فإن المعايشة التربوية في المحاضن التربوية هي أساس التربية، وإن المتابعة التربوية هي أهم أركان تلك المعايشة، وإن ضبط هذه المتابعة بغير إفراط أو تفريط هي عنصر من عناصر النجاح في التربية؛ ولا يخفى على القارئ ضبابية مبدأ "المتابعة" بين غالٍ ومفرّط فيه عن

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ... وبعد:

فإن المعايشة التربوية في المحاضن التربوية هي أساس التربية، وإن المتابعة التربوية هي أهم أركان تلك المعايشة، وإن ضبط هذه المتابعة بغير إفراط أو تفريط هي عنصر من عناصر النجاح في التربية؛ ولا يخفى على القارئ ضبابية مبدأ "المتابعة" بين غالٍ ومفرّط فيه عند المربين، فإذا كانت الضبابية في أصل المتابعة، فستكون الضبابية أكبر في جزئياتها وتطبيقاتها الكثيرة، فبين من يرى أن متابعة الطالب هي عبارة عن سؤالٍ شهريٍ يتيمٍ عن حاله، وبين من يراها أنها سؤالٌ يوميٌ عن أحواله في بيته ومدرسته.

 

والمتابع لحال المحاضن التربوية يجد التفاوت والاختلاف الكبير في "المتابعة" عند آحاد المربين وهذا التفاوت جاء نتيجة اختلافهم في مفهوم المتابعة التربوية، إضافةً لاختلاف المحاضن التربوية بطبيعة عملها والذي جعل المربين يتتابعون على طريقة معيّنة في "المتابعة".

 

إن في ظنّي أن من أبرز الإشكاليات في موضوع "المتابعة" هو مبدأ "السطر الواحد" عند المتابعة، والذي يُقصد به وضع جميع المتربين في سطرٍ ونظامٍ واحدٍ في المتابعة على اختلاف أعمارهم واستقامتهم وعلاقاتهم؛ وهذا هو الإشكال الحقيقي الذي ينتج عنه التساهل مع من لا ينبغي التساهل معه فينتج عنه ضعف التزامه - أو العكس- فينتج عنه تضجر المتربي وشعوره بالتقييد غير المبرر.

 

وفي هذه الورقات أحاول ضبط مسار المربي في متابعته للمتربي، ويمكن وضعُ محدداتٍ لمسار المربي في عملية المتابعة، وهي كالتالي:

 

  1. مراعاة المستوى الإيماني للمتربي:

فكلما ضَعُفَ المستوى الإيماني للمتربي زادت المتابعة، و كلما زاد المستوى الإيماني للمتربي قلّت متابعته؛ فالطالب الذي يُراقبُ اللهَ في أفعاله وأقواله هو في الحقيقة في غِنىً عن المتابعةِ التربويةِ الدقيقةِ من قِبَل المربي، بل إن المتابعة الدقيقة في هذه الحالة قد تُضعف الطالب، وتُشعره بعدم ثقة المربي به، وهو ما سينعكس سلباً على علاقته معه وعلى أثر توجيهات المربي عليه.

 

  1. مراعاة عُمْر الطالب:

المرحلة الدراسية للطالب تؤثر بطريقة متابعته؛ فكلَّما كان الطالب في المراحل الصغيرة كلما تَطلَّبَ الأمر متابعةً أكثر، وبكبَرِ الطالب تَقلُّ متابعته إلى أن تصل هذه العملية إلى المناصحة أقرب منها إلى المتابعة كما هو الحال في المرحلة الجامعية فما بعدها؛

فيمكن للمربي أن يسأل الطالب بشكلٍ مباشرٍ في المرحلة المتوسطة فضلاً عن الابتدائية عن نوعية أصدقائه وعن استقامتهم، ويمكن للمربي أيضاً أن يسأل الطالب في المرحلة الثانوية لكن بشكلٍ غير مباشر عن نوعية أصدقائه وعن استقامتهم، لكنّ هذا السؤال لن يكون مقبولاً أبداً بالنسبة للطالب الجامعي إن جاء بطريقة المتابعة والوصاية لا المناصحة؛

فالطلاب كلما كبروا ازدادت نفرتهم من التوجيه الذي يأتي بشكل (الأوامر)، وإلى المتابعة التي تأتي بشكل (المتابعة الأبوية الدقيقة).

 

إضافةً إلى أن طبيعة الأعمار المختلفة تدعونا إلى مراعاة عمر الطالب في المتابعة، فالطالب في بداية مراهقته يسعى بشكلٍ كبيرٍ إلى الاستقلالية، وإلى أن تكون له أسراره الخاصة، وإلى أن يشعر بثقة الآخرين فيه وتقديرهم له، وكلُّ هذا يتعارض مع متابعة المربي له بشكلٍ دقيقٍ، كسؤاله بشكل مباشر عن رحلاته وصداقاته، ثم زجره على بعضها، وهو ما سينتقده بشكلٍ مباشرٍ إن كان قادراً على ذلك، أو ستبقى في نفسه إلى أجل أو ستؤدي إلى تراكمات عند الطالب تنتهي بخروجه من المحضن التربوي.

 

ومن جانبٍ تربويٍ آخر فإن الطالب كلما كَبُرَ كانت الحاجة أكثر لتعليمه مبدأ المراقبة الذاتية، فالطالب في المرحلة الثانوية سيكون مقبلاً على المرحلة الجامعية التي تكاد تكون المتابعة فيها شبه معدومة، وهو ما يجعل المربين يُعِدُّون لهذه المرحلة بتخفيف المتابعة إبانها مع تغليب جانب المناصحة والترغيب على جانب الوصاية والتوجيه والزجر؛

وإن المبالغة في المتابعة في هذه المرحلة تجعل الطالب في ربطٍ بين استقامته وبين المتابعة، فإذا غابت المتابعة = غابت الاستقامة، وهو ما يُفسر انتكاس بعض الطلاب في المرحلة الجامعية بمجرد انتقالهم لها !

 

  1. مراعاة آلية المتابعة:

من المهم التنبّه لآلية المتابعة، حتى لاتنعكس المتابعة سلباً على المربي والمتربي، فلابد من وضع ضوابط تضبط آلية المتابعة عند البدْء بها؛ وأهم تلك الضوابط:

     أ. عدم التجسس على المتربي أو تفتيش هاتفه، وهذه من مدمّرات الثقة بين المربي والمتربي.

    ب. عدم سؤال الأقران عن الطالب وخصوصاً إن كان السؤال مباشراً، وغالباً ما تؤدي هذه الأسئلة إلى التشكيك بالطالب، أو على الأقل نفرة الطلاب وتَخوُّفهم منه، فضلاً عمّا يعتري هذه الأسئة -أحياناً- من كشفٍ لبعض أخطاء المتربي وهو ما سيحرجه أمام أقرانه -ولا شك- . 

وقد تُستثنى بعض الحالات الضرورية والتي يضطر المربي حينها إلى السؤال المباشر عن ذلك الطالب، وضابط هذه الضرورة: أن تكون المفسدةُ المترتبةُ من عدم السؤال عن الطالب أكبر مفسدةٍ من باقي الاعتباراتِ التربويةِ.

    ت. استمرارية إظهار الثقة المتبادلة بين المربي والمتربي.

فاستمرارية الثقة من المقاصد المهمة في التربية والتي تؤكد استمرارية الحب والود بين المتربي والمربي فيستمر في قبول توجيهاته ونصائحه، وزوال الثقة هو موت بطيء لفاعلية المتابعة، وإن كان ثمَّتَ استجابةٍ من الطالب فهي مؤقتة ستزول بغياب المربي لكونها استجابة قهرية.

 

 

المتابعة التربوية وتعارض الأدوار بين (التنظيم والتوجيه والنصيحة)

 

إن من المهم على المربي التفريق بين مراتب المتابعة، والتفريق بين ماهو داخلٌ في إطار المتابعة وماهو خارجٌ عن إطار المتابعة التي نعنيها في المحاضن التربوية؛

 وعدم التفريق بين هذه المراتب والأدوار خلق مشكلاتٍ بين المربين والتي انعكست سلباً على الطلاب أنفسهم؛ وتوضيح ذلك بتوضيح هذه الأدوار الثلاثة:

  1. دور خاصّة الخاصّة: العمل والتنظيم الإداري وإبلاغ الطلاب بالقرارات الإدارية ومتابعتهم بها - لا يكون إلاّ من المسؤول المباشر عن الطلاب والمكلّف من إدارة المحضن، ولا ينبغي مزاحمة ذلك المشرف بهذه المهمة، وهذا من تمام سير العمل التنظيمي، وهذه الدائرة التوجيهية هي أضيق الدوائر التوجيهية.
  2. دور الخاصّة: التوجيه والمتابعة التربوية لغرس القيم بالطلاب ومعالجة مشكلاتهم الشخصية أو النفسية أو الإيمانية، والتي تستغرق عادةً وقتاً طويلاً..، هذه العملية لاتكون إلا من المشرف التربوي على ذلك الطالب أو مِن قِبَل مشرف آخر لكن بالتنسيق معه، ولا ينبغي من باقي المشرفين متابعة أحد الطلاب متابعةً مستمرةً بغير التنسيق مع المشرف المباشر عليه، وهذا ليس من باب الاحتكار بل من باب الدقة في علاج المشكلات وعدم تدخل أطراف كثيرة فيها،

وعدم الالتزام بهذا الدور سيجعل من الطالب كالذي يتداوى من مرضٍ ما يعاني منه عند مجموعة من أطباء، وكلّ طبيب يجتهد في العلاج، وقد تتعارض أو تثقل كمية العلاجات على المريض، وهذا كالطالب الذي يتابعه عدة مربين لعلاج مشكلة ما عنده.

  1. دور العامّة: النصيحة العابرة والتوجيه غير المستمر الذي لا يصل إلى حد التواصل المستمر الذي هو من مهام المشرف الخاص..، تلك هي المهمة العامة غير المحصورة بالمشرف المعيّن من قِبَل الإدارة التربوية، وهذه الدائرة تسمح للمشرف مناصحة الطلاب الذين في غير محضنه مع مراعاة الضوابط المذكورة،

والخطأ في هذه المرتبة، أدى إلى نزوع الخلافات بين المربين نتيجةً لمناصحة أحدهم لطلاب المحضن الآخر، وهذا النزاع غير مبررٍ، فالنصيحة العامة لا قيود لها حتى خارج المحضن التربوي، فكيف إذا كان الناصح هو في دائرة المربين.

 

وسبب الخطأ: ظَنُّ المربي قدرتهُ على استيعاب الطلاب بالنصيحة على كل ما يرد منهم من أخطاء "بمفرده"، إضافة لظنّه القدرة على إضافة كل القيم المطلوبة للطلاب، وهذا لا يمكن بحال، فمتابعة المربي محدودة، وقدرته على تصحيح الأخطاء وإضافة القيم محدودة أيضاً، فمن الجيد أن يُعان مِن قِبَل المربين بهذه النصائح العابرة لطلابه، ليتفرغ بمتابعة حل مشاكل الطلاب الأكثر تعقيداً، بل إن مِن حكمة المربي في علاج بعض القضايا أن يُكلّف بها مربٍ آخر أوسع خبرة منه، وكم من مشكلاتٍ في المتربين تفاقمت نتيجة التعامل الخاطئ معها من قبل المربين.

 

ختاماً

إن هذه المقالة هي محاولةٌ لضبط المتابعة عند المربي، وماكانت هذه المقالة إلّا بعد رصد الخلل الوارد في المتابعة عند بعض المربين، والذي تركَّز -غالباً- في المبالغة بتلك المتابعة حتى يضيق المتربي ذرعاً من المربي، فتنعكس المتابعة التربوية سلباً على العملية التربوية، وفي هذه المقالة حاولت ترسيم حدود أهم الضوابط للمتابعة التربوية لتقليل الخطأ فيها؛

 وأسألُ اللهَ بمنّهِ وكرمهِ أن أكونَ قد وُفقتُ بعرض هذه المقالة، وأن تكون هذه المقالة مفتاحاً للكُتَّاب لزيادة التأصيل والتقعيد حول "المتابعة التربوية".

والحمدلله رب العالمين،،،

 

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة