يُعد الإمام الشافعي من أبرز علماء الإسلام ذكرًا، ومن أكثرهم أثرًا، وأبعدهم مدىً، ولا تزال أفكاره محل عناية وتمحيص لأغراض دينية وغايات أدبية، ولعل الجانب التربوي لم يأخذ حظّه من الدراسة المنهجية الدقيقة، لأن المخيلة العربية تحمل صورة الشافعي الفقيه، ويكاد يعزب عن الأفهام وساحة الإعلام شخصية الشافعي المعلم؛ صاحب الآراء التربوية الرائدة والإبداعات الفكرية الوافرة.
وفي دراسة بعنوان “الفكر التربوي عند الشافعي رحمه الله” لمكي شريف هداية الله، الباحث بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالسعودية، حاول تقديم دراسة تخصصية واعية لأحد أعلام التربية الإسلامية وإحياء مسالكه التربوية النافعة لبناء نظامنا التربوي على أساسه، وذلك في ضوء الموازنة مع معطيات العصر الذي يفيض بالفكر والثقافة والإبداع.
من هو الإمام الشافعي؟
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي بن عبد المطلب بن عبد مناف، وينسب إلى شافع فيقال له الإمام الشافعي وينسب إلى عبد المطلب فيقال المطلبي، وينسب إلى مكة لأنها موطن آبائه وأجداده فيقال له المكي، إلا أنّ النسبة الأولى قد غلبت عليه.
وقد وُلد الشافعي في مدينة غزة بفلسطين، حيث خرج والده إدريس من مكة إليها في حاجة له، فمات بها وأمه حامل به، فولدته فيها ثمّ عادت به بعد سنتين إلى مكة وحفظ القرآن بها في سن السابعة، ثمّ حفظ موطأ الإمام مالك في سن العاشرة.
واختلط الشافعي بقبائل هذيل التي كانت من أفصح العرب فاستفاد منهم وحفظ أشعارهم وضرب به المثل في الفصاحة، وتلقى الشافعي الفقه المالكي على يد الإمام مالك، وتفقه بمكة على شيخ الحرم ومفتيه مسلم بن خالد الزنجي، المتوفى سنة 180 هـ، وسفيان بن عيينة الهلالي، المتوفى سنة 198هـ وغيرهما من العلماء.
ثمّ رحل إلى اليمن ليتولى منصبًا جاءه به مصعب بن عبد الله القرشي قاضي اليمن، ثمّ رحل إلى العراق سنة 184هـ، واطلع على ما عند علماء العراق وأفادهم بما عليه علماء الحجاز، وعرف محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وتلقى منه فقه أبي حنيفة، وناظره في مسائل كثيرة ورفعت هذه المناظرات إلى الخليفة هارون الرشيد فسُرَّ منه.
بعد ذلك، رحل الشافعي إلى مصر والتقى بعلمائها وأعطاهم وأخذ منهم، ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ في خلافة الأمين، وأصبح في هذه الفترة إمامًا له مذهبه المستقل ومنهجه الخاص به، واستمر بالعراق مدة سنتين عاد بعدها إلى الحجاز بعد ما ألّف كتابه “الحجة”، ثم عاد مرة ثالثة إلى العراق سنة 198هـ، ثم رحل إلى مصر سنة 199هـ أو سنة 200هـ وظل بها إلى أن تُوفي بها سنة 204 هـ.
التكوين الفكري لدى الإمام الشافعي
عاش الإمام الشافعي في العصر العباسي الأول، حيث كانت الخلافة الإسلامية قوية الأركان تموج فيها التيارات العلمية، وأخذت العلوم النقلية والعقلية تزدهر تحصيلا وتعليما وتأليفا.
والمتتبع لحياة الشافعي يُمكن أن يستنبط جملة عوامل ثقافية لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل شخصيته، وتكوين عقليته، وبلورة مستقبله، فيما يلي طائفة من تلك العوامل:
1. كانت والدته محبة للعلم وتحث ولدها على طلبه.
2. حرص الشافعي على اكتشاف وتنمية طاقاته ومواهبه وعمد إلى كل الوسائل المتاحة لتطوير ثقافته.
3. ترعرع الشَّافِعي كعادة العرب في كنف الطَّبيعة فعاش زمنا طويلا في قبيلة هُذَيْل يعب من أدبها ومعارفها.
4. عصر الشافِعي هو العصر الذَّهبي للدَّولة العبَّاسية حيث الأمن والاستقرار، وتشجيع الخلفاء للعلماء على الإبداع والعطاء.
5. وضوح رؤية الشافعي لأهدافه من أسباب تفوقه العِلمي إذ حَدَّدَ هدفه منذ الصِّغر.
6. قام كل من مسلم بن خالد الزّنجي ومالك بن أنس ومحمد بن الحسن ووكيع بن الجراح وغيرهم بإعداد الشافعي إعدادا يليق بعالِم يهدف إلى خدمة الدِّين والمسلمين.
7. الرِّحلات العِلْمِية إلى العراق والخبرات السِّياسية في اليمن والدُّروس العِلْمِيَّة في المدينة المنورة ومصر وسَّعت مدارِكه.
8. أخذ الشَّافعي عُلوما متنوعة وجمع بينها واستفاد من منهج المحدِّثين في قبول الرِّوايات.
9. كانت المناظرات تصقل فكر الشافعي وتوسع مداه.
10. التدريس في مكة والعراق ومصر بلور في ذهنه نظرية تربوية منبثقة من وحي الواقع وأساسيات الدين.
أفكار الشافعي في التربية
لعل أول وأهم فائدة يمكن استنباطها من الإمام الشافعي البحث عن الحقيقة وحب العلم ورفع مكانة العلماء، حيث اعتبر طلب العلم طريق السعادة وأعظم عبادة فلولاه لم يعرف الإنسان الحق من الباطل.
ووضع الشافعي العلماء في طليعة المجتمع، وكان يقول: “لا ينبغي لأحد أن يسكن بلدة ليس فيها عالم ولا طبيب”، وأشار إلى أن التوسع في العلم والتخصص فيه يكشف للإنسان مدى جهله فيتواضَع ويزداد تعلما.
وفي إشارة إلى الفروق الفردية، والحض على طلب العلم، والاعتصام بالإخلاص، قال الشافعي: “والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به”، وفي مجال شروط طلب العِلم قال:
أخي لن تنال العلم إلا بستةِ سأنبيك عن تفصيلها ببيـان
ذكاء وحرص واجتهاد وبُلْغَة وصحبة أستاذ وطول زمـان
تلك أركان عملية التعليم، لا يمكن بحال من الأحوال التخلي عن ركن منها، ويرى الشافعي أن الإنسان لا يولد عالما وإنما بالتعلم الذي ينمي الذكاء ويرتقي بالطبع الإنساني. ولأن المعلم من أركان العملية التعليمية فإن الطالب الذي يعتمد كلية على مطالعة الكتب يضل الطريق: “من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام”.
وفي مجال إعداد المعلم، يرى الشافعي أن حسن الخلق حياته، وشعاره، ولا يمكن بلوغ الغاية من غيره، ويُوجز رؤيته في نصيحة نفيسة يمكن اعتبارها من روائع تراثنا التربوي ومن جوامع الكلم العربي، فقد أدخل الشافعي يوما إلى بعض حجر هارون الرشيد يستأذن على أمير المؤمنين ومعه سراج الخادم فأقعَده عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد الرشيد، فقال سراج للشافعي: يا أبا عبد الله هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهذا مؤدبهم فلو أوصَيته بهم، فأقبل على أبي عبد الصمد فقال له: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة فيك، فالحسن عندهم ما تستحسنه والقبيح عندهم ما تَركته، علمهم كتاب الله ولا تكرهم عليه فيملوا ولا تتركهم فيهجروه، ثم روّهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجنهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم”.
وعلى صعيد التربية الاجتماعية والصالح العام، أولى الإمام الشافعي أهمية كبرى للصداقة وهذا دليل على وعي اجتماعي متقدم، حيث طالب الصديق بالاعتدال في مخالطة الناس، فقال: إن الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مكسبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط”.
أما عن التحصيل الدراسى والأخلاق، فكان الشافعي يُعلّم طلابه وأصحابه العلم والتحصيل الدراسي مقرونًا بتعليم مهارات الحياة الأخلاقية، فقال ذات يوم لأحدهم في نصيحة طويلة عن الصداقة جاء في مقدمتها: “إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادر بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، وأجدر أن تسمى المبلغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئاً…”.
الوسائل التربوية عند الشافعي
استخدم الإمام الشافعي وسائل تربوية عديدة وعمل على تطبيقاتها، منها الصبر، فيقول لأحد تلاميذه: “يا ربيع، لو أمكنني أني أطعمك العلم لأطعمتك”، وروى السبكي: “كان الربيع بطيء الفهم، فكرر الشافعي عليه مسألة واحدة أربعين مرة فلم يفهم وقام من المجلس حياء، فدعاه الشافعي في خلوة وكرر عليه حتى فهم، وكانت الرحلة في كتب الشافعي إليه من الآفاق نحو مائتي رجل، وقد كاشفه الشافعي بذلك حيث يقول له فيما روي عنه: أنت راوية كتبي”. هكذا كان صبر الشافعي مع طلابه فتحققت مطالبه ونال مبتغاه.
وعلى مستوى طلب العلم، أوجز الشافعي القول في فوائد الرحلة في طلب العلم في بيتين من الشعر فقال عن مكاسب السفر:
تغرَّب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تَفَرُّج هم، واكتساب معيشــةٍ وعلمٌ، وآدابٌ، وصحبة ماجــد
ووجد الشافعي المناظرة وسيلة عجيبة لتوصيل الأفكار وترسيخها في الأذهان، فالغرض منها البحث عن الحقيقة لا كسب المواقف، والانتصار للنفس، وإفحام الخصم، واستعراض المواهب. قال الشافعي: “وددت إذا ناظرت أحدا أن يظهر الله الحق على يديه”.
وللشافعي نصيب وافر في فنون الوعظ والنصح فلقد وظف بيانه الساحر في ترقيق القلوب ونشر الفضيلة. ومن مواعظه: “وكن في الدنيا زاهدا وفي الآخرة راغبا، واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج غدًا مع الناجين”.
واستخدم الشافعي القصة أيضًا، ورغم قلة قصصه، فإنها ذات قيمة عالية، سيّما تلك الروائع التي رواها عن طَلبه العلم، في طفولته وشبابه التي تعد من القصص التعليمية الجيدة في الأدب العربي، كما قص كذلك محنته وأزمته السياسية في اليمن من جهة، وما حصل له في رحلاته من مواقف طريفة من جهة أخرى.
وفي نطاق العقاب البدني كوسيلة تربوية، فإن الشافعي يرى أنه يمكن تأديب الأطفال من غير الضَّرْبِ، ويعتقد كثير من الخبراء أن العقاب البدني كاختيار أخير غالبًا لا يحل المشكلات بل يعقدها، فلا يتحسن السلوك. قال الشافعي في كتابه الأم وهو يتحدث عن الحياة الزوجية: “وَلَوْ تَرَكَ الضَّرْبَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ}”.
مقومات الشخصية الإسلامية في الفكر التربوي للشافعي
وتميّز الفكر التربوي لدى الإمام الشافعي ببعض المقومات، أولها التي تتصل بالعقيدة، حيث اعتبر أنّ القرآن كلام الله، أي صفة من صفاته غير مخلوق، ودعا إلى الإيمان بالأسماء والصفات دون تأويل، وحارب الخرافات والاستعانة بالمنجمين الذين يعطلون عقول الناس وطاقاتهم عن العمل اعتمادًا على تكهنات كاذبة.
ثمّ المقومات العبادية، حيث ربط الشافعي بين العبادة والمشاعر الداخلية، وقد نبّه إلى صور من العبادات التي تغذي الروح، وتمدها بالطاقة الحيوية لتمارس الشخصية الإسلامية دورها الإيجابي في الحياة، فنراه يعظم من قيمة الدعاء، وبخاصة إذا صدر من إنسان مظلوم في جوف الليل.
وتميز الفكر التربوي للشافعي بمقومات أخلاقية، ففي تراثه حديث واسع عن مكارم الأخلاق، سيما في الشعر، فلم يدع- في الغالب- خلقًا إلا وحثّ عليه ورغب فيه، ببالغ الكلام وفصيح البيان، واعتبر أن الأخلاق هي طريق الكمال البشري في هذه الدنيا، مما يجعل لصاحبه القبول عند الله وعند الناس، فقال: “لا يكمل الرجل في الدنيا إلا بأربع: بالديانة، والأمانة، والصيانة، والرزانة”.
وتعد المقومات الاجتماعية من الفكر التربوي للشافعي، ففي تراثه أقوال وأشعار ترسم منهجًا قويمًا في التعامل مع الناس بكل أصنافهم وألوانهم، هذا التعامل الذي يعد شديدًا على النفس في كثير من الأحيان، كما قال الشافعي: “سياسة الناس أشد من سياسة الدواب”.
أما المقومات العلمية، فعند التأمل في تراث الشافعي نجد مساحة واسعة للحديث عنها بجميع جوانبها، فقد تحدث عن العقل كوعاء للعلم، وأفاض في الحديث عن طلب العلم وما يتصل بذلك من حفظه وأدواته وتدوينه وانتقائه والعلوم المطلوبة ودور العلم في الحياة ومكابدة الأعداء.
توصيات الدراسة
1. دراسة رواد الفكر في إطار التراث التربوي العالمي، والحذر من عزل التراث وتفسيره في دائرة ضيقة وأدبيات محدودة.
2. تقديم دراسات تربوية موسعة باللغة الأجنبية عن الإمام الشافعي ونشرها على شبكة الإنترنت للتعريف بإبداعات الحضارة العربية الإسلامية وبصانعي الفكر الإسلامي.
3. تقديم دورات تدريبية للمعلمين والمعلمات لبيان أفكار الشافعي وسبل توظيفها في رفد الواقع التعليمي والتربوي.
4. تعريف الناشئة بأخلاقيات طالب العلم عبر برامج إعلامية عالية التقنية تحاكي التطور العصري وقادرة على جذب الأنظار والتأثير في النفوس.
5. عمل موسوعة مصورة للطفل تتضمن أعلام التربية الإسلامية والمفردات التراثية ذات الصلة بتعليم وتربية الطفل مع التركيز على أخلاقيات طالب العلم من الجنسين.
المصادر
- السبكي: طبقات الشّافعي الكبرى (2/102).
- الشافعي: كتاب الأم، باب ضرب النساء، ج5، صـ 160.
- أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج 9، صـ 94.
- ابن الجوزي: صفة الصفوة، (2/225).
إضافة تعليق