النقاش وسيلةٌ تربويةٌ ناجعةٌ لصقل شخصيات الأبناء، وعلاج
السلوكيات غير المرغوب فيها؛ إِنْ أحسن الوالدان استثماره وتوظيفه التوظيف الأمثل،
إلا أنَّنا نميل في كثيرٍ من الأحيان -بعمدٍ وبغير عمدٍ- إلى فرض قراراتنا وآرائنا
تحت تهديد السلطة الأبوية، لانطلاقنا من قناعات مُسَبَّقة أن أبناءنا لا يُدركون
مصلحتهم، وقد يكون في قناعاتنا تلك جزءٌ كبيرٌ من الصحَّة؛ لكنَّ معالجةً كهذه تقع
موقع التذمُّر والتَّسخُّط من أبنائنا تَظهر على ردود أفعالهم كرفع الصوت، أو عدم
تلبية الطلب، أو التأفُّفِ وغير ذلك.
أهمية النقاش:
لو أردنا أن نبرز أهمية التربية النقاشيَّة
للأبناء؛ فإنَّنا نجملها في الأغراض التي نهجها النبي صلى الله عليه وسلم في
النقاش، فمن ذلك:
1.
النقاش لتثبيت مبدأ:
المبادئ لا تقبل المساومات، لذا فإنَّك تحتاج
لتثبيتها في نفس المتربي أن تكون خاتمة النقاش صريحة مؤكِّدةً على تلك المبادئ، يأتي
عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: إنا نسمع أحاديث من يهود
تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوِّكون أنتم كما تهوَّكَت اليهود
والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيًّا؛ ما وسعه إلا اتباعي([1]).
وها هو صلى الله عليه وسلِّم يؤكِّد على قيمة
العدل في التعامل مع الأبناء كقيمةٍ لا يجدر بوالدٍ أن يسقطها من قاموس تعامله مع
أبنائه، جاء ذلك في ختام نقاشه مع بشير أبي النعمان رضي الله عنه حين أعطى
أحد أبنائه عطيَّةً، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَكُلَّ ولدك وهَبْتَ
له مثل هذا؟، فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فلا تشهدني إذًا،
فإني لا أشهد على جور"([2]) .
2.
النقاش لمعالجة سلوك:
يتأتَّى بالنقاش معرفة الدافع نحو أيِّ سلوكٍ، وبمعرفة الدافع تبدأ معالجة
الخلل الحاصل في ذلك السلوك، يُقَبِّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن، وعنده
الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قبَّلْتُ منهم أحدًا، فنظر
إليه رسول الله، ثم قال: من لا يَرْحَم لا يُرْحَم([3]).
وهي رسالة مبطَّنةٌ للأقرع تطلب منه تعديل السلوك الخاطئ الذي يمارسه مع أبنائه.
ومن النقاش الذي عالج السلوك: الحوار الذي دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين غلام
كان يرمي الشجر بالحجر؛ ليأكل من البلح، يقول رافع بن عمرو الغفاري: كنت وأنا غلام
أرمي نخلاً للأنصار، فأُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل: إن ها هنا غلامًا
يرمي نخلنا، فأُتي بي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا غلام، لِمَ ترمي
النخل؟))، قال: قلت: آكُلُ، قال: ((فلا ترمِ النخل، وكُلْ ما يَسقط في أسافلها))،
ثم مسح رأسي وقال: ((اللهم أشبِعْ بطنَه)).([4])،
لقد ساهم هذا النقاش في تعليم الصبي الفرق بين
الحلال والحرام، تمامًا مثل الفرق بين ما يسقط منها بفعل الرياح، أو الطير، أو
غيره، وبين ما نسقطه نحن برميها بالحجارة، لقد علَّمه صلى الله عليه وسلم أن يحتاط
دائمًا في طعامه، ولا يأكل إلا حلالاً، وكان يمكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن
ينصحه مباشرة؛ لكنه آثر أن يحاوره؛ ليسمع منه، ثم يوجهه إلى ما فيه الخير([5]).
وشواهد السيرة مليئة بنماذج من تلك النقاشات التي هدفت لتعديل السلوك وتقويمه.
3.
تصحيح مفهومٍ أو تصوُّرٍ:
عندما يبني أحد
الصحابة تصوُّرًا أو مفهومًا خاطئًا يتولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعادته للتصوُّر
السليم من خلال النقاش، ففي باب العورات والاستئذان يسأل رجلٌ رسولَ اللَّهِ صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أستأذِنُ على أمِّي، فقالَ: نعَم. فقالَ
الرَّجلُ: إنِّي معها في البيتِ! فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ:
استأذِنْ عليها. فقالَ الرَّجلُ: إنِّي خادِمُها! فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: استأذِنْ عليها، أتحبُّ أن تراها عُريانةً؟! قالَ: لا، قالَ:
فاستأذِن عليها.([6])، وفي قضايا الأعراض والأخذ بالمظنَّة والشبهة
يحلحل رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوُّرًا كان سيُجنى من ورائه تصدُّعٌ في
الأسرة لو بقي ذلك التصوُّر كما هو، فقد ولِد لصحابيٍّ غُلَامٌ أسْوَدُ لا يشبهه، فظنَّ
فيه ظَّنَّ السَّوء؛ فَقالَ له صلى الله عليه وسلم: هلْ لكَ مِن إبِلٍ؟ قالَ:
نَعَمْ، قالَ: ما ألْوَانُهَا؟ قالَ: حُمْرٌ، قالَ: هلْ فِيهَا مِن أوْرَقَ؟ قالَ:
نَعَمْ، قالَ: فأنَّى ذلكَ؟ قالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ،
قالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هذا نَزَعَهُ([7]). وهكذا كان النقاش
بوابةً لبناء التصورات والمفاهيم السليمة، ووسيلةً لا يمكن إغفالها في تربية
الأبناء.
4.
النقاش لحفز الهمة نحو العمل:
رتبة
المفاضلة بين الأعمال كانت حاضرة في سؤالات الصحابة رضي الله عنهم ونقاشاتهم، يقول
ابن مسعود: سَأَلْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟
قَالَ: الصَّلَاةُ علَى مِيقَاتِهَا، قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ برُّ
الوَالِدَيْنِ، قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ
فَسَكَتُّ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ
لَزَادَنِي([8]). لقد كشَّف ذلك
النقاش عن مراتب العمل الصالح، وجعل ابن مسعود رضي الله عنه ومن يقرأ هذا الحديث
في حفزٍ دائمٍ لهمته أن يأخذ بأبواب الأعمال الصالحات التي بها تحصل الأفضلية عند
الله تعالى. ولقد جاء النقاش مثمرًا لحفز همَّة ابن عمر رضي الله عنه لقيام الليل،
فحين قصَّت حفصة بنت عمر رضي الله عنها رؤيا رآها أخوها عبد الله؛ قال رسول الله
عليه الصلاة والسلام: «نعم الرجل عبد الله؛ لو كان يصلي من الليل»، فكان بعدُ لا
ينام من الليل إلا قليلًا([9]).
5.
النقاش للاستلطاف، وكسر الجمود:
يُستخرج بالنقاش أبعاد الشخصية، كما يقرِّب المسافات التي تبتعد بالأب عن
أبنائه في لباس الرسمية، وثوب الأوامر فقط، وما حادثة "ما فعل النغير"
إلا خير شاهدٍ على ذلك الاستلطاف، والنقاش وسيلة كذلك للمواساة وحمل الهموم عن
المهموم الذي ربَّما احتاج فقط إلى مَن يسمع منه؛ وإن لم يقدِّم له حلًّا، هذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم يواسي بكلماته سعد بن مالك بن سنان، لـمَّا خرج يتلقى رَسُول
اللَّهِ حين رجع من أحد، وقد استشهد والده، نظر إليه رسول الله، وَقَالَ: سعد بن
مالك؟!، قال: قلت: نعم بأبي وأمي، ودنوت منه فقبلت ركبته، فقال: "آجرك الله
في أبيك"([10]).
مبادئ في النقاش:
حتى نكوِّن البيئة التربوية المناسبة للنقاش المثمر لنا مع
أبنائنا، يلزم التنبيه على أهمِّ ضوابط النقاش، ومنها:
1.
اللغة الحانية لا المستعلية:
اللغة التي تبني جسور الثقة مع الأبناء، احذر
أن تُظْهرهم بموقف العاجز، أو تتندَّر بتساؤلاتهم وآرائهم، اجعل نقاشك معهم قائما
على المحبة، وإرادة الخير لهم، عرِّفهم بوجهة نظرك ومبرِّرات رأيك، واسمع منهم؛
فلربَّما صوَّبوا لك، أو لفتوا نظرك لبُعدٍ كان غائبًا عنك، النقاش ليس مجرد فرض
رأيٍ، أو إصدار أمرٍ، وإنما هو مدخلك مع أولادك للارتقاء بمهارات التواصل لديهم،
وتنمية عمليات التفكير، والحوار والإقناع.
انزل في حوارك معهم
إلى مستواهم حسب عمرهم وخبرتهم في الحياة، ولا تناقشهم بمستواك أنت وتفكيرك،
فبينكم بونٌ شاسعٌ، جميلٌ أن تجعل نقاشك معهم عن اهتماماتهم وما يحبون، كلعبةٍ، أو
رياضة تستهويهم، أو فنٍّ يمارسونه، فإنهم ينبسطون معك، وينفتح بهذا أبواب كثيرة قد
تكون مغلقة. علِّمهم بالنقاش ضبط الانفعالات والغضب، وعدم الانتقاد الجارح، وكن
أنت القدوة العملية في ذلك باحترامك لمشاعرهم، وأفكارهم، وإياك أن تسخر أو تستهزئ
بآرائهم مهما كانت في نظرك صغيرة أو تافهة، أو كان فكرهم محدودًا، أو أفكارهم بسيطة،
فإن ذلك يكسرهم ويصيبهم بالإحباط والانكسار، إنَّنا بحسن إدارتنا لنقاشاتنا مع
أبنائنا نرتقي بسلوكياتهم وردودهم مع الأصدقاء والبغضاء، وهي تؤسِّس لشخصيات يكون
لها حظُّها من التأثير مستقبلًا.
2.
الاقتراب الجسدي:
نقاشنا
مع أبنائنا ليس حلبة مصارعة، أو محكمة للإدانة، أو مخفرًا للتحقيق، لذا يجدر أن
نُفيد من كلِّ ما مِن شأنه أن يلطِّف جوَّ النِّقاش معهم، لا تناقشهم وأنت واقف،
أو مشغول البال بأمرٍ لم تنهِه، اطلب منهم أن يقتربوا منك؛ فإن لم؛ فاقترب أنت،
احضنهم، اطبع قبلة قبل بدء النقاش وأثنائه، ولا يكن الحديث جافًّا عن عبارات
الإشادة: جميلٌ هذا الرأي، أفخر أن أسمع هذه النقطة منك، توقُّعت منك هذا؛ فوجدت
أكثر مِمَّا توقَّعت، كلماتٌ قد لا تلقي لها بالًا؛ لكنها تُكَشِّف عن مكنَزٍ من
الثقة يجنيه أولادك يومًا بعد يوم.
تأمَّل كيف ناقش الرسول صلى الله عليه وسلم
الشابَّ الذي استأذنه في الزنا، أمَّا القوم فقد أقبلوا عليه وزجروه، وقالوا: مه
مه، أما المربي صلى الله عليه وسلم فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، فجلس، وهنا بدأت
رحلة الإقناع والنقاش: أتحبه لأمك؟ لابنتك؟ لأختك؟ لعمتك؟ لخالتك؟...([11])، وبذا تحققت
الغاية من النقاش.
3.
اترك مساحة من اتخاذ القرار:
حاور طفلك بلطف،
وإياك أن تغضب أو تعنِّف، أو تفرض رأيك بالقوة،
أو تلغي رأيه، ناقش حتى الإقناع، وامزج العقل بالعاطفة، أثنِ عليه وعلى لغته
وحواره، ولا تقترب من مناطق التماسِّ التي تصبُّ النار على الزيت، دعه يقرِّر
لاحقًا، ولا تستعجله وإن بدا لك أهمية قراره، أنت تبني فيه التؤدة في التفكير،
والهدوء في اتخاذ القرار، وتُشعره بأن رأيه له اعتبارٌ عندك لأنك لم تلزمه أو
تفرضه.
ويجب التنبيه هنا
على (اللاءات
الثلاث) التي لا يجب أن يقبل الوالدان من أبنائهم معها تأخيرًا أو
تفكيرًا، والأصل أن تبقى هذه اللاءات نقاطًا حمراء متعارفًا متَّفقًا عليها بين
الآباء وبنيهم، هذه اللاءات هي: (لا للحرام الشرعيِّ)، كالنقاش حول شراء ما يغضب
الله تعالى، أو الذهاب لأماكن يكثر فيها المخالفات الشرعية، إلخ..، و(لا لما فيه
ضررٌ على الصحة)، كالسهر الزائد، والجلوس أمام الشاشات الساعات الطوال، والكسل
والسمنة...إلخ، و(لا لما فيه مخالفة للقانون) كمخالفات قوانين الدولة في المرور،
وحركة السير، وغيرها.
ختامًا:
يتحتَّم على
الوالدين تكثيف التواجد بنقاشاتهم وأسئلتهم مع أبنائهم، نقاشًا يثمر عن تعزيز
منظومة القيم، وتأكيد المعارف التي لا يسعهم جهلها في شؤون دينهم، ويؤسِّس
لمهاراتٍ حياتيِّة تعينهم على تبعات ما يأتيهم من أيام وأوقاتٍ.
التربية غرس مبادئ، وتأصيل عقائد،
وتقويم أخلاق وأفكار وتصورات، وكلها بحاجة إلى والِدَين يملكان فضيلة الصبر،
ويجيدان المُكْث واللّبث على رأس أدوارهم التربوية، وإنما تُساسُ البيوت بالحوار
الهادئ، والنقاش البنَّاء الذي ينقلها من المهاترات الكلاميَّة إلى المهارات
الحياتيَّة، من التخالف إلى التكاتف، ليكون بحقٍّ لكلِّ من قصده أو سكنه: (بيتٌ
أسِّس على التقوى)، فاللهم أصلح أحوالنا وأولادنا.
إضافة تعليق