يُعدّ ابن قتيبة من أهمّ روّاد الفكر التربوي في الحضارة العربية الإسلامية، وله إسهاماتٌ كبيرةٌ في هذا المجال، تميّزت أفكاره التربوية بالواقعية والعمق، وارتكزت على مبادئ إسلامية أصيلة، وذلك بجانب كونه أحد أشهر المحدثين الفقهاء وأحد المدافعين عن الحديث وشرح غريبه ورد الشبهات والجدل عن أهله، حتى عرف عنه أنه كاتب أهل السنة في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري.

واعتبر هذا العالم الإسلامي، اللغة العربية أساس التربية، وركيزةً أساسيةً لبناء الشخصية المسلمة، وركّز على التربية الأخلاقية، وبيّن أنّ الأخلاق الحميدة هي الأساس لنجاح الفرد في حياته الدنيا والآخرة، وأكّد أهمية العلم، واعتبره واجبًا على كلّ مسلم ومسلمة، واهتمّ بالتربية الاجتماعية، وربط بين الدين والدنيا.

من هو ابن قتيبة؟

هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ، أحد أعلام القرن الثالث الهجريّ، فقيهٌ وعالمٌ وناقدٌ وأديبٌ لغوي، وُلد في الكوفة سنة 213 هـ، ولم يبقَ فيها وقتًا طويلًا، حيث انتقل وهو صغير السن إلى بغداد، فنشأ فيها، وأخذ العلم عن علمائها، وعاش فيها معظم أيامه.

وعاش ابن قتيبة في عصر الدولة العباسيّة، وعايشها في أوج قوّتها، وعاصر الصراع بين الثقافتين: الإسلاميّة والفارسيّة، والصراع بين الأجناس العربية، والفِرق الإسلاميّة وما نتج عن ذلك كلّه، كما عاصر صعود الفِكر الاعتزاليّ وسقوطه، فأثّر ذلك في طريقة تفكيره، وظهر في مؤلّفاته.

وتتلمذ منذ نعومة أظفاره على أئمة اللغة والأدب، وأثمر علمه وتعليمه عن تصانيف كثيرة تناولت معارف أهل زمانه وقد حذا فيها حذو المبرزين من معاصريه أمثال الجاحظ، ولم تكن اهتماماته المعرفية حصيرة نطاقها الأدبي وحسب، فقد كان من المدافعين عن السنة والكتاب ضد النزعات الفلسفية والتيارات الفكرية التي عرفت في عصره، لذلك اتُّهم بالزندقة والانحراف.

وبعد أن اشتد عود ابن قتيبة، ونهل من المعرفة وأخذ قسطًا وافرًا من علوم اللغة والشرع، اختير قاضيًا لمدينة الدينور من بلاد فارس، وكان بها جماعة من العلماء والفقهاء والمحدثين، فاتصل بهم، وتدارس معهم مسائل الفقه والحديث، ثم عاد إلى بغداد، واتصل بأبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير الخليفة المتوكل، وأهدى له كتابه (أدب الكاتب)، وكان يجمع بينهما وشائج من العلم والأدب.

استقر ابن قتيبة في بغداد، وأقام حلقة للتدريس، يقرأ كتبه على تلاميذه الذين التفوا حوله، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، ومن تلاميذه: ابنه القاضي أبو جعفر أحمد بن قتيبة، وأبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه، وعبيد الله بن عبد الرحمن السكري، وغيرهم.

وقضى أبو محمد حياته في خدمة الدفاع عن عقيدة الأمة، مستغلا ثقافته الواسعة، حيث لقي ثناء المعاصرين له وتقديرهم، وعرف قدره من جاء بعده من علماء الإسلام، فوصفه الذهبي: بأنه من أوعية العلم، وقال عنه السيوطي: “إنه كان رأسًا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس”، ولبَّى نداء ربه في 15 من رجب 276هـ = 13 من نوفمبر 899م، تاركًا العديد من المؤلفات، أبرزها:

  • تأويل مختلف الحديث: مخصص في دراسة الأحاديث التي وردت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واختلف في تفسيرها وتأويلها.
  • أدب الكاتب: مخصص لفئة الأدباء من القراء، حيث يحرص فيه على تعليم شروط الكتابة وقواعدها بغية الرقي بالكتابات الإبداعية والنهوض بها.
  • المعارف: شامل لجميع ألوان المعرفة من قصص الأنبياء وذرياتهم وأصل الخلق وفيه ذكر لأنساب العرب وعمائر الأرض.
  • الرد على الشعوبية: وتفرغ في أبوابه للرد على الشعوبية والزنادقة والخارجين عن الدين، واتبع في سبيل ذلك مناهج قائمة على البراهين والعلل.
  • الاشتقاق: وعرض من خلال هذا الكتاب لخاصية الاشتقاق التي تمتاز بها اللغة العربية عن غيرها، وتناول فيها المفردات واشتقاقاتها واختلاف معانيها تبعًا لذلك وصنفها تبعًا لدلالاتها كاشتقاق أسماء الأمكنة.
  • تفسير غريب القرآن: عمد فيه لتفسير المفردات والتراكيب وتوضيحها وتجنب ما فعله المفسرون من قبله من إيراد الأسانيد وسوق الأحاديث والتعقيب بالنحو والصرف.
  • المعاني: جمع فيه أشعار العرب وتصنيفها وفقًا لموضوعاتها ومعانيها، ويفسر من خلالها كثيرًا من ألفاظ العربية التي عجزت معاجم اللغة عن تبيانها.
  • عيون الأخبار: عمد فيه لاتباع منهج جديد يكون لطيفًا ولا يشعر القارئ بالضجر والملل، وتناول فيه أخبار الزهاد وأخبار السلاطين وآداب الحرب ومكائدها، وكثيرًا من طرائف العرب ونوادرهم.
  • الشعر والشعراء: أشبه بمعجم للشعراء، لكنه يعرض للمشاهير من الشعراء الذين يحتج بأقوالهم وقصائدهم في اللغة والنحو، وترجم لكل شاعر منهم وأورد أشعاره وقصائده، بترتيب زمني يبدأ من العصر الجاهلي.
  • الإمامة والسياسة: تناول فيه أبرز أخبار الخلفاء، والخلافات التي دارت في فترة حكمهم وخلافتهم.

ملامح الفكر التربوي عند ابن قتيبة

وتتلخص ملامح الفكر التربوي عند ابن قتيبة في النقاط التالية:

  • التربية الدينية والأخلاقية: حيث أكد أهمية تربية الفرد على الدين والأخلاق، واعتبرها أساسًا لتربية الفرد المسلم، ودعا إلى غرس القيم والأخلاق الإسلامية في نفوس الأطفال منذ الصغر، مثل: الصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان، وربط بين التربية الدينية والأخلاقية والنجاح في الحياة الدنيا والآخرة.
  • التربية للمجتمع: اعتبر التربية من أهم مقومات نهضة المجتمع الإسلامي، ودعا إلى تعاون جميع أفراد المجتمع في تربية وتعليم الأجيال القادمة، وربط بين التربية والأمن والاستقرار في المجتمع.
  • التربية للفرد: اعتبر التربية من أهم مقومات سعادة الفرد ونجاحه في الحياة، ودعا إلى تربية الفرد على الاعتماد على النفس، وتحمل المسؤولية، وربط بين التربية والتنمية الذاتية.
  • العلوم والمعارف: دعا إلى تعليم العلوم والمعارف المختلفة، مثل: اللغة العربية، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والتاريخ، واعتبر العلم من أهم مقومات نهضة الحضارة الإسلامية، وربط بين العلم والإيمان، واعتبر العلم من وسائل فهم الدين الإسلامي بشكل صحيح.
  • التربية العملية: دعا إلى ربط التربية بالواقع العملي، وإعداد الطلاب للحياة العملية، وأكد أهمية تعليم الطلاب مهارات حياتية مختلفة، مثل: مهارات التواصل، ومهارات حل المشكلات، ومهارات العمل الجماعي، وربط بين التربية العملية والتنمية الاقتصادية.
  • طرق التربية الحديثة: استخدم طرقًا تربوية متنوعة تشمل التعليم النظري، والتعليم العملي، والمحاكاة، والحوار، والنقاش، ودعا إلى استخدام الوسائل التعليمية الحديثة في العملية التربوية، وأكد أهمية تفاعل الطالب في العملية التربوية.
  • دور المعلم والأسرة في التربية: اعتبر المعلم مسؤولاً عن تربية وتعليم الطلاب، ودعا إلى تأهيل المعلمين بشكل جيد، وتزويدهم بالمهارات اللازمة للعملية التربوية، وأكد دور الأسرة في التربية، واعتبرها المسؤولة عن غرس القيم والأخلاق في نفوس الأطفال، ودعا إلى تعاون الأسرة والمدرسة في تربية وتعليم الطلاب.
  • اللغة العربية: اعتبر اللغة العربية من أهم مقومات الهوية الإسلامية، ودعا إلى تعليمها بشكل صحيح، وإتقانها، وربط بين هذا الإتقان وفهم الدين الإسلامي بشكل صحيح.
  • التربية البدنية: دعا إلى الاهتمام بالتربية البدنية، واعتبرها من أهم مقومات صحة الفرد، وربط بينها وبين التربية الأخلاقية، ودعا إلى تعليم الطلاب مختلف الألعاب الرياضية.
  • التربية الجمالية: اعتبرها من أهم مقومات تنمية شخصية الفرد، وربط بينها وبين والتربية الأخلاقية، ودعا إلى تعليم الطلاب مختلف الفنون الجميلة.

مصادر ومراجع:

  1. حياة عمارة: برنامج مقياس النقد العربي القديم، ص 2.
  2. ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص 5.
  3. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص 29. 
  4. موقع المرسال: أهم مؤلفات ابن قتيبة الدينوري.
  5. الموسوعة العربية: ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم).
  6. إسلام أون لاين: ابن قتيبة أديب الفقهاء ومحدث الأدباء.
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة