الشيخ المجاهد المربي "محمد البشير الإبراهيمي" واحدًا من هؤلاء الرواد والزعماء الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار في أوطانهم،
ظلت الأمة الإسلامية
– وما زالت – تعاني من موجات هجوم وعدوان مستمر من قبل خصومها وأعدائها، والتي استهدفت
دائمًا تفكيك أوصاله واستنزاف ثرواته. وقد نجحت أغلب تلك المحاولات الاستعمارية العديدة
المنظمة في أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها وهيمنتها على بعض أقطار الوطن العربي والإسلامي
في أزمنة متفاوتة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية عبر مسيرة تاريخها الطويل، ولكن
إرادة التحرر وعزيمة أبناء تلك الأمة كانت دائمًا تنتصر على أطماع الغزاة والمحتلين
مهما طال الزمان، وكان الله يقيض لهذه الأمة روادًا من بين أبنائها يبعثون فيها روح
الجهاد، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها وتستعيد حريتها وكرامتها،
وتملك زمام أمرها من جديد.
وكان الشيخ
المجاهد المربي "محمد البشير الإبراهيمي" واحدًا من هؤلاء الرواد والزعماء
الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار
في أوطانهم، وفي إيقاظ الوعي بين أبناء أمتهم حتى تحقق لها النصر وتحررت من أغلال الاستعمار
البغيض.
وحياة الشيخ
ورحلته العلمية والدعوية والجهادية تحتاج لدراسة وافية، وقراءة كافية لاستخراج أهم
دروسها ومعالم طريقها، خاصة أن الشيخ لم يكن على هذا الدرب العظيم خبط عشواء أو
فلتة من فلتات الزمان، بل نتاج عمل دؤوب، وبناء تربوي متكامل، بدأ منذ نعومة
الأظافر، ومرابض الصغار، حتى صار من أعاظم الكبار.
المولد
والنشأة:
ولد الشيخ "محمد
البشير الإبراهيمي" في قرية (أولاد إبراهيم) برأس الوادي قرب "سطيف"
غربي مدينة قسنطينة في شوال 1306هـ - يوليو 1889م، وُلد على ثلاث بنات قبله
متتاليات، وفي ذلك مظنة الاهتمام الزائد من والديه والتدليل المفسد للفطرة
والعزيمة، ولكن لم يحدث من ذلك شيء، بل الذي حدث هو عكس ذلك تمامًا؛ فوالداه أرادا
له معالي الأمور، والمولى -جلّ في علاه- اصطفاه ليكون أحد رواد الإصلاح والتغيير
في الأمة المحمدية.
حفظ "البشير"
القرآن الكريم وهو ابن تسع سنوات، ودرس علوم العربية على يد عمه الشيخ "محمد المكي
الإبراهيمي"، وكان عالم الجزائر وقتها، وقد اعتنى بابن أخيه عنايةً فائقةً، وفتح
له أبوابًا كثيرةً في العلم، حتى إنه ليحفظ قدرًا كبيرًا من متون اللغة، وعددًا من
دواوين فحول الشعراء، ويقف على علوم البلاغة والفقه والأصول، وقد رزقه الله قوّة الحافظة،
فاستوعب حفظًا وفهمًا عددًا من المتون العلمية المشهورة للتّدريس.
وكانت لعمه في
تربيته طريقة توافق استعداده، وهو أنّه كان معه في دراسة مستمرّة لا تقطعها عنه إلا
ساعات النّوم، فكان يُلَقِّنُه، ويُملي عليه ويشرح له، ماشيًا، وقاعدًا، وفي جميع الأحوال
إلى أن يأخذه النّوم، كل ذلك مجاراة لحفظه، وذكائه، واستعداده الفطري، فقد رأى عمه
ببصيرته النافذة منه استعدادًا خارقًا وحافظة ملتهمة وذاكرة لا تفلت شيئًا، فكان منه
ما كان. وهذا من الأثر الطيب لأهل العلم والمربين ذوي الأفهام والألباب؛ ما يؤكد
على دور وقيمة وأثر مربي الأطفال ومعلم الصبيان في هذه السن الصغيرة التي يقطعها
عموم الصبيان في اللهو واللعب واللهث وراء نزوات الطفولة، فانتصب للتّدريس وهو ابن
خمسة عشر عامًا، واستفاد منه النّاس الّذين حضروا دروسه وكانوا أكبر منه سنًّا، ولما
مات عمه تصدَّر هو لتدريس ما تلقاه عليه لزملائه في الدراسة، وكان عمره أربعة عشر عامًا.
رحلته
العلمية:
ولما بلغ
"البشير" الثاني والعشرين من عمره ولَّى وجهه نحو المشرق سنة (1330هـ =
1911م)؛ ليلحق بأبيه الذي سبقه بالهجرة إليه منذ أربع سنوات فرارًا من الاحتلال الفرنسي،
واختار الاستقرار في المدينة النبوية، وكتب إلى ولده يحثه على اللحاق به. وفي المدينة
المنورة استكمل "البشير" العلم في حلقات الحرم النبوي، واستثمر "البشير" وقته هناك بأفضل ما يكون،
فطاف بمكتبات المدينة الشهيرة، ووجد في محفوظاتها الكثيرة مما أشبع نهمه العلمي.
وفي أثناء إقامته
بالمدينة التقى بالشيخ "عبد الحميد بن باديس"، الذي كان قد قَدِم لأداء فريضة
الحج، وقد ربطت بينهما المودة ووحدة الهدف برباط وثيق، وأخذا يتطلعان لوضع خطة تبعث
الحياة في الأمة الإسلامية بالجزائر، وانضم إليهما "الطيب العقبي"؛ وهو عالم
جزائري سبقهما في الهجرة إلى المدينة، والتقى الثلاثة في أيام متصلة ومناقشات جادة
حول وضع الجزائر وسبل النهوض بها، فوضعوا الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
الإمام
الإبراهيمي وقراءة واقع الأمة:
عاد الشيخ
بشير الإبراهيمي إلى الجزائر بعد أن جاوز الثلاثين من عمره، بعد أن طاف وجال في
أهم أقاليم العالم الإسلامي، مصر، الحجاز، الشام، واستطاع خلال هذه الرحلة الطويلة
التي جاوزت عشر سنوات أن يتعرف على أوضاع العالم الإسلامي، ويقف عن قرب على مشكلاته
وآفاته التاريخية والحضارية والإيمانية التي وصلت به لأن يكون فريسة سهلة وغنيمة
باردة في أيدي أعدائه، وقد رأي أيضًا وعاين وعايش أساليب المحتل الفرنسي والإنجليزي
في المشرق والمغرب في بسط الهيمنة والسيطرة على شعوب العالم الإسلامي، وخاصة تلك
الأساليب المتعلقة بطمس هوية الشعوب وسلخها من دينها وأصولها العربية، وكيف أن هذه
الأساليب قد آتت أكلها بقوة في المشرق والمغرب.
وفي المقابل
وجد البشير أن الحالة الدينية في العالم الإسلامي مهترئة وممزقة لأسباب خارجية
ممثلة في كيد المحتلين، وأخرى داخلية بسبب أمراض التعصب والجمود والتخلف الثقافي،
وأيضًا بسبب الطرق الصوفية التي مزقت الأمة إلى شيع وفرق وطوائف وأحزاب، تلك الطرق
التي أغرقت الأمة في غياهب الجهل والخرافة والانكفاء على الذات والدروشة الفارغة
والقعود والاتكال، بل فعلت الطرق الصوفية أشد من ذلك بموالاة المحتل الأوروبي وتأييده
في جرائمه ضد المجاهدين الأبطال الذين سعوا لتحرير بلادهم وأوطانهم من نير
الاحتلال، فعلوا ذلك في الجزائر مع الأمير عبد القادر، وفعلوا مثله مع الأمير عبد
الكريم في المغرب، ومع شيخ المجاهدين عمر المختار في ليبيا. لذلك كان واجب الوقت –
من وجهة نظر الشيخ الإبراهيمي – هو التصدي إلى تلك الطرق البدعية الضالة وتنقية
البيئة الإسلامية من آفاتها وبذروها الخبيثة.
تلك القراءة
الصحيحة لواقع الأمة والفهم الواعي لقضاياها مكنت الإمام الابراهيمي من وضع يده
على مكمن الداء ومواطن الخلل في الأمة، ومن ثم قرر العمل والجهاد على المسار
الصحيح لتحريرها فور عودته إلى الجزائر.
جهاد
الإمام الإبراهيمي وبناؤه للأمة:
عاد "البشير
الإبراهيمي" إلى الجزائر سنة (1338هـ = 1920م)، فارتحل إلى (سطيف)، بدأ في إلقاء
الدروس العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، وتحرك بين القرى والمدن
خطيبًا ومحاضرًا، فأيقظ العقول وبعث الحياة في النفوس التي أماتها الجهل والتخلف، ورأى
الشيخ أن دروسه قد أثمرت، وأن الناس تتطلع إلى المزيد، فشجعه ذلك على إنشاء مدرسة يتدرب
فيها الشباب على الخطابة والكتابة في الصحف، وقيادة الجماهير في الوقت الذي كان يتظاهر
فيه المصلح اليقظ بالاشتغال بالتجارة؛ هربًا من ملاحقة الشرطة له ولزواره، وكان المحتل
الفرنسي قد انتبه إلى خطورة ما يقوم به "البشير" ضد وجوده الغاصب، فعمل على
تعويق حركته، وملاحقة أتباعه.
الإبراهيمي وجمعية
العلماء:
لقد كانت «فكرة
جمعية العلماء» تراود الإبراهيمي وابن باديس، وكانت من الأهداف التي كانا يعملان لأجلها،
ولما وجد الاستعداد في الأمة ظهر هذا المشروع العظيم «جمعية العلماء»، وأعلن تأسيسها
في شهر مايو سنة 1931م، وقد صاغ لها الإبراهيمي قانونًا أساسيًا مختصرًا، وكان مِن
بصيرته، وهو العارِف بأحوال الأمّة، والحرب قد شبَّت بين المصلحين والطّرقيِّين، أنْ
لم يصرِّح بغايات الجمعيّة ومقاصدها، وجعل هدفها محاربة الآفات الاجتماعية مثل شرب
الخمر والميسر والزنا، فقبلت الحكومة، وأصبح وجود هذه الجمعية قانونيًّا، ومن ثم
بدأت بهدوء في تنفيذ أجندتها غير المعلنة في استعادة روح الإسلام في الشعب
الجزائري مرة أخرى بعد قرن من الاحتلال الفرنسي لها.
نشط "الإبراهيمي"
في (تلمسان)، وبث فيها روحًا جديدة، فكان يلقي عشرة دروس في اليوم الواحد، يبتدئها
بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، ويختمها بدرس التفسير بين المغرب والعشاء، ثم ينصرف بعد
الصلاة الأخيرة إلى بعض النوادي الجامعة؛ ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وكانت
له جولات في القرى أيام العطل الأسبوعية، وينشط العزائم ويبعث الهمم في النفوس، وقد
نتج من ذلك كله بناء أربعمائة مدرسة إسلامية، تضم مئات الآلاف من البنات والبنين، وبناء
أكثر من مائتي مسجد للصلوات والمحاضرات.
أقلق هذا النشاط
العارم المحتل الفرنسي وأذياله من الطرق الصوفية، فبعثوا إليه القاضي ابن حورة يعرض
عليه منصب شيخ الإسلام الذي سيحدث لأول مرة في الجزائر في مقابل تصريح يؤيد فيه فرنسا
التي كانت طرفًا في الحرب العالمية الثانية، مقابل منح مغرية، فخيب ظنهم، ورفض كل تعاون
معهم، فأسرعوا باعتقاله ونفيه إلى صحراء (وهران) سنة (1359هـ = 1940م).
بعد ثلاث
سنوات في المنفى عاد الابراهيمي للعمل الدعوى والتربوي، ثم خرج إلى بلاد المشرق
يدعو لفكرة جمعية العلماء، وكان "الإبراهيمي" يعلّق آمالًا واسعة على نشر
دعوته الإصلاحية في إحياء ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها فرنسا، وفي أثناء
إقامته بالقاهرة اختير "الإبراهيمي" لعضوية مجمع اللغة العربية المصري سنة
(1380هـ = 1961م).
وفاة
الإمام الإبراهيمي:
لما أعلن استقلال
الجزائر عاد "البشير الإبراهيمي" إلى وطنه، خطب أول صلاة جمعة من مسجد (كتشاوة)
بقلب العاصمة الجزائرية، وكان هذا المسجد قد حوله الفرنسيون إلى كاتدرائية بعد احتلالهم
الجزائر. وقد نقلت الإذاعة خطبتي الجمعة إلى الأمة، فأعادت كلماته للكثيرين من رفاقه
وغيرهم أعذب الذكريات، ولزم "الإبراهيمي" بيته بعد أن أثقلته السنون، وأوهنه
المرض، حتى لاقى ربه يوم الخميس الموافق (18 من المحرم 1385هـ= 19 من مايو 1965م) بعد
حياة حافلة بجلائل الأعمال، وخرجت الأمة تودعه بقلوب حزينة وأعين دامعة، تعبيرًا عن
تقديرها لرجل من رجالات الإصلاح فيها، وأحد بناة نهضتها الحديثة.
لم يكن الشيخ محمد
البشير الإبراهيمي -رحمه الله- شخصية عادية، وإنّما كان مجموعة من المواهب والعبقريات.
كان آية في علمه الواسع وأَدبه الرفيع وخلقه النبيل ودينه المتين وإخلاصه وسعة أفق
تفكيره وبعد نظره، وإنكاره لذاته وتَفانيه في خدمة أمته. كان يعيش من أجل الدفاع عن
الإسلام الحق والنهوض باللّغة العربية في هذا الوطن العزيز، لقد كان مصلحًا دينيًّا،
واجتماعيًا موفقًا، ومفكرًا حرًّا جريئًا، وإمامًا في السلفية، ناشرًا لها ومثبتًا
لمبادئها، ونجمًا من نجوم الهداية، صداعًا بالحق، قوالاً به، وحاملًا لراية الكفاح
والنضال، لم يعرف الفشل والخور، ولا الاستسلام والتقهقر، كانت حياته مشرقة مملوءة بجلائل
الأعمال، تجلت فيها عبقريته، وبزغ من خلالها نجمه، وظهر نبوغه، وصدقت نظراته، وتحققت
فراسته.
إضافة تعليق