إن واقعنا التربوي يُؤكد أن هذا الانحراف الذي يحدثنا عنه التاريخ هو الحاصل اليوم بين أكثر الناس وبين بعض الدعاة والقيادات؛ ربما تحمل هذه الكلمات لونًا من ألوان الجرأة، ولكن هذه الجرأة هي الخطوة الأهم لتشخيص المشكلة، ومن ثم تحديد العلاج المناسب.
يخبرنا التاريخ
كيف تَسبَّب غياب الوعي في تحويل بعض الصالحين إلى أوثان تُعبد من دون الله؛ ففي
البداية صُنعت لهم التماثيل لتُذَكِّر الناس بأعمالهم الصالحة التي تُقرِّبهم إلى
الله -بزعمهم-، ثم بمرور الوقت تَحوَّل هؤلاء إلى وسائط يتقرب الناس من خلالهم إلى
الله.
ثم زاد الانحراف
في وعي الناس فرفعوا أولئك الصالحين إلى مكانة مقارِبة لله وحولوهم إلى أوثان
تُعبَد من دون الله أو معه -سبحانه وتعالى-.
هذا ما يحدثنا
عنه التاريخ.. فكيف هو واقعنا التربوي؟!
إن واقعنا
التربوي يُؤكد أن هذا الانحراف الذي يحدثنا عنه التاريخ هو الحاصل اليوم بين أكثر
الناس وبين بعض الدعاة والقيادات؛ ربما تحمل هذه الكلمات لونًا من ألوان الجرأة،
ولكن هذه الجرأة هي الخطوة الأهم لتشخيص المشكلة، ومن ثم تحديد العلاج المناسب.
فالبداية دائمًا
تحتاج إلى الخطوة الأولى، ثم يبدأ السير الذي يصنع الطريق، لا أقول: إلى النهاية،
بل إلى المكان الذي تترك أنت فيه الطريق ليكملها غيرك.
هل سببت كلماتي
لك نوعًا من الصدمة؟!
أنا أعلم أن
أكثر ما يؤلم في هذه الحياة هي تلك الصدمة التي تكشف لك أن ما فهمتَه كان خطأً،
وأن بعض من وثقتَ فيهم لم يكن محلاً للثقة، وأن ما قمتَ ببنائه يجب عليك الآن أن تقومه؟!
نعم.. إن هناك
من يحاول أن يُجرِّف جميع أفكارنا ليسحب منا أي بوصلة نعتمد عليها في رحلة الحياة؛
ليصنع منا خائفين لا نثق في أي شيء ولا أي أحد؛ ثم يبدأ في زرع فكرته في قلوبنا!
ولذلك أدعوك
للتفكير بهدوء قبل أن تقبل كلامًا -مني أو مِن غيرى- يهدم ما تعتقد من أفكار؛ ذلك
أني أحسبك من جيل النهوض الذي لا بد له أن يتعلم من الانحسار كيف يكون المد
الحقيقي، فخذ الوقت -كل الوقت- باحثًا ومتفكرًا قبل أن تبدأ رحلة إخلاصك في عمل ما
تؤمن به، واعلم أنه مهما كان الإخلاص نقيًا وقويًا؛ فإن هذا لن يحوّل الخطأ إلى
صواب، ولن يحول الباطل إلى حق، ولن يحول الضلال إلى هدى.
وأنا أطمئنك هنا
أني لا أرغب في أن تستبدل طريقة تفكيرك وحياتك، وإنما أريدك أن تبني على ما هو
موجود لديك من الخير تصورًا أرشد للتربية والحياة الطيبة.
وهذا التصور
يراك أنت أهم عنصر في منظومة التغيير، فلستَ تقبل أن تكون سلبيًا، أو تحيا بلا
اختيار لأنك تعلم أن تركك الاختيار هو اختيار، وأنك حين تسكت فإن غيرك يعتبر سكوتك
تفويضًا له ليتكلم عنك، ومن ثَمّ يسرق إرادتك لتعضيد إرادته، وينقلك من أن تكون فاعلًا
ومؤثرًا إلى أن تصبح مجرد «كومبارس» مفعول بك.
ولكن، ما الذي
ينبه في الفرد قوة الإرادة والرغبة في الفعل؟!
ما هو المنبه
المناسب لتنشيط الإرادة؟!
يجيب عالم النفس
البريطاني «هادفيلد» «أن كل حاسة لها مثيراتها، فالفوتونات تُحرِّض حاسة البصر،
والذبذبات الصوتية تُحرِّض حاسة السمع، والجزيئات الكيمياوية تحرض حاسة الشم... ولكن
ما يُحرِّض الإرادة هو المثل الأعلى»([1]).
وهذا الذي قاله
هادفيلد صحيح مائة بالمائة؛ فالمثل الأعلى هو المحفِّز الأهم للإرادة، والقدوة هي
الحادي الذي يصيح بالآخرين: أنْ هَلموا وتَيقظوا.
ولكنا -بكل أسف- نُعاني مشكلة في مفهوم «القدوة»، فالقدوة لدينا -بكل أسف-
هي مشروع «وثن» كامِن، ولذلك فنحن نضع القُدُوات في مكانة غير بشرية، وكأنهم معصومون
عن الأخطاء!
إن الكثيرين منا قد تربوا على الحياة وفق علاقة «الشيخ والمريد»، وهذه
الظاهرة سواء بالتعلق «بـ» أو التعلق «ضد» الشخص: هي «ثقافة التيه» التي نعاني
منها، حيث نُعطِّل عقولنا لنعتمد على عقل من نراه قدوتنا، ونلغي إرادتنا ونُسلِّم
لإرادته، وننسى رغباتنا لتحقيق رغباته([2]).
وهكذا يوضع «الشخص» بين «المريدين» وبين الله؛ فيتحول في وجدان ووعي وإدراك
المريدين إلى «المراد»، بل ربما يتحول إلى ظل الله في الأرض؛ فهل كانت هذه حال الأنبياء
مع أقوامهم؟!
لقد اصطفى الله الرسل من عباده، فهل جعل أحد هؤلاء المصطفين نفسه «مرادًا»،
أو أمر الناس أن يكونوا له «مريدين» فيحجب الله عنهم؟! {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن
تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُم
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 80].
نعم؛ إن رسل الله لم يكونوا أبدًا في وضع «المراد»، ولم يكونوا أبدًا في
وضع «الغاية»، إنما كانوا دائمًا في وضع المرشد والوسيلة لغايةٍ بعثهم الله بها،
وهي معرفته سبحانه وعبادته وحده لا شريك له، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ
بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق 12].
فكيف يحق لمن
يزعمون أنهم أتباع الأنبياء أن يُقدِّموا أنفسهم للناس وكأنهم أنصاف آلهة! فيضعون
أنفسهم في موضع المراد، ويطلبون من أتباعهم أن يتحولوا جميعًا إلى مريدين لهم؟!
إن مسيرة التقدم
الفكري الفردي تبدأ بالطفولة الفكرية المتعلقة بالأشخاص والأشياء التي تحاط بهالة
من التقديس ومنع الاقتراب والتبعية، ثم تأتي مرحلة المراهقة الفكرية التي تتميّز
بالرغبة في الخروج عن المألوف والانقلاب على القديم بشكل يفتقد الاتزان، ثم تأتى
مرحلة الرُّشد؛ حيث الوعي بما مرّ به الفرد وما يمر به الآخرون.
وحين يصل الفرد
إلى تلك المرحلة، فإنه يرى قدوته بشرًا يُصيب ويخطئ، وهذا التصور المتوازن للقدوة يجعل
شرط احترامه له هو احترام هذا القدوة للفكرة، ويجعل انتماءه إلى هذا القدوة بقدر
عطائه لهذه الفكرة، ومن ثَمَّ فإن الفرد وهو يسعى لأنْ يُسهِم بجهده في تطوير
الفكرة وخدمتها، يبقى على حذرٍ أن يكون جزءًا من كيان لا يتفق مع ما يريد من هويَّةٍ،
ووظيفةٍ، وهدف.
ولا شك أن
الوصول إلى هذه المرحلة من التوازن لا بد له من الرُّشد الفكري الذي يجعل الانتقاد
مصحوبًا بالبناء، والتفكير مرافِقًا للحكمة، وأسلوب الحياة يحكمه التفكير بسويَّة
والتعبير بحُرية.
هنا؛ نجد إنسان
الفكرة، الذي تحرَّرت إرادته، فيطيع في الطاعة ويعصي في المعصية، ويناقِش صلاحية
ما يؤمر به.
ومن إنسان «الفكرة»
يولد إنسان «المبادرة» الذي لا يقف مكتوف اليدين في مواجهة الخطر، بل يُبادِر إلى
فعل ما ينبغي وفي حسه أنه المعنيّ لا غيره.
إذا القومُ قالوا مَن فتًى خِلتُ أنَّني *** عُنِيتُ فلم
أَكْسَل ولم أتبلَّدِ
إنَّ إنسان
المبادرة إذا سمع صيحةً لا يقفُ ليسأل: مَن ينادي؟! ومَن يُقصَد بندائه؟! ولا
ينتظر أن يُبادر غيره فيريحه، بل يُسرِع إلى الصوت وكأنه ليس على الأرض إلا هو!
وهذا ما تعلمَّه
الصحابة -رضي الله عنهم-، مِن فعلهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روى البخاري عن أنس
-رضي الله عنه- قال: فَزِع أهلُ المدينة ذات ليلةٍ، فانطلق ناسٌ قِبَلَ الصوت،
فتلقاهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت([3])
وهو يقول: «لم تُراعوا، لم تُراعوا»([4]).
إن الطريق إلى
بناء الإنسان المفكر والمبادر هو التوازن بين هوس المخالفة والسير عكس التيار، وبين
الآبائية التي تحفر في العقل الاتِّباع دون فهم؛ وليس من سبيل إلى ذلك التوازن إلا
من خلال النظرة الصحيحة للدِّين على أنه منهج وطريقة وسبيل للوصول إلى الله، وأن
رسل الله والدعاة إلى هذا الدِّين هم دليلنا في هذا الطريق.
الدِّين «طريق» أرسله الله إليك لتبدأ رحلتك إليه، والرسول وكل داعية من بعده هو دليل ومرشد لك أثناء «الرحلة» إلى الله، تلك الرحلة التي لا سبيل إلى الوصول إلى النجاح فيها إلا من خلال: القياد لا الانقياد.
([2])
جرّب بعض النابهين أن يقدّم للشباب فكرة مَن يحبون باسم
من لا يحبون وبالعكس؛ فكانت النتيجة أن بعضهم رفض فكرة الكاتب الذي يحبه لأنها
قُدمت باسم الكاتب الذي لا يحبه.
إضافة تعليق