تتنوع أنساق التربية الإسلامية بتنوع أنساق الحياة نفسها؛ إذ تحوطها شمولية الإسلام بعقائده وشرائعه وأخلاقه، فكرًا وسلوكًا، وبناء الشخصية الإسلامية يحتاج إلى تنمية دوائر التربية المختلفة
تتنوع
أنساق التربية الإسلامية بتنوع أنساق الحياة نفسها؛ إذ تحوطها شمولية الإسلام
بعقائده وشرائعه وأخلاقه، فكرًا وسلوكًا، وبناء الشخصية الإسلامية يحتاج إلى تنمية
دوائر التربية المختلفة، تزيد وتنقص تبعًا للمرحلة العمرية والمناسب العقلية، لكن
من التهاون انعدامها؛ إذ تحدث خللاً في التربية قد لا يمكن إدراكه.
والتربية
السياسية من جوانب التربية التي قد يساء فهمها فضلاً عن غياب مفاهيمها وطرق
تنميتها. والتربية السياسية التي نتجول في معانيها تدور حول محورين: إدراك الواقع
والقدرة على التأثير فيه.
إدراك
الواقع:
أولى
مراحل التربية السياسية هي الوعي بالذات، ونعني بها إدراك الطفل منذ نعومة أظفاره
بانتمائه الإسلامي عقيدة تمايزه عن الآخرين والأمة، فتعريف الطفل لذاته بأنه مسلم،
وأن دائرته الأوسع من أسرته الصغيرة هي كل المسلمين. وتعد قضية الانتماء خاصة لدى
مراحل الشباب الأولى (13 إلى 17 عامًا) من أهم الاحتياجات النفسية التي يجب
إشباعها، ومن المهم في تلك المرحلة ربط الحاضر بالماضي، وكم في التاريخ الإسلامي
من محفزات بطولية تدعو لارتباط الشباب به، وثانيًا هو أحد الأدوات المهمة لفهم
أحداث الحاضر وتفسير وقائعه. وللأمة قضايا كبرى كبلادهم المحتلة وأحداثها ملتهبة.
ثم تضيق دوائر الوعي السياسي بالتقدم في المراحل العمرية.
والمقصود
أن البداية تكون بالانتماء العام للأمة ثم التفاعل مع قضاياها الكبرى كقضية
فلسطين، والتعرف على معاناة المسلمين في كثير من الدول التي تنتهك حرماتهم وتضيق
على ممارسة شعائر الإسلام.
ومع
التقدم في المراحل العمرية يجب الوقوف على معالم الفقه السياسي الإسلامي وتطورات
الواقع السياسي المحيط، ومدى التشابك بين الواقع المعاش والنظرية السياسية
الإسلامية، ومفاهيمها وما يضادها من نظريات والرد على ذلك.
فقد
روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على
الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على أهل فارس؛
لأنهم أهل كتاب مثلهم، فكانت فارس يوم نزل قوله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ)
[الروم: 1، 2] قاهرين للروم، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فقال رسول الله: "أما إنهم سيغلبون". ونزلت هذه الآية. فخرج
أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ)،
فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في
بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان... إلى آخر
الحديث.
وفي
تلك القصة من المضامين السياسية الكثير؛ منها: وعي أبي بكر السياسي، من معارك
وصراعات وحروب تدور حول الجزيرة العربية، وعاطفته تجاه من اشترك معهم في أصل من
الأصول.
الولاء والبراء محرك
الفعل السياسي:
وهو
محور مهم من محاور التربية السياسية؛ فالولاء هو المحبة والانتماء والنصرة، وهو -أي
"الولاء"- عبادة قلبية وممارسة سلوكية، وهي التأصيل الشرعي للتربية
السياسية، ومن دونه تذوب معالم تلك التربية السياسية، ومحبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين
هي بوصلة الوعي السياسي فكرًا وممارسًا.
وما
أحوجنا في ظل هجمات التطبيع مع الدولة الصهيونية على الانطلاق من أسس عقدية، والتي
يجب على النشء الجديد أن يعيها تدرجًا مع مراحلهم العمرية بما يناسبهم.
ومفهوم
الولاء والبراء من أهم أسس منهجيّة التربية السياسية، فهي ترسم قواعد التعامل والنظر
والدعم القلبي والدعاء والنصرة بالقول والفعل مع المحيط القريب والعالمي المتشابك
والمتداخل.
ولا
توجد سياسة -أيًا ما كانت- سواء في معناها الضيق الذي يعني الانتماء الحزبي
والتنافس للوصول إلى دوائر التأثير والقرار، أو بمعناها الواسع الذي يشمل كل ما
يهم المسلمين وقضاياهم في العالم، إلا وكانت العقيدة –أيًا ما كانت- هي المحرك
الأساس لها.
القيادة والتأثير:
ويأتي
محور التأثير بعد محور إدراك الواقع الذاتي والواقع المحيط بكل اتساعه، ليكون
الجناح الآخر الذي به تتوازن قضية التربية السياسية كما ننشدها؛ إذ تبقى التربية -أي
تربية- قاصرة إن لم تترجم إلى فعل واقعي وممارسة، وقد تبدأ مع الطفل في مرحلة
مبكرة بالاستماع له والحوار معه، وفتح المجال للتعبير عن آرائه مهما كانت بساطتها،
كذلك بإتاحة المجال له لتحمل المسؤوليات التي تناسب عمره في مرحلة المراهقة،
وممارسة الشورى المنزلية، والمشاركة والتفاعل المجتمعي، وممارسة القيادة بدءًا من
الأسرة، والمدرسة، والدفع بالآراء ونشرها، والسعي لإكساب الوسط المحيط قيم الإسلام
ومفاهيمه واتجاهاته المتصلة بقضايا الهوية والانتماء، وممارسة المسؤولية
الاجتماعية في كافة أشكالها، كلها أدوات يجب أن يدفع بها المربي للمتربين، سواء أكانوا
أبناءً أو طلابًا، وهي متشابكة مع مرحلة إدراك الواقع، فليستا مرحلتين متتاليتين،
بل كلما تأصل مفهوم جديد ارتبط بالمفاهيم السياسية تبعه تدريب على ممارسة هذا
المفهوم الجديد.
وتلقي
قصة الغلام والملك الظالم وأصحاب الأخدود التي وردت في سورة البروج، بظلالها على
هذا الجانب التربوي السياسي، ففي الحديث الذي رواه مسلم: "قال الغلام للملك:
إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد،
وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم
الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد،
وصلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم
الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم
فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك
فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس".
فانظر
إلى طفل غلام يشعر بمسؤولية تجاه مجتمعه، فهو ليس خاملاً غير مؤثر، واعيًا بتأثير
مشهد قتله على الناس وتفاعله في نفوسهم.
وفي الأخير يمكننا القول: إن ربط المتربي بالعقيدة الصحيحة كالولاء والبراء ومفهوم الأمة وتجليات ذلك في الواقع، وربطه بدوائر الشأن العام المحيط به، واتخاذ الأدوات المناسبة لكل مرحلة لتثبيت تلك المفاهيم سواء بالواقع الحاضر أو التاريخ، وممارسة تلك المفاهيم السياسية في الواقع وتدريبه على القيام بها، هي ما يمكن أن نطلق عليه "التربية السياسية"، وصولاً إلى سعي المتربي للوصول إلى مستويات التأثير العليا، وهو سعي لتكون كلمة الله هي العليا لا حظ لنفسه فيها، ذلك إن توفر له مربون يُـقَـدِّرون أهمية هذا الجانب التربوي ويَقْدرون على إيصاله.
إضافة تعليق