على الرغم من أنّ أسد بن الفرات بن سنان كان فقيهًا مالكيًّا بارزًا وقاضي القيروان، فقد ترك بصمة واضحة في مجال التربية وتنشئة الأجيال، حيث اهتم بالقرآن الكريم والسنة النبوية وكان يحث تلاميذه على حفظهما وفهمهما، واهتم- أيضًا- بالتحصيل العلمي المتكامل؛ فلم يقتصر تعليمه على الفقه فقط، بل شمل مختلف العلوم الإسلامية، ومنها: التفسير، والحديث، والأصول.
وأولى “أسد” اهتمامًا كبيرة بالتربية الأخلاقية؛ فكان يُركّز على تربية تلاميذه على الأخلاق الإسلامية الفاضلة، مثل: الأمانة، والصدق، والعدل، واهتم كذلك بالتربية العملية، حيث كان يربط النظرية بالواقع العملي، ويحث تلاميذه على تطبيق ما تعلموه في حياتهم، ولم ينسَ التربية القيادية، وكان يُربّي في تلاميذه روح القيادة والمسؤولية، ويهيئهم لتولي المناصب القيادية.
من هو أسد بن الفرات؟
هو أبو عبد الله أسد بن الفرات بن سنان قاضي القيروان، تلميذ مالك بن أنس، وُلِد سنة 142 هجرية بمدينة حرّان من أعمال ديار بكر بالشام (وأصله من نيسابور). وكان والده قد رحل من حرّان إلى القيروان في جيش محمد بن الأشعث عام 144هـ/761م وأخذه معه وهو صغير فتربى بها وتفقه فيها.
تلقى أسد العلم بإفريقية عن علي بن زياد، ثم ذهب إلى المشرق في طلب العلم سنة 172 هـ/788م، وأخذ عن الإمام مالك، ثم ذهب إلى العراق وأخذ عن أبي يوسف والشيباني مذهب أبي حنيفة، ثم ذهب إلى مصر، فقابل أئمة الفقة من أصحاب مالك، فأخذ عن ابن القاسم.
وعمل بعد رجوعه بمهنة التدريس ونشر العلم، فكان يٌدرّس المذهبين الكبيرين السائدين في العالم الإسلامي إذ ذاك، مذهب أهل الحديث في المدينة النبوية، ومذهب أهل الرأي في بغداد، وتتلمذ عليه الكثير أمثال سحنون بن سعيد، وهو أول من أدخل مذهب الإمام مالك إلى الجزائر.
واتخذ ابن الفرات القيروان مقرًّا له عقب رجوعه، فأقبل عليه الأفراد من كل حدب وصوب، من المغرب والأندلس، فاشتهر وظهر علمه وارتفع قدره، وجاءته الأسئلة من أقصى البلاد ليجيب عنها فكان؛ يجلس إليه أتباع مذهب مالك، وأصحاب المذهب العراقي، فيأخذ في عرض مذهب أبي حنيفة، وشرح أقوال العراقيين، فإذا فرغ منها صاح صائح من جانب المجلس: “أوقد المصباح الثاني يا أبا عبد الله”، فيأخذ في إيراد مذهب مالك وشرح أقوال أهل المدينة، فكان هذا نهجا جديدا في دراسة الفقه المقارن.
وفي عام 204 هـ/819م وُلّي قاضيا على القيروان وظل بهذه الخطة إلى أن عزم “زيادة الله بن إبراهيم” فتح صقلية فعينه أميرًا على الجيش والأسطول ووجهه إلى فتح جزيرة صقلية سنة 212 هـ/827م فخرج بتسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل، ووصل بعد خمسة أيام إلى مرسى مزارا في جنوب غرب صقلية الموافق يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 212 هـ/17 يونيو 827 م وفتحها. ثم مات ابن الفرات بمرض الطاعون خلال حصاره لمدينة سرقوسة في شهر ربيع الثاني سنة 213 هـ/828 م ودفن في قصريانة.
ملامح الفكر التربوي عند أسد بن الفرات
وتتلخص ملامح الفكر التربوي عند أسد بن الفرات بن سنان في النقاط التالية:
- التدريس: حيث اعتبره “أسد” من وسائل الدعوة الجيدة إذ به يتم التخاطب والتفاهم وتلقي العلم والمعارف، لذا جلس للتدريس وقضى شطرًا من عمره يدعو الناس إلى دين الله ويدافع عن سنة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، ويتعرف من خلاله إلى أحوال كثير من التلاميذ فيرشدهم ويصلح من أحوالهم.
- طلب العلم: كان يحث الناس على طلب العلم وتحصيله وتدوينه ولا يجد فرصة لذلك إلا استغلها فنجده عند خروجه إلى صقلية مجاهدًا في سبيل الله وقد اجتمعت الجموع لم ينسَ العلم وأهميته بل استغل وجود هذه الحشود الضخمة فراح يذكرهم بأهمية العلم وأنه سبب وصوله إلى ما وصل إليه لا غيره من حسب ونسب.
- دراسة أحوال التلاميذ: فقد كان يتحرى أحوال من يدرس لهم ويعرف أوضاعهم ويمنعهم من تعطيل أسباب معاشهم لأجل العلم.
- العقيدة: وكان أسد يغرس في قلوب السامعين دروسًا من العقيدة لتنجيهم من الوقوع في البدع والشرك، ويحذر من أقوال المضللين والفسقة مستخدما الكلمات الفاضحة والمنفرة.
- التفسير: وجعل أسد للتفسير حظا من دروسه فكان يبين من خلاله معاني القرآن الكريم ويحذر من البدع وأهلها.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وحرص أسد على غرس مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نفوس التلاميذ.
- الخطابة: ورأى أسد أن الخطابة من أهم وسائل تبليغ الدعوة إلى الناس حيث إنها أعظم وسيلة قولية لتوصيل دعوته إلى المدعوين واستمالتهم نحو ما يدعوهم إليه وإقناعهم به عن طريق المشافهة بين الداعي والمدعو، كما أنها وسيلة لرفع الحق وخفض الباطل وإقامة العدل ورد الظلم ولذلك شرعت خطبة الجمعة والعيدين في الإسلام.
- الحث على نشر العلم: ويكفي أن أسدا رجل اشتهر بالعلم والدين وقد صنف كتاب الأسدية في فروع المالكية، وهو من أقدم مصادر الفقه المالكي، وقد رحل إليه الناس من البلدان وسمعوا عليه وتفقهوا به، ويعد إماما من أئمة المسلمين، وشيخًا من شيوخ الإفتاء ورئيسًا من رؤساء القضاة، وأول من جمع بين القضاء والإمارة في إفريقية.
- مناصحة ولاة الأمر: أدرك أسد أن دعوة ولاة الأمور ومناصحتهم من الأهمية بمكان، حيث إن كلمتهم مسموعة وأوامرهم نافذة وتأثيرهم في المجتمع كبير، فكان يتردد عليهم وينصحهم، ويحاول الإصلاح ما استطاع.
- القدوة طريق إلى التربية: إذ رأى أسد أن تأثير القدوة عفويا، وهو العالم الجليل القدوة الذي تولى منصب القضاء والفتوى، بجانب أنه كان عابدًا زاهدًا لا ينظر إلى حطام الدنيا منصرفًا عنها لا تغريه مفاتنها ولا تفتنه زينتها
- الوعظ والإرشاد: فكان ابن الفرات داعية رباني لا يدخر وسعًا للتأثير على الناس، فنجده يعظهم ويذكرهم ويخوفهم بالله ويختار من الأمور التي يكون لها وقع في نفوسهم. وكان يحثهم على فعل الخيرات ويذكرهم عواقبها الحميدة ويحذرهم من السيئات وما يؤول أمر صاحبها إليه من الأمثلة.
- ترك ملذات الدنيا: وهو ما كان يحث عليه الجنود، ويذكرهم بالإيمان بالله وأنهم أٌوى من قوة الأعداء بالحسنيين التي تنتظرهم إما النصر أو الشهادة، وكان يأمرهم بحصر أمانيهم في الاستشهاد في سبيل الله، فهو النعيم حقيقة.
كان أسد بن الفرات تربويًا فذًّا، ترك بصمة واضحة في تاريخ الفكر الإسلامي، واستطاع من خلال منهجه التربوي المتكامل أن يخرج أجيالًا من العلماء والفقهاء الذين ساهموا في نشر الإسلام وتقدمه.
مصادر ومراجع:
- الذهبي: سير أعلام النبلاء 10/226.
- د. يوسف السند: أسد بن الفرات.. الفقيه والقاضي والقائد الشهيد.
- الموسوعة العربية: أسد بن الفرات.
- المالكي: رياض النفوس 1/255.
- علي الحوسي: أسد بن الفرات، ص 54-55.
إضافة تعليق