مهمة التربية ليست تفصيل إنسان على مزاجنا، ولكن تنمية استعدادات إنسان، وتهيئته ليعيش بكامل قواه المعنوية، والمادية في هذه الحياة..

نحن ننظر إلى أبنائنا ونتمنى أن يكون هناك مصمِّم للسلوك البشري، يقوم بتفصيل ألوان من السلوك الراقي لهم، أو أن تكون هناك قطع غيار لسلوك لا يعجبنا في أبنائنا، فنستبدله بسلوك آخر نراه مناسبًا.

ولكن هيهات، فليس هناك مصمم سلوك بشري كمصمم الأزياء، وليس لنا الاختيار السهل لما نريد من سلوكيات نختارها لأبنائنا، كما نختار أقمشة ملابسنا، وإنما هو الجهد البشري الذي نقوم به بأنفسنا، فيغيّر الله ما بأبنائنا من سلوكيات لا نقبلها.

وفي كل الأحوال؛ لا بد أن نوقن أن مهمة التربية ليست تفصيل إنسان على مزاجنا، ولكن تنمية استعدادات إنسان، وتهيئته ليعيش بكامل قواه المعنوية، والمادية في هذه الحياة، على نحوٍ يحقق عبوديته لله تعالى، ويقدِّم قدوة السلوك الإنساني لكل الناس في كل الأرض، ولكي نصل إلى هذا الهدف، فنحن في أمسِّ الحاجة إلى إخراج أبنائنا من عبادة العِباد، فكيف السبيل إلى ذلك؟

 فليس هناك مصمم سلوك بشري كمصمم الأزياء، وليس لنا الاختيار السهل لما نريد من سلوكيات نختارها لأبنائنا، كما نختار أقمشة ملابسنا، وإنما هو الجهد البشري الذي نقوم به بأنفسنا، فيغيّر الله ما بأبنائنا من سلوكيات لا نقبلها.

إن العقيدة هي التي تبني في صميم وجدان الابن أخلاق الفكر، وأخلاق النفس، وأخلاق السلوك؛ ولذلك فإن المنهاج التربوي الصحيح يبدأ بترسيخ الجانب العَقَدي في قلب الابن؛ ليصل بشكل هَرَمي إلى تهذيب أخلاقه(1).

وترسيخ العقيدة في قلب الابن يأتي من خلال التركيز على ما وصفه ابن تيمية -رحمه الله- بـ"محبة العامة"، وهي محبة الله تعالى لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد؛ فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها(2).

فيحدِّث – الأب، والمربي - الابنَ عن نعم الله الكثيرة، ويربط بينها وبين التزام المسلم بعبادته لله سبحانه، ثم تَخلُّقه من خلال هذه العبادة بأخلاقيات الإسلام، فيقول: "إن الله سبحانه هو الخالق الرازق الكافل الحافظ المنعم المتفضل القريب المجيب الرحيم الودود، فحياء منه، واعترافًا بفضله، وشكرًا لنعمته يلتزم المسلم بما يحبه الله، ويرضاه.

إن الله سبحانه هو العلي الكبير العظيم، فتوقيرًا لجلاله، وخشوعًا لعظمته، وإنابة لوجهه، يلتزم المسلم بما يحبه، ويرضاه.

إن الله سبحانه هو العليم المحيط المطلّع على سر العبد، ونجواه، الخبير بظواهره، وخفاياه، المصاحب له في كل ما هجس في خاطره، وفي كل ما كسبت يداه، وهو في الوقت ذاته القادر القاهر المهيمن المتجبر، الذي لا مهرب منه ولا فَوت، ولا مجير عليه، ولا رادّ لحكمه، كما أنه هو الحسيب الذي يجزي السيئةَ بالعدل، ويجزي الحسنةَ بالفضل، فخشيةً لجبروته، وطمعًا في ثوابه، وخوفًا من عقابه، يلتزم المسلم بما يحبه، ويرضاه.

إن من القلوب ما يذوب خجلًا وحياءً أن يطلع منه الخالق الرازق الكافل الحافظ المنعم المتفضل القريب المجيب الرحيم الودود على ما لا يحبه، ويرضاه.

ومنها: ما يرتعد توقيرًا وتعظيمًا لجلال الله العلي الكبير العظيم أن يطلع منه على ما لا يحبه، ويرضاه.

ومنها: ما يمنعه الخوف من العقاب، والطمع في الثواب أن يقدم على ما لا يحبه الله، ويرضاه.

وكلها إنما تلتزم هذا الالتزام نتيجة للمعرفة الصحيحة بحقيقة الألوهية"(3).

وهكذا، يتعرّف الابن إلى الله بأسمائه، وصفاته، ويثني عليه سبحانه بما هو أهل له، حتى يصير الإيمان بربوبيته عز وجل أمرًا راسخًا في قلبه، مؤثِّرًا في نفسه، متحركًا في واقعه، وليس نظرية باردة في ثلاجة ذهنه.

ويأخذ حظَّه من عبودية أسمائه سبحانه جميعها، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، فلا يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع، أو عبودية اسمه الرحيم، والعفو، والغفور عن اسمه المنتقم"(4)، بل يعبد الله سبحانه، ويدعوه بكل أسمائه، كما أمر سبحانه: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" [الأعراف:180].

وما كان يسوغ الاتصاف به من صفات الله عز وجل، كالرحيم، والكريم، فيدرَّب الابن على الاتصاف بها فيما يليق به.

وما كان من صفات الرب سبحانه فيه معنى الوعد، كالغفور، والغفو، والشكور، فيقف الابن منه عند الرغبة، والرجاء.

وما كان من صفات الله عز وجل فيه معنى الوعيد، كالجبّار، والمنتقم، وشديد العقاب، وسريع الحساب، فيقف الابن منه عند الخشية، والخوف.

وما كان من صفاته سبحانه وتعالى فيه معنى الاطّلاع، والعلم، كالعليم، والسميع، والبصير، فيقف الابن منه عند الحياء، والخوف أن يراه الله عز وجل حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره، أو يسمع منه منكرًا، أو كذبًا، أو يرى منه معصية، أو فجورًا.

وبالجملة؛ يهتم الأب، والمربي بإحياء الآثار الإيمانية لهذه الأسماء والصفات من أعمال القلوب -كالحب والبغض، والخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والإنابة والخشوع، وغيرها- في نفس الابن؛ حتى يقِرَّ في قلبه أنه لا حياة إلا بالعقيدة، فيعيش لها، ويضحِّي في سبيلها بماله، ونفسه؛ لأنه يؤثر حب الله على كل حب، كما أمر الله عز وجل: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله" [البقرة:165]، ولأنه من خلال حب الله الذي يملأ قلبه يفهم قول ربه الذي جمع كل منافع الأرض في كفة، ووضع الإيمان في الكفة الأخرى، وترك الخيار للناس، "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" [التوبة:24](5).

إن الحب هو الصلة بين العبد وبين ربه "يحبهم ويحبونه" [المائدة:54]، الحب هذا الروح الساري اللطيف المشرق الرائق البشوش، هو الذي يربط المؤمنين بربهم الودود، وحب العبد لربه نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، وإذا كان حب الله لعبدٍ من عبيده أمرًا هائلًا عظيمًا، وفضلًا غامرًا جزيلًا؛ فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه، وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد -إلى ما لا نظير له في مذاقات الحب كلها، ولا شبيه- هو إنعام هائل عظيم، وفضل عامر جزيل.

وإذا كان حب الله لعبدٍ من عبيده أمرًا فوق التعبير أن يصفه، فإن حب العبد لربه أمرًا قلما استطاعت العبارة أن تصوِّره، إلا فلتات قليلة من كلام المحبين.

وهذا هو الباب الذي تفوّق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين –وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف، ويعرف في سجلهم الطويل– ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسِّي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد، وهي تقول:

فليتك تحلو والحياة مريرة       ...  وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر    ...  وبيني وبين العالمين خراب


(1) راجع إن شئت كتابنا: "الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة" فصل: "التربية الشاملة".

(2) مجموع الفتاوى – ابن تيمية – (10/84).

(3) مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب – ص(219).

(4) مدارج السالكين – ابن القيم – (1/452).

(5) الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة – المؤلف – ص(100).

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة