إذا أردنا أن نكوّن رجالًا فعلينا أن نكوّن أمهات دينيات، ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًّا، وتربيتهن تربية إسلامية. وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكوّنّ لنا عظماء الرجال
منذ أن وطئت فرنسا أرض الجزائر وهي تعمل على محاربة الإسلام، لأنه يوحد الجزائريين تحت رايته، ويبعث في نفوسهم التحرر إلا من عبودية الله. ثم هي عبثت في اقتصادهم ومواردهم، وصاغت تعليمهم وفق ما تمليه سياسة المستعمِرين، وكادت الجزائر أن تكون قطعة من فرنسا لولا رحمة الله تعالى ثم المقاومة.
الشيخ عبد الحميد بن باديس كان الشخصية الأبرز في تلك المقاومة.. المقاومة الإسلامية الناعمة، حيث اتخذ من التربية والتعليم إستراتيجيةً لإعادة الهوية الإسلامية إلى الجزائر. وقصته مع التربية والتعليم طويلة ومتفرعة، ونظراته في التعليم محلّ اعتناء واقتداء؛ يقول رحمه الله عن التعليم الإسلامي للبنات:
«إذا أردنا أن نكوّن رجالًا فعلينا أن نكوّن أمهات دينيات، ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًّا، وتربيتهن تربية إسلامية. وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكوّنّ لنا عظماء الرجال»[1]. فجعل رحمه الله من الاعتناء بتربية وتعليم البنات أمرًا بالغ الخطورة في العمل الإسلامي لتغيير المجتمع، ثم ترجم ذلك عمليًّا بما لا يسع سرده في هذه المقالة؛ حيث فتح أبواب الدراسة بالمجَّان للفتيات في قسم خاص في جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وقدّم الدروس والمحاضرات للنساء، مع مخاطبتهن في المجلات.
هنا يبرز سؤال مهم: هل التعليم الديني المنظم للبنات واجبٌ شرعيٌ؟
لا شك أنَّ التعليم الديني للبنات مسؤولية شرعية واجبة سواء كان ذلك منظمًا أو غير منظم، وهذا أمرٌ بدهي في المجتمع المسلم، أو هكذا ينبغي أن يكون: تطالب النساء به، ويعمل الرجال على إيجاده. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غَلَبَنا عليك الرجالُ، فاجعل لنا يومًا من نفسك. فوعدهنّ يومًا لقِيَهُنّ فيه فوعظهن وأمرهنّ... الحديث[2].
لم يكتفِ النساء بالتعليم الذي قدَّمه النبي صلى الله عليه وسلم عامًّا للجنسين، بل طالبْنه بتعليمٍ خاصٍ بهنَّ، وهذا دليل فضيلةٍ فيهن. قال ابن حجر: وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلّم أمور الدين[3].
ومما يستفاد من الحديث آنف الذكر: تنظيم تعليم الإناث، فيكون لهن وقت مخصوص ومكان مخصوص لا يشاركهن فيه الرجال، ولذلك بوّب البخاري: «هل يُجعَلُ للنساء يومٌ على حِدَةٍ في العلم؟»، بل جعله ابن الملقّن حقًّا على الإمام أن يفعله؛ كما قاله عطاء[4].
إذنْ؛ هذا الحديث يشير إلى مفهومين في غاية الأهمية: المفهوم الأول: حقُّ المرأة في التعليم الديني، والثاني: التنظيم الإداري الصحيح لتعليم المرأة.
وبناء عليه؛ فإنّ العناية ببنات المسلمين بتعليمهنّ ما يحتجنه مما يُصلِح دينهم ودنياهم يشير إلى مدى الوعي لدى قيادات المجتمع والمؤثرين فيه، كما يعني أننا نرقب ميلادَ جيلٍ جديدٍ يحمل مشاعل الهداية ويستضيء بنور القرآن؛ قد تربى في أحضان أمهاتٍ تلقَّين التربية القرآنية كما ينبغي.
أم الدرداء الصغرى
هي زوجة الصحابي المقرئ أبي الدرداء، هُجَيْمَةُ بنت أبي حدرد الأوصابية الحميرية الدمشقية. السيدة العالمة الفقيهة، روت علمًا جمًّا عن زوجها أبي الدرداء، كما روت عن عائشة وأبي هريرة وغيرهم.
عرضت أمُ الدرداء القرآنَ على أبي الدرداء وهي صغيرة، واعتنى بها حتى اشتهرت بالعلم والعمل والزهد[5]، وكانت - وهي صغيرة - تجلس في حِلق القراء تتعلَّم القرآن، إلى أن قال لها أبو الدرداء: الْحَقِي بصفوف النساء[6]. وهذا يعني وجودَ حلقةٍ أو أكثر لتعليم البنات كتابَ الله، أو أن النساء كنَّ يجلسن صفوفًا خلف صفوف الرجال؛ كما هو الحال في صفوف الصلاة. كما يعني أنَّ الحلْقة لم تقتصر على تعليم قراءة القرآن فقط، بل تشمل تعليم أحكام القرآن، مما ساهم في إكساب أم الدرداء الفقه.
ثم تتطور الأمر بها حتى أصبحت مقرئة معلمة، لها حلقتها في مسجد دمشق. قال يحيى الغساني: كان عبدالملك بن مروان كثيرًا ما يجلس إلى أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق[7] (لاحظ كلمة كثيرًا). وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى القباني عن أبيه عن جده قال: كان عبدالملك يجلس في حلقة أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق، فقالت له: بلغني أنك شربت الطِّلا [نوع من الخمر] بعد العبادة والنسك. فقال: إي والله، والدِّمَا أيضًا قد شربتها. ثم جاءه غلامٌ كان قد بعثه في حاجة، فقال: ما حبسك لعنك الله؟ فقالت أم الدرداء: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإني سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم الله يقول: «لا يدخل الجنة لعّان...»[8].
وبعيدًا عن ارتياد الخليفة عبدالملك بن مروان لهذه الحلقة وبواعثه، فإن الشاهد من هاتين الروايتين وجود حلقة دائمة لأم الدرداء في المسجد الجامع بدمشق.
معالم التربية القرآنية في حلقات البنات:
التربية القرآنية في الأساس هي تربية موجهة للجنسين، فإن خطاب الشريعة شامل لهما؛ قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ} [آل عمران: ١٩٥]، لكنها خصّت النساء ببعض الجوانب، كما خصت الرجال ببعضٍ آخر، وهذا مقتضى الحكمة الإلهية، حيث الحاجة إلى التخصيص. وإذا تجنبنا الإغراق في التفاصيل وحاولنا تلمس العناوين العريضة لجوانب التربية القرآنية للنساء فإننا سنتحصل على جوانب متعددة؛ كرّر القرآن الكريم تفاصيلها منوِّهًا بأهميتها. هذه الجوانب هي مما ينبغي على الحلقات القرآنية للبنات أن توليه مزيد عناية ببرامج ومقررات تسهم في إنجاح التربية القرآنية للبنات:
1 - المفاهيم والتصورات:
إحدى أهم القضايا التي جاء القرآن بمعالجتها: التصورات الخاطئة التي أورثتها الجاهلية وأورثها البعدُ عن دعوات الأنبياء، وتكمن أهمية تصحيح ومعالجة التصورات والمفاهيم في كونها المحرك الأساسي للسلوك والباعث على اتخاذ المواقف، فقام القرآن الكريم بتأسيس مفاهيم وتصورات وتصحيح الأغلاط الحادثة فيها. وعلى سبيل المثال: أحد الأمور التي يشير إليها قول الله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: ٣٦]: الفوارق الطبيعية بين الذكر والأنثى على وجه العموم، كما أن قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: ٣٤] يشير إلى فطرية القوامة وأنها بيد الرجل للمبررات المذكورة في الآية، وهذا يؤكد الفارق المادي بين الجنسين.
إن الضغط الثقافي الملوَّث على الفتاة المسلمة اليوم أوجد قناعة تزداد ثبوتًا يومًا بعد يوم بمفهوم المساواة بين الجنسين. وهو مفهوم جاهلي يضاد مفاهيم الإسلام وتصوراته، وبمرور الوقت وتعاقب الأجيال سيتحول إلى بدهية ثقافية تورث الشقاء للمرأة والمجتمع كله.
كم تحتاج الفتاة التي التحقت بحلقة القرآن الكريم إلى مناقشةٍ، ومعالجةٍ شمولية وموضوعية.. مُقنِعة لمفهوم الفوارق بين الجنسين، وتطبيقات هذا المفهوم في زماننا الذي تتعالى فيه الأصوات منادية بتشغيل المرأة وتفعيلها في خطط التنمية؛ مستندة إلى اتفاقيات دولية ودراسات أجنبية، مدفوعة من شهوات المتنفذين وصناع القرار بدعوى المساواة بين الجنسين؛ {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: ٢٧].
وأيًّا ما كان الأمر، فإن القرآن الكريم عالج العديدَ من المفاهيم والتصورات، وإنما أردت ضرب المثال على مفهوم واحد ينبغي أن تشمله التربية القرآنية للفتاة المسلمة، وإلا فإن القرآن الكريم عالج العديد من المفاهيم والتصورات التي تحتاجها الفتاة.
2 - تعليم الأحكام الفقهية الخاصة بالنساء:
وقد أتى القرآن الكريم بتفصيلٍ على الأحكام الخاصة بالمرأة، كالحيض والنكاح والطلاق والعدّة والرضاع والميراث والسكنى والنفقة.
3 - حقوق المرأة التي فرضها الله:
كانت المرأة في الجاهلية الأولى متاعًا وسلعةً يُحتاج إليها، فنزل القرآن بتكريمها حقيقةً لا ادِّعاءً، حيث وهبها الله حقوقًا يجب أن تؤدى إليها، ولها أن تنتصر بالسلطان في إحقاق ما ندَّ من هذه الحقوق. وعلى سبيل المثال ما أشار إليه قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِـمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْـمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ} [البقرة: ٢٣٣]، وحين حققت التربيةُ القرآنية أهدافَها ارتفع شأن المرأة، كما حصل واقعًا في صدر الإسلام وكما تحقق واقعًا في كل مجتمع يجعل القرآن الكريم حاكمًا على ثقافته ومصدرًا لتربية أبنائه، وأصبحت المرأة ذات رأي وحقٍّ لا تُنازَع فيه.
لقد خلَّد القرآن الكريم صورةً مباينة لِما كانت عليه المرأة في الجاهلية من الخسف والهوان.. صورةَ الجدال الذي وقع بين خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 1 الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: ١، ٢]، إنها تطلب حقًا لها وتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمه، فينزل القرآن بتأييدها ومعالجة القضية.
أين هذه الصورة المشرقة مما كانت عليه المرأة في الجاهلية؟
وأين هذه الصورة المشرقة مما عليه المرأة اليوم؟
والذين يتاجرون اليوم بشعار حقوق المرأة كثيرون. فما المانع من قيام المؤسسات القرآنية بالإسهام في إحقاق حقوق المرأة من خلال التربية القرآنية؟
4 - واجبات المرأة الزوجية:
للحياة الزوجية آداب ومسؤوليات وأحكام ومفاهيم يجهلها كثير من النساء المسلمات للأسف، بالتزامن مع تأثير الثقافة الزوجية الغربية الوافدة عبر الإعلام المرئي والمقروء، والتي تجعل المرأة شريكًا مساويًا للرجل في الأسرة في كل شيء، خلافًا لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْـمَعْرُوفِ} [البقرة: ٢٢٨] وهذا بدوره أدَّى إلى تخلخل كبير في روح الحياة الزوجية وضعف استقرار في كيان الأسرة المسلمة. لقد اعتنى القرآن الكريم عناية بالغة بإنشاء تصوُّر راقٍ للحياة الزوجية يقوم على المودة والرحمة بين الزوجين، ويعتمد على مفاهيم منطقية في الغايات من الزواج، ويرتفع بسلوك الزوجين إلى الأجمل في حالات الفراق والطلاق، بما لم تصله الجاهلية القديمة ولا تستطيعه الجاهليات المعاصرة.
من ذلك ما عقَّب الله به آيات الطلاق حيث أوصى كلا الطرفين بالعرفان: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: ٢٣٧]، ومنها التذكير بأنَّ المرأة التي لا تُعين زوجها على طاعة الله هي في الحقيقة عدوٌّ له: {إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: ١٤]، ومنها بيان أن النفقة والسكن الواجبين على الزوج إنما يجبان بقدر ما آتاه الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: ٦].
ومن العجيب أنَّ القرآن الكريم يجعل للعقيدة ميدانًا لا يُغفَل في الحياة الزوجية وتربية الأبناء. بل ويجعل القرآن الكريم الواجبات الشرعية جزءًا من قِوام البيت الأسري: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 33 وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: ٣٣، ٣٤].
لقد كان القرآن الكريم يربي المسلمات على هذا الأجمل في هذا الباب، ويرفع من شأن التبعل الحسن إلى مصاف الفرائض، ولا أقول النوافل، وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضرب أروع الأمثلة في ذلك وسائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم . عن أبي سلمة قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان؛ الشغلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو برسول الله صلى الله عليه وسلم [9]. قال النووي: هكذا هو في النسخ (الشغل) بالألف واللام مرفوع، أي: يمنعني الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعني بالشغل وبقولها في الحديث الثاني: (فما تقدر على أن تقضيه) أنَّ كل واحدة منهن كانت مهيِّئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك، ولا تدري متى يريده، ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن، وقد يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه، وهذا من الأدب... وإنما كانت تصومه في شعبان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار؛ ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان، فإنه لا يجوز تأخيره عنه[10].
أما وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعد ثَمَّ ما يشغلها عن التنسُّك، والتقرب بأنواع النوافل؛ فإنها رضي الله عنها كانت تسرد الصيام سردًا[11].
إنَّها التربية القرآنية التي تنظِّم أنواع العبادات في سلَّمٍ من الأولويات، لا يبغي بعضُها على بعض في تصوُّر المرأة ووجدانها.
ليس هذا على مستوى أمهات المؤمنين فحسب، بل هذا ديدن النساء اللاتي تربين على مائدة القرآن الكريم، ولعلّ صورة أخَّاذة من حياة أم الدرداء تنبئ عما كان منها من عشرة حسنة وحسن عهد بزوجها أبي الدرداء رضي الله عنه، كما تنبئ عن مستوى الوعي لدى هذه المرأة القرآنية الفقيهة بالواجبات الزوجية وفضلها عند الله، فحين حضرت الوفاة أبا الدرداء رضي الله عنه قالت له: إنك خطبتني إلى أبويَّ في الدنيا فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة. قال: فلا تنكحين بعدي[12].
ثمت محاولات لتحسين الحياة الزوجية، غير أنها لم تستطع التخلُّص من تأثير الثقافة الغربية عليها. وحين يكون الحديث عن التربية القرآنية في حلقات تعليم القرآن الكريم فإن مساحة الاعتذار عن هذا القصور تتقلص، وذلك لتوفر المقرر التربوي الصافي، وما علينا سوى إعمال العقل العلمي في الآيات الكريمات في هذا الشأن والتطبيق السلفي لها.
5- العفاف والاحتشام:
الحديث عن جوانب الاحتشام والحجاب وتدابير العفاف والوقاية من الفاحشة ومعالجة قضاياها في القرآن الكريم كثيرة، وتأخذ صورًا شتى، وبلغ القرآن في تعزيز هذه المفاهيم وغرسها الحدِّ الذي فضَّل فيه الزواجَ من الكتابية العفيفة على الزواج من مسلمةٍ زانية؛ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْـمُحْصَنَاتُ مِنَ الْـمُؤْمِنَاتِ وَالْـمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: ٥]، أمَّا سورة النور فهي سورة حافلة بالموضوعات المتعلقة بالعفاف والاحتشام. كما تعرضت سورة القصص بشكل مباشر للتقنيات المثالية لعمل المرأة خارج بيتها. وغير ذلك من السور والآيات التي تشكِّل في مجموعها كل متعلقات هذا العنوان الكبير.
القرآن الكريم يلفت الأنظار إلى مسألة مهمة في حياة المرأة، وهي الحفاظ على سمعتها من التلوث الأخلاقي، فهو مرَّة يحكي قصة امرأة العزيز حين لاكَ النساء عرضها في مجالسهن، ومرة أخرى يحكي عن مريم أمنيتها الحزينة إذ تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم: ٢٣] مدركة ما سيكون لهذا القَدَر المكتوب عليها من فرصة لتشويه سمعتها وهي الصدِّيقة العذراء.
اليوم بالذات.. تواجه الفتاة المسلمة حربًا شعواء على عفافها واحتشامها، وهذا يفرض على حلقات البنات مسؤولية تربوية تقيهن من الخضوع لنداءات التفسخ، وتعالج قضايا الاحتشام في جوٍّ تربوي فريد.
6 - الحفاظ على الفطرة وتنميتها:
فطَر اللهُ تعالى النساءَ على صفات؛ علِم الله أنه لا تصلح المرأةُ بدونها، وإنَّ أحد معالم التربية القرآنية للمرأة تعزيزُ هذه الصفات ولفت النظر إلى الحفاظ على ملامحها، لأن أنوثة المرأة متعلقة بها، وحين تحارب هذه الصفات الفطرية، سواء كانت خَلْقية أو خُلُقية، فإن المرأة تنتكس وتسفل وتفقد جوهرها.
فطرة التطلع إلى القوامة عليها مغروسة في المرأة، ولا تستطيع التخلص منها، إلا بالانتكاسة الأخلاقية، وإن اللاتي يدعون إلى المساواة بين الجنسين من كل وجه قد أبعدوا وأغربوا {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: ٣٤] ليس هذا على مستوى الزوجية فحسب، بل في كل مناحي الحياة: المرأة بحاجة إلى ظل رجل. تأمّل قول بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: ٤٤]؛ ألا ترى أنها جعلت إسلامها لله مقترنًا بمعية سليمان عليه السلام!
وحين رجع الهدهد من رحلته الاستطلاعية سجَّل استغرابه من شيء غير مألوف فقال: {إنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: ٢٣]، وسجَّل القرآن اختلاف طريقة تفكيرها عن طريقة تفكير نبي الله سليمان عليه السلام في سورة النمل، فهي تريد أن تحتال عليه بهدايا!
وحين مرَّ نبي موسى عليه السلام على الناس في مدين وجد امرأتين تنتظران الناس حتى يفرغوا من سقي أغنامهم لتقوما بسقي أغنامهما بعدهم. ثم إنَّ إحداهما تكلمت مع موسى عليه السلام، غير أنَّ القرآن أخبرنا أنها كانت تكلمه والحياء مُرخٍ أستاره عليها: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص: ٢٥]، سجَّل القرآن الكريم هذه اللقطات لتعزيز فطرة المرأة المسلمة.
لا شكَّ أن أحد الواجبات على الحلقات القرآنية للبنات أن تعزز فيهن جوانب الفطرة في أخلاقهن ومفاهيمهن، وأن يتعدى ذلك إلى الشكل، كمظهر الحلقة وأدوات التدريس وتقنيات النشاط، بل ويتجاوز ذلك إلى المكاتب الإدارية للمشرفات والعاملات، بحيث يصبغ العمل في حقل النساء بالصبغة الأنثوية، فإن هذا هو الأمر الطبيعي {أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْـحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْـخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: ١٨]. إنَّ الحفاظ على فطرة الفتاة وتنمية أنوثتها يفوقان في الأهمية لدى المربيات تعليم بعض أحكام الفروع، كما يفوقان بعض التخصصات الشرعية الفرعية.
7 - حسن التصرف والتعامل مع المواقف المختلفة:
والمقصود بها السلوكيات المتكررة في حياة المرأة اليومية، فإن القرآن الكريم اعتنى بها، والعبرة في ذلك أن تجيد المرأةُ التعاملَ مع كافة المواقف والأحداث والأزمات التي تمرّ بها في حياتها، وتحسن التصرف فيها، فإنّ ذلك أحد معالم تميّزها وتفردها.
فإذا أخطأَت المرأة في حقّ ربها أسرعتْ بالتوبة إليه والإنابة إليه والاعتراف بالذنب؛ {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُـجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: ٤٤]، وإذا أخطأت في حق زوجها تابت إلى الله ورَعَتْ حقه؛ {إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: ٤].
وستجد في مجموع القصص النسائي في القرآن الكريم دروسًا كثيرة تتعلق بالحياة اليومية للمرأة، وما على المؤسسة القرآنية إلا صياغة المقررات من خلالها.
ما ذُكر آنفًا إنما هو قدْرٌ زائد عن التربية القرآنية المشتركة بين الجنسين؛ وتتوجه عناية المؤسسات القرآنية إلى العناوين العريضة لجوانبها وليس تفاصيلها، والمأمول من هذه المؤسسات أن تضطلع بواجب التربية القرآنية للبنات، فتسبر التفاصيل وتحيلها إلى واقع تربوي، لتخريج جيل من الفتيات يحفظن كتاب الله تعالى ويعملن به ويدعون إليه.
السمات الرئيسية لحلقات البنات:
لا يمكننا أن نجعل من حلقات البنات القرآنية شيئًا مختلفًا في كل عناصره عن حلقات الذكور! حيث الوجود المشترك لحفظ القرآن الكريم، ولكن في مقابل ذلك فإنَّ لحلقات البنات سمات رئيسية تميزها، وهي:
1 - المظهر العام لحلقات البنات يصطبغ بالأنوثة:
ذلك أن المظهر العام يعبِّر عن الهوية والخصائص، كما يحفِّز للقيام بالأدوار المناسبة على وجهٍ أفضل. ولا يتطلب هذا الأمر تكلفة مالية زائدة، وإنما يتطلب إشراكًا للنساء في تصميم المظهر العام الذي يُبرز هويتهن ويحافظ في الوقت نفسه على قِيَمهن.
2 - حلقات البنات تراعي الظروف الأسرية المرتبطة بالطالبات والمعلمات:
حركة المرأة في المجتمع المسلم أكثر ثقلًا من حركة الرجل، فإن الرجل إذا خرج من بيته لم يتجاوز التأثير الذي يُحدثه خروجُه شيئًا يُذكر، بينما إذا خرجت المرأة أحدث ذلك تأثيرًا على مجريات حياة أولادها ووليها، ولذا فإنَّ على المؤسسة القرآنية أنْ تراعي هذا الأمر في التخطيط والإجراءات، وعلى سبيل المثال: فإن المرأة حين تذهب إلى حلقة القرآن هي بحاجة إلى من يرعى لها أطفالها الصغار، ولا خيار آخر غير حرمانها من الانضمام إلى الحلقة القرآنية غالبًا، فينبغي توفير بيئة مناسبة تذهب إليها المرأة بأطفالها الصغار. هذا الأمر قد يتطلب تصميم بيئة جديدة تراعي هذا الجانب، كما أنَّ المرأة مضطرة إلى وسيلة نقل، أو الذهاب مع وليها؛ كل ذلك بحاجة إلى التفات واهتمام.
وفي المجتمع فتيات ونساء كثيرات يصعب عليهن الخروج من المنزل والذهاب إلى الحلقات، لأسباب مختلفة وظروف غير مواتية، لكنهن راغبات في تعلم القرآن الكريم وحفظه. هذا يدفع المؤسسة القرآنية أن تفكِّر جديًّا في قَلْب التفكير، فبدلًا عن حضورهنَّ المتعذِّر: الذهاب إليهن في بيوتهن، وذلك باستخدام تقنيات التواصل الحديثة مثلًا، أو بأي شكل آخر.
3 - حلقات البنات تراعي الخصائص النفسية والعقلية والجسدية:
مما يستفاد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدِّم: اختلاف الخطاب التعليمي الموجَّه للإناث عن الخطاب الموجَّه للرجل في بعض الأحيان، وأنَّ للإناث حديثًا خاصًا لا يناسب الرجال لخصوصية كلٍّ من الجنسين في بعض الشؤون، وقد أشار ابن الملقن إلى هذا فقال: فيه العناية بذكر ما تشتد الحاجة إليه من أحوال المخاطبين[13].
هذه المستفادات الملخَّصة من الحديث تشير إلى وجود الفوارق في التعليم بين الجنسين، في الخصائص والاحتياجات والمقررات، وإنَّ علينا إدراك هذه الفوارق واستيعابها في منهج التربية والتعليم في حلقات البنات. ولعل أحد أهم الأسباب التي تجعل الفتاة في عزوف مستمر عن هذه الحلقات يكمن هنا! في هذه النقطة: الخصائص والاحتياجات؛ فإن للإناث خصائص يختلفن بها عن الرجال، سواء في الخِطاب والتواصل أو في الأعمال والإجراءات والتكليفات أو في الأوقات المناسبة من عدمها... إلخ.
كما أنَّ الإناث يتفاوتن في الخصائص بينهن باعتبار الأعمار: الطفولة والمراهقة والشباب والنضج.
4 - حلقات البنات ترتقي بمستوى الوعي لديهن بقضاياهن الفكرية:
حيث أصبحت قضية المرأة إحدى بؤر الصراع بين الإسلام والتغريب، وليست الأمر هامشيًّا، ولا يصح أبدًا أن تتخرج الفتاة بالتربية القرآنية وهي لا تعرف موقعها من هذا الصراع ولا كيف تواجهه. لم يعد أمرًا سائغًا أن تنأى حلقات البنات عن التثقيف المناسب لهذا العصر المزدحم بوسائل الانفتاح على الأفكار والقيم الدينية والاجتماعية.
5 - حلقات البنات لها رؤية واضحة وتصور واعٍ لما سيؤول إليه العمل التربوي فيها:
هذه الرؤية مبنية على أسس علمية موضوعية، ليست بالضرورة أن تكون معقدة، يشارك في صناعتها خبراء التربية من الجنسين. ولم يَعُدْ بُعْدُ بعضِ البلدات عن العواصم عذرًا كافيًا في انعدام خبراء التربية والتخطيط، فإن تقنيات التواصل الحديثة قرَّبت البعيد، وأصبح بالإمكان الاجتماع مع نخبة من الخبراء من مناطق شتى في وقت واحد!
الضبابية في الأهداف والرؤية قد لا تساعدنا على صياغة المنتج النهائي من العملية التربوية في الحلقات، فيضعف التأثير المرجو في المجتمع.
6 - حلقات البنات توفر النماذج الصالحة للاقتداء:
الفتيات في زماننا هذا بالذات بحاجة ملحة إلى رؤية القدوات في مجتمعاتهن، حيث تضخُّ وسائل الإعلام المتنوعة نماذجَ غير صالحة للاقتداء، وتجعل منهن الرَّمْزات للبنات، وهذا خطير.
القرآن أرشد المؤمنات في مواطن متعددة إلى نماذج صالحة للاقتداء، وأشار إلى موضع القدوة فيهن، كما جاء في سورة القصص عن امرأتي مدين، وكما جاء في سورة آل عمران عن الصديقة مريم.
والحديث عن القدوات يختلف عن الحديث عن الرَّمْزات، فلا أقصد هنا توفير الرمزات من المسلمات الصادقات، وإنما أقصد من أنعم الله عليها بديانة ووعي واحتشام وسمت مؤثر؛ وإن كانت من سِطة النساء سفعاء الخدين.
ترجم الإمام الذهبي لفاطمة بنت نصر البغدادي، فقال: أخت صاحب المخزن. امرأة محتشمة زاهدة عابدة كبيرة القدر. شيّعها أرباب الدولة لأجل أخيها، وخلقٌ كثير. وقال أخوها: إنها ما خرجت من البيت في عمرها إلا ثلاث مرات، رضي الله عنها[14]. فتأمل ترجمتها، فمع كونها أختًا لصاحب وجاهة إلا أنها لا تعرف إلا بما تقتدى به، رحمها الله.
7 - حلقات البنات تعتني بأحوال الطالبات الاجتماعية والشخصية:
طالبة فقيرة، وأخرى يتيمة، وثالثة لديها صعوبات تعلم، ورابعة طموحة، وهلمَّ جرًّا.. هؤلاء الطالبات أشدُّ حاجة إلى الرعاية والمتابعة وتلمُّس احتياجاتهن.
الطالبة الطموحة إذا لم تجد ما يشفي طموحها فإنها ستنصرف عن الحلقة.
ويؤمَّل من حلقات البنات أن يكون لديها تقنية متفق عليها في متابعة أحوال الطالبة الاجتماعية والأخلاقية في مجتمعها. كما يؤمّل منها أن يكون لديها برامج إرشادية لعلاج الانحرافات الممكن حدوثها هنا أو هناك، وسيكون للمعايشة التربوية بين المعلمة والطالبة تأثير كبير في هذا الأمر.
وفي حقيقة الأمر إنَّ مجتمع حلقات البنات اليوم لم يعد كما هو الحال في السابق في منأى عن التعرُّض – من قريب أو بعيد - للانحرافات السلوكية والأخلاقية، وإنَّ على المربيات والمرشدات في حلقات البنات أنْ يطوِّرن مهاراتهن وينمِّين معارفهن فيما يتعلق بالمعالجات السلوكية والأخلاقية للبنات؛ انطلاقًا من منهج أهل السنة والجماعة في تبعُّض الإيمان وزيادته ونقصه عند المؤمن، فإنَّ الفتاة وإن كانت مُحبة لكتاب مستمسكة بدينها إلا أنها ليست معصومة من الوقوع في بعض الأخطاء الأخلاقية؛ في زمن الانفتاح الهادر.
تحديات ..
قد تعترض الحلقةَ القرآنية للبنات ذات النموذج المذكور آنفًا بعضُ الأمور التي تبطِّئ من تقدُّمها، في حال عدم التعامل مع هذه التحديات بشكلٍ جيد، ولربما أوقفتْ حركتَها وجعلتها قالبًا جامدًا. وعلى المؤسسات القرآنية أن تتفطن لهذه الأمور وتجهَد في معالجتها. وحين تتعامل المؤسسة القرآنية مع هذه التحديات بذكاء؛ فإنها وبإذن الله ستتحول إلى فرص جيِّدة. وأهم هذه التحديات:
اختلاف الأجيال:
والمقصود به الفجوة الزمنية العمرية، كما هو الحاصل في الفجوة العمرية بين الإدارة التربوية والمستفيدات، وهو تحدٍّ أزلي طبيعي، يعترض كلَّ المؤسسات التربوية والتعليمية، ويمكن معالجته بأمور وتقنيات متعددة؛ أهمها: إدراك هذا التحدي وأثره وملاحظة هذا الاختلاف واحتمالات الأخطاء الناشئة عنه. ومنها: إشراك بنات المرحلة العمرية المستهدفة في بناء البرامج والنشاطات، لا المقررات. ومنها التحالف مع الكوادر التربوية الخبيرة.
وهناك فجوة عمرية توجد في بعض من الأحيان بين الإدارة العليا والإدراة التنفيذية، وتكمن خطورته في فقدان قنوات الاتصال الجيدة بين الطرفين.
الثقافة التربوية السائدة:
في واقع الأمر، إنَّ الثقافة التربوية لدى حلقات البنات اليوم، في مجملها - وفقًا لمعالم التربية القرآنية - يعتورها الكثير من القصور في الإعداد المتكامل والشامل لشخصية الفتاة المسلمة. لا أقول هذا من باب التأنيب.. أبدًا؛ فإن الدور الذي قدمته المربيات في حلقات البنات فاقَ المتوقع منهن، واستطاع أن يحافظ على الهوية الإسلامية للفتاة في ظل الانفتاح والانفلات. غير أنَّ هؤلاء المربيات لا يزلن مرابطات في بؤرة التحدي.
وإنَّ إحداث التغيير في المنهج التربوي وتقنياته يتطلب تغييرًا إيجابيًّا في الثقافة التربوية لدى المربيات من خلال التصحيح المستمر للمفاهيم والتصورات الإسلامية والتربوية، ومن خلال التوعية المنظَّمة للواقع الفكري المتعلق بالفتاة، ومن خلال تدريبهن على مختلف المهارات والتقنيات اللازمة.
هذا يعني إضافة عبء على المؤسسة القرآنية لتقوم بهذا الدور المحوري وفق رؤية واعية.
تقنيات التواصل الاجتماعي:
الإنترنت وتطبيقات «تويتر» و«فيسبوك» و«انستقرام» و«واتساب» وغيرها.. وفَّرت بيئة تفاعلية تثقيفية (بغضِّ النظر عن تقييمها) لدى البنات، فتتواجد شريحة كبيرة من الفتيات في هذه البيئة (التفاعلية) مما جعل الكثير منهن يعزفن عن ارتياد الحلقات القرآنية (الجامدة).
وهذا يدفع المؤسسة القرآنية إلى اعتماد هذه التطبيقات كجزء من قنوات التواصل بطالبات الحلقات للأغراض التربوية، وتدريبهن على المهارات الإيجابية للتفاعل فيها، وكذلك اعتمادها للوصول إلى طالبات أخريات يصعب استقطابهن للالتحاق بالحلقة في موعدها الرسمي؛ وكل ذلك يتم وفق تخطيط تربوي.
ماذا لو اعتمدت حلقةٌ ما تقنية التواصل الاجتماعي بنسبة 30% من مناشطها وبرامجها؟ وعلى أي حال وسواء كانت النسبة أقل أو أكثر؛ يفضَّل أن تكون الرؤية واضحة لدى المؤسسة في هذا الأمر.
ويجدر هنا التنويه بالموقع النسائي العريق على الإنترنت: شبكة صدى الأخوات (www.sada-as.com/vb/index.php )والذي تشرف عليه د. ريم الباني وفقها الله؛ للاستفادة من الخبرة التراكمية في الوصول إلى الطالبات في بيوتهن وتنفيذ برامج حفظ القرآن الكريم المتنوعة وغيرها، وقد قدَّم نجاحًا يذكر ويفتخر به.
والحقيقة أن هناك مناشط تأسست في الإنترنت وفي مواقع التواصل الاجتماعي تخاطب الفتيات في مواقعهن، ونجحت وبرعت واستقطبت المستهدفات. إنه ميدان جديد يجب خوضه بثقة واقتدار، ولدى المؤسسات القرآنية تاريخ رائع من خوض التجارب واقتحام الميادين المتنوعة يؤهلها بعد توفيق الله لتسنم صدارة التوجيه التربوي في صفوف البنات؛ إذا أرادت ذلك. والله الموفق.
:: مجلة البيان العدد 340 ذو الحجة 1436هـ، سبتمبر - أكتوبر 2015م.
[1] التجربة الدعوية للشيخ عبدالحميد بن باديس ص115.
[2] أخرجه البخاري 1/53 كتاب العلم، «باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟» حديث 101.
[3] فتح الباري 1/237.
[4] الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 4/229.
[5] سير أعلام النبلاء 4/277.
[6] انظر: سير أعلام النبلاء 4/278.
[7] سير أعلام النبلاء 4/279.
[8] البداية والنهاية 9/72.
[9] أخرجه البخاري 2/45 كتاب الصوم، باب متى يقضى قضاء رمضان؟ حديث 1950، ومسلم 2/803 كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان، حديث 1146.
[10] شرح النووي على مسلم 7/264.
[11] الطبقات لابن سعد 8/75.
[12] سير أعلام النبلاء 4/278.
[13] انظر الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 4/231.
[14] تاريخ الإسلام 12/572.
إضافة تعليق