عد ابن جماعة من الفقهاء التربويين الذين أكسبتهم حياة القضاء الطويلة علمًا وخبرة واسعة في دنيا الناس، وفهمًا عميقًا لفنون الرواية والدراية، فقدم إسهامات ومؤلفات تربوية تنصب على بناء الإنسان السليم لتكوين الأمة القوية والمجتمع المعافى.

وهذا العالم التربوي من أكبر الأسماء في لائحة أعلام التربية اللاحقة على فترة الإمام الغزالي، لذا سنحاول الإشارة إلى آرائه التربوية، وأحكامه في فضل العلم، ووصاياه، وآداب المعلم والمتعلم.

من هو ابن جماعة؟

هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم الكناني الشافعي، وكنيته أبو عبد الله، ولقبه بدر الدين. ويعرف منسوبًا إلى جده الرابع “جماعة”، وُلِدَ بحماة سنة 639 هـ، وعاش في كنف أبيه حياة علمية راقية، ذلك أنّ أباه كان فقيهًا متصوفًا متعبدًا، مراقبًا لله في حاله ومقاله، فنشأ بدر الدين على طريقة أبيه محمولًا على جناح العلم والتصوف سنوات عمر مديد. 

ونهل ابن جماعة العلم عن علماء أجلاء، سمع منهم وروى عنهم في حماة ودمشق والقدس والقاهرة، منهم: جمال الدين ابن مالك صاحب الألفية في النحو، والقاضي تقي الدين ابن رزين الحموي، ومسند الشام ابن أبي اليسر، وابن عزون، وابن عبد الله، وابن مسلمة، وابن القسطلاني، وأصحاب البصيري، وروى عن شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي وأنشد في كتبه من مستحسن شعره.

ولمّا أتم بدر الدين تحصيله العلمي انصرف إلى التدريس والإفتاء، فذكر أنه كان يُدرّس بالقيمرية في دمشق، وأفتى في سن مبكرة، ولمّا عرضت فتواه على الشيخ محيي الدين النووي استحسن ما أجاب به. أما السبكي صاحب الطبقات- وهو أحد تلامذة بدر الدين- فقد ذكر أنه ذو عقل لا يقوم أساطين الحكماء بما جمع فيه. 

وانتُدب بدر الدين إلى القضاء والخطابة في القدس ودمشق والقاهرة، وبقي قاضيًا للقضاة في مصر وحدها خمسًا وعشرين سنة، ولمّا استغنى لم يأخذ على القضاء أجرًا معلومًا، مقتديًا بشيخه تقي الدين ابن رزين الحموي.

وقد أكسبته حياة القضاء الطويلة علمًا لا ينضب معينه، وخبرة واسعة في دنيا الناس، وفهمًا عميقًا لفنون الرواية والدراية، فانصرف يؤلف الكتب في قواعد الحكم والأحكام الفقهية، وفي أصول البحث والمناظرة والتربية، ومنها:

  • المنهل الرويّ في الحديث النبوي. 
  • كشف المعاني في المتشابه من المثاني.
  • غرر التبيان في من لم يُسم في القرآن.
  • تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم.
  • غرر التبيان لمبهمات القرآن.
  • تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام.
  • مختصر في السيرة النبويّة.
  • مستند الأجناد في آلات الجهاد.
  • أراجيز في قضاة مصر.
  • قضاة دمشق.
  • الخلفاء.
  • رسالة في الأسطرلاب.
  • الفوائد الغزيرة من حديث بريرة.

وظل بيت بدر الدين المطل على نهر النيل موئلًا يقصده أهل العلم والأدب، إلى أن وافاه الأجل سنة 733 هـ، عن عُمر ناهز الرابعة والتسعين، ودُفن بالقرافة في القاهرة، قريبًا من الإمام الشافعي، وكانت جنازته حافلة هائلة. 

ملامح الفكر التربوي عند ابن جماعة

وتتخلص ملامح الفكر التربوي عند ابن جماعة في النقاط التالية:

  • فضل العلم والعلماء: يقدم آيات قرآنية كثيرة تؤيد مطلوبه في تبيان ما للعلم والعلماء من فضل يعم المجتمع كافة، ويلجأ إلى أحاديث نبوية وإلى أخبار وروايات يقمشها بمعانيه، وكان يقول “إن العلم مصحح للعبادات، وهي تفتقر إليه. وهو لا يتوقف عليها”.
  • آداب المعلم في نفسه: من واجب المعلم التحلي بالصفات الأخلاقية المطلوبة من رجل الدين ومن أي شخص مؤمن، فلا بد من أن يكون ذا أخلاق رفيعة، ويتحلى بالوقار والخشوع والتواضع والخضوع لله ومراقبته في السر والعلن.
  • الصفات الدينية للمعلم: أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام، وعلى المندوبات الشرعية قولا وفعلا، مثل: تلاوة القرآن، وذكر الله بالقلب واللسان، وحفظ هيبة النبي عند ذكر اسمه. ومعاملة الناس بمكارم الأخلاق، وصيانة الباطن والظاهر.
  • خصائص مهنية للمعلم: فعليه واجب المواظبة على التحصيل المستمر، والمحافظة على قراءة الأوراد قراءة وإقراء، والمطالعة والتفكر، والحفظ والتصنيف والبحث.
  • آداب في حلقة الدرس: فعلى المدرس التحضير قبل خروجه من البيت، ويعتني بالمظهر العام من تطهر وتطيب وتزين، ويقرأ الأدعية وآيات من القرآن.
  • قواعد تدريسية: على المعلم أن يتدرج في تعليم المواد، مقدمًا الأشرف من الدروس، على النحو التالي: القرآن، ثم الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الخلاف، ثم النحو والجدل.
  • التزام المنهج التربوي مع الطلاب: على المعلم أن يكون قصده من التعليم وجه الله، وأن يحسن نية طلابه في التعليم، ويرغبهم في العلم ويحترم شخصيتهم، ويُحسن تأديبهم، ويفهمهم على قدر استيعابهم، ويثني على المجيد، ويعنف المقصر.
  • مساعدة الطلاب: ويكون ذلك ماديا ومعنويا إذا اقتدر المعلم ومتى اقتدر، وتفقدهم إذا اقتضى الأمر في منازلهم، ولا بد من التواضع معهم، ومخاطبتهم بكنيتهم أو بأسمائهم وبما يفرح قلوبهم، ويسألهم عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم.
  • طهارة قلب المتعلم: فيرى بدر الدين أن القلب بغير التطهر لا يصبح قابلا لتلقي العلم وحفظه، فلا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من خبث الصفات.
  • حسن النية عند الطالب: فهي من الشروط التي يجب أن تتوفر عند المتعلم كما هي الحال أيضًا عند المعلم.
  • تحصيل العلم في الوقت المناسب: وهو فترة الشباب، على أن تكون الفترة التي تسبقها للتحفز والتهيئة والتحضير، لأن في التسويف والتأجيل ضررا للمتعلم الذي يجب عليه أن يتفرغ له دون إهمال.
  • اغتنام جميع الأوقات طلبا للعلم: ومن أفضل الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الإبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل.
  • الأكل والنوم: فمن أعظم الأسباب المعينة على الفهم أكل القدر اليسير من الحلال، وعلى المتعلم أن ينام ثلث اليوم فقط ويعطي جسمه حقه لا أكثر من الراحة.
  • اختيار الصديق الصالح: فهو يساعد على اكتساب الفضائل، والاقتداء بالصالحين، لأن “الطباع سرّاقة”.
  • آداب الطالب مع معلمه: على المتعلم طاعة شيخه والتواضع له، والاستماع والإصغاء لما يقوله باهتمام، والجلوس باحترام وأدب في حضوره.
  • تعامل الطلاب فيما بينهم: ويكون ذلك بالتسليم على الحاضرين، والجلوس حيث انتهى المجلس، والحذر من المزاحمة، وإيثار الجلوس قرب الشيخ، والتأدب والحذر من الحركات المذمومة، والمحافظة على راحة وفائدة الآخرين وعدم مضايقتهم، ومساعدة الآخرين والتعاون معهم وحثهم على التحصيل والتمسك بالدين ونصحهم والحذر والتحذير من رفاق السوء.
  • التعامل مع الكتب: لا بد من الحصول على الكتب للرجوع إليها عند الحاجة، لكن لا تصبح المصدر الأول والأخير للعلوم، فالمعلم له الأولوية في التعليم والتربية. ولا بد من الحصول على الكتاب بالطرق المشروعة.

لقد كان لبدر الدين بن جماعة دور كبير في إصلاح التعليم في عصره، وألّف العديد من الكتب في التربية والأخلاق، واهتم بتربية الجوانب الروحية والأخلاقية والعقلية للطلاب، وشدّد على أهمية التربية العملية والتطبيقية. وأكد دور المعلم في التربية والتعليم، ونصح بضرورة مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب، ودعا إلى استخدام الأساليب التربوية الحديثة، ومن أهم أفكارة أنّ التربية مسؤولية مشتركة بين الأسرة والمدرسة والمجتمع، ويجب أن تهدف إلى بناء شخصية إسلامية متكاملة، والعلم والتعلم واجب على كلّ مسلم ومسلمة.

المصادر والمراجع:

  1. محمد بن شاكر كتبي: فوات الوفيات 2/174.
  2. الصفدي: نكت الهميان 2/80. 
  3. العليمي: الأنس الجليل 2/480.
  4. ابن الأثير: البداية والنهاية 14/163.
  5. ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 9/298.
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة