84 بتصرف يسير.
(16)
الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ـ مالك بن نبي ـ ص 29 ـ 31.
(17) الفوائد – إبن القيم –
ص 117 بتصرف يسير.
إضافة تعليق