يعد الحسن البصري من أبرز أعلام المدرسة التربوية الإسلامية الذي كشفت أقواله ومواقفه عن فكر تربوي أصيل، يرتكز على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والتأكيد على أنّ القرآن الكريم والسنة النبوية يمثلان المصدر الأساسي للتربية، بالإضافة إلى أهمية العقل والتجربة في عملية التربية التي يجب أن تكون شاملة تتناول جميع جوانب شخصية الإنسان.
وحدّد البصري أهداف التربية الإسلامية، والتي تتلخص في تنمية الإيمان بالله تعالى في قلب الإنسان، وتزويد الأبناء بالقيم والمبادئ الإسلامية، وتنمية العقل والتفكير لديهم، وإكسابهم القدرة على فَهم الدين وتطبيقه، وتنمية الأخلاق الفاضلة في نفوسهم، مثل الصدق والأمانة والكرم والعفة، وإعدادهم للحياة الاجتماعية، وتنمية روح التعاون والتسامح لديهم.
من هو الحسن البصري؟
وُلِدَ الحسن بن يسار المُلقّب بالبصري نسبة إلى البصرة، في المدينة المنورة ببيت أم سلمة إحدى زوجات الرسول- صلى الله عليه وسلم- سنة 76 هـ، حيث كانت أمه تذهب في قضاء حاجة أم سلمة فيبكي الحسن فتأخذه أم سلمة في حضنها لشفقتها عليه وتعطيه ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه، لذا يرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك، وكانت أم سلمة تخرجه إلى الصحابة ليدعوا له فدعا له الخليفة عمر بن الخطاب بقوله “اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس”.
وأكمل الحسن البصري فترة طفولته بوادي القرى، وحضر الجمعة مع عثمان- رضي الله عنه- وسمعه وهو يخطب، وبقي في المدينة المنورة ينهل من الصحابة علوم الحديث والتفسير والفقه حتى غادر مع أسرته إلى البصرة.
ولقد رأى البصري عددا كبيرا من الصحابة وروى عنهم مثل: النعمان بن بشير، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس، ولقبه لقبه عمر بن عبد العزيز بسيد التابعين حيث يقول: “لقد وليت قضاء البصرة سيد التابعين. أما السيدة عائشة وعندما سمعته يتكلم قالت: “من هذا الذي يتكلم بكلام الصديقين؟”.
وكان الحسن أعلم أهل عصره، يقول قتادة: “ما جمعت علمه إلى أحد العلماء إلا وجدت له فضلا عليه، غير أنه إذا أشكل عليه كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن”. وكان صوامًا قوامًا، فكان يصوم الأشهر الحرم والاثنين والخميس.
ويقول ابن سعد عن علمه: كان الحسن جامعًا عالمًا عاليًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كبير العلم فصيحًا جميلًا وسيمًا وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسن حجة، وقدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان فيمن أتاه مجاهد وعطاء وطاووس وعمرو بن شعيب فقالوا أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط.
وكان أنس بن مالك يقول: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا. وقال أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النساك: كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن ويسمعون كلامه ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن.
وكان ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أنصحني فكتب إليه: إن الذي يصحبك لا ينصحك، والذي ينصحك لا يصحبك. والحسن البصري أشجع أهل زمانه كما يقول هشام بن حسان، وكان جعفر بن سليمان يقول: كان الحسن من أشد الناس، وكان المهلب إذا قاتل المشركين يقدمه.
وترك الحسن مجموعة من الرسائل والكتب منها:
- كتاب عدد آيات القرآن.
- كتاب تفسير القرآن.
- كتاب نزول القرآن.
- رسالة في الفرائض.
- رسالة في الأسماء الإدريسية.
- رسالة في التكاليف.
- رسالة في فضائل مكة والسكن فيها.
- رسالة عبد الملك بن مروان في الرد على القدرية.
- الأحاديث المتفرقة.
ومات الحسن ليلة الجمعة، سنة عشر ومائة، وعمره تسع وثمانون سنة، وقيل ست وتسعون سنة.
ملامح الفكر التربوي عند الحسن البصري
ويرتكز الفكر التّربوي عند الحسن البصري على مجموعة من الأسس والمبادئ، منها:
العقل هو قدرة مُدرَكة في الإنسان، خلقها الله فيه، ليكون مسؤولا عن أعماله، وهو الأداة التي بها يفهم ويتأمل ويفكر ويتعلم. والتربية العقلية هي التي تهتم بالعقل وتغذيه، وتمدّه بأسباب نشاطه، وحيويته، وتعطيه القدرة على النظر والتأمل والتدبر والتحليل والاستنتاج، أي تنمية قدراته واستعداداته، والأصل في التربية الإسلامية للعقل أن يسبقها الإيمان، فيعمر القلب أو العقل أو الفؤاد، ثم يكون الاهتمام بالعلم والمعرفة.
ويفتح الإسلام ميادين العلم أمام عقل المسلم؛ حتى يستطيع أن يسلك طريق الحق والخير؛ فالعلم شرط كل عمل تربوي ودعوي وتعليمي كيفما كان، قال- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا” (البخاري). ففي هذا الحديث كثير من المعاني التربوية الجليلة منها: الحرص على طلب العلم، والتزود منه، وتقدير العلماء وعِظَم منزلتهم، وأهمية الفتوى والتحذير من أولئك الذين يفتون الناس بغير علم، وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية طلب العلم وفضله وأنه يُربَّي العقل على البحث عن الحقيقة وطلبها للوصول إلى المعرفة الصحيحة.
ويرى البصري أنّ النمو العقلي والتمايز فيه بين الطلاب يؤثر في سرعة التعلم، وقد نبّه الخطيب البغدادي إلى أثر ذلك بين الطلاب وانعكاسه على تحصيلهم، فبين أن من الطلبة مَن يستطيع حفظ الكثير في الزمن القليل، ومنهم من لا يستطيع حفظ نصف صفحة ولو في أيام.
ولقد تعدَّدت وتنوَّعت أقوال البصري التي تُقرِّر قاعدة تربوية جليلة قائمة على تطهير القلب من أدران الشرك والحقد والغل والحسد، وإصلاحه بالإيمان واليقين والمراقبة والطاعات ومختلف أنواع القربات. فيقول رحمة الله عليه: “حادِثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور (الدثور للقلوب: امحاء الذكر منها)، واقرعوا (انهروها وأبعدوها عن الفحش). هذه الأنفس فإنها تنزع إلى شرِّ غاية”.
ويرى أنّ صلاح الفرد والمجتمع لا يكون إلا بالعلم، واهتمامه جاء من اهتمام الإسلام بالعلم والمعرفة واعتبر
الإسلام الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صيام وصلاة وتسبيح ودعاء ونحو ذلك، لأنّ منافع العلم تعمّ حاجة الناس ومنافع النوافل البدنية مقصورة على صاحبها.
أما آداب طالب العلم عند البصري فهي التعلم المبكر والتخلق بأخلاق العلم والتأدب بآداب مجالسة العلماء والعمل بما يعلم والموازنة بين العلم والعبادة. والتعلم المبكر أفضل مراحل التعلم، حيث يتميز بالنشاط والحيوية وفراغ الذهن الذي يبدو كالصفحة البيضاء.
وعن التخلّق بأخلاق العلم، يقول البصري: “من طلب العلم لله لم يلبث أن يرى ذلك في خشوعه وزهده وتواضعه، أما التأدب بآداب مجالسة العلماء فيقول: “إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع منهم أحرص منك على أن تقول وتعلم حسن الاستماع وحسن القول ولا تقطع على أحد حديثه”.
ويشترط الحسن للعَالِم أن يطلب الآخرة بعلمه، لأنه إن لم يفعل مات قلبه وحُرِمَ نعمة العلم، كما قال: إن العلماء كانوا قد استغنوا بعلمهم من أهل الدنيا وكانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها، كما أن العالم إن لم يتخلق صاحبه بأخلاقه فلا فائدة منه، وأن يؤدي ما عليه من واجب لأن للعلماء دور عظيم في تربية الأمة وإرشادها.
أما فيما يتعلق بتعليم القرآن الكريم، فيرى أنّ حامل القرآن الحقيقي هو الذي يتخلق بخلقه وينتفع منه، وأما المقصود من تعلم القرآن ليس مجرد تلاوته وقراءاته، وإنما العمل والانتهاء بنهيه، أي تدبره.
والإيمان في نظر البصري، ركن مهم ومحور رئيسي في العملية التربوية، فالتربية الإيمانية ترتبط بجميع ميادين التربية فنراها القاسم المشترك الأعظم في كل ميدان والهدف الأسمى من سعي وما تؤتى أي منها ثمارها إلا به.
والتقوى ركيزة الإيمان لذا ندرك أن التربية الإيمانية في كل فريضة أو حكم من الأحكام وهذا يدل على مكانة وأهمية بناء جانب الشخصية السليمة بل يعد هذا الجانب من صميم الدعوة الإسلامية، ولو تأملنا سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تربيته الإيمانية لصحابته- رضوان الله عليهم-، وبالذات في الفترة المكية فما بعدها وجدنا جل اهتمامه كان على التربية الإيمانية وغرس العقيدة في نفوسهم.
كما أن التربية الإيمانية عنده، توجيه فضْل لله تعالى وَفق ما يرضي الله- سبحانه وتعالى- معتقدين بهذا الفعل طريق السلف الصالح من هذه الأمة.
ويشترط البصري للتربية الإيمانية شرطين، الأول: أن تكون هذه التربية مرتبطة دائما بكتاب الله- سبحانه وتعالى- وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم-، والثاني: أن تبقى هذه التربية متواصلة حتى يعبر حقيقة متجسدة في الشخص.
وأساليب التربية الإيمانية متعددة منها التفكير في حقيقة الموت، وتربية الروح بالعبادة والقيام ومحاسبة النفس ومجاهدتها، وتطهير النفس من أمراضها، وحفظ اللسان والجوارح، والإيمان باليوم الآخر والعمل له في كل الأحوال حبا وحرصًا عليها، والاقتصاد في الطعام والشراب، والتذكير بالموت، وذم الدنيا لأن الموت فاضح لهذه الدنيا القصيرة والطاعة وقراءة القرآن وعرض الإنسان نفسه على كتاب الله سبحانه وتعالى.
ومن ثمار التربية الإيمانية عند البصري، الرجاء والخوف، ويقول رحمه الله: الرجاء والخوف مطيتا المؤمن كما يرى أن في الخوف خيرًا للنفس والروح. وعن اليقين والثقة يقول: ما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا خشع وذبل واستقام واقتصر حتى يأتيه الموت.
ويدعو المؤمن أن يكون واثقا من ربه متيقنا بعطائه، حيث يقول: “يابن آدم، إن من صعق يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يدي الله عز وجل”.
أما التربية الاجتماعية عند البصري، فهي تهدف إلى مساعدة الأفراد على النمو الشامل لشخصياتهم، بحيث يستطيعون القيام بأدوارهم الاجتماعية والعيش في المجتمع والمشاركة في خبراته، حيث تركز هذه التربية على “العمليات الثقافية التي تشكل حياة الفرد والتي في سياقها يواجه المشكلات الاجتماعية”.
وتسعى التربية الاجتماعية إلى إقامة مجتمع متعاون متماسك عن طريق تنمية الشعور الجمعي لدى الفرد، وترسيخ إحساسه بالانتماء في المجتمع.
ويدعو البصري- رحمه الله- إلى عدة أمور تُغذّي التربية الاجتماعية، وهي المعاملة بالإيثار، وأن يتحلى المسلم بسلامة الصدر والسخاء والرحمة، وأن يؤدي حق جيرانه ويحتمل أذاهم وأن يقوم بحق المجتمع في النصيحة والموعظة وحضور الجنائز، وأن يعامل المسلم الناس بما يجب أن يعاملوه به.
أما مفسدات الشعور الاجتماعي التي تباعد الأفراد في المجتمع المسلم هي أن يبخل المسلم بما له على أخيه المسلم حيث يقول: ليس من المروءة أن يربح الرجل على أخيه وأن يحتكر السلع، فإنه من احتكر طعاما يطلب إغلاء ثمنه على الناس فهو إثم.
ويرى أنّ صلاح الفرد وتهذيب نفسه بالأخلاق الإسلامية هو الطريق لصلاح المجتمعات، واستقامتها على المنهج الإسلامي القويم.
والطفل الصغير يولد مزودا بقدرة فائقة على اكتساب ما يلقى إليه من خير أو شر، وإن كان هو ميالا إلى الخير أكثر منه إلى الشر، لأنه مفطور على الخير وحبه، إلا أنه يحتاج إلى التأديب والتوجيه والتربية، لما للبيئة والوراثة من تأثير في خلقه.
وتعد الأخلاق عند الأطفال من أهداف التربية الإسلامية، وذلك لأن الخُلُق الذي يتخلق به الطفل يعد سلوكا معتادا عنده، لذا رأى الإسلام التربية الخلقية مسؤولية الأبوين.
وتظهر أهمية الأخلاق في ترشيد السلوك الإنساني في كونه يرتبط بالضرورة بالعلاقات مع الآخرين، وأن كل طرف من أطراف هذه العلاقات يسعى نحو تعظيم منفعته.
وتعتمد التربية الخلقية على تعويد النشء على الأخلاق الفاضلة والمُثُل العليا، والسجايا الحميدة حتى تصبح مكتسبات راسخة وسمات ثابتة يهنأ بها في الدارين.
والدين الإسلامي يدعو إلى الإخاء وأن يفكر المسلم في أخيه ويحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، بحيث يضع نفسه موضع غيره دائما.
هكذا قدّم الحسن البصري منهجا تربويا يتمتع بالتكامل والأصالة، فأضاء للسابقين طريقهم، ونهل منه اللاحقون من العاملين في مجال التربية فكان مرشدا لهم ومعينًا.
مصادر ومراجع:
- د. خالد سعد النجار: نظرات تربوية في فكر الحسن البصري.
- عبد الحليم محمود: تربية الناشئ المسلم، ص 28.
- الزهراني: التطبيقات التربوية لأسس البناء الفكري في السنة النبوية، ص 168.
- سامية الخشاب: علم الاجتماع الإسلامي، ص 43.
- ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/430.
- مصطفى سعيد الخن: الحسن بن يسار البصري الحكيم الواعظ، ص 81-82.
إضافة تعليق