.
زخرت المكتبة الإسلامية بالكثير من الكتب الفكرية التربوية لأعلام الإسلام الذين حرصوا بفكرهم على نهضة الأئمة، ومنهم الإمام الذهبي الذي تميّز بفكره التربوي الإيماني المستمد من عقيدة سلفية ويغلب عليه الرقائق والتذكير، وهو ما يحتاج إليه كل فرد في الأمة.
وُجد الذهبيُّ في عصرٍ تموج فيه الفتن بالأمة بعد سقوط بغداد- حاضنة الخلافة آنذاك- وتدمير المغول تراث الأمة ومؤلفاتها، وكان ذلك دافعًا له ولغيره لإنعاش حركة الكتابة والمؤلفات والترجمة لتعويض العلوم التي ضاعت.
من هو الإمام الذهبي؟
يُعد الإمام شمس الدين الذهبي واحدًا من الأفذاذ القلائل في مسيرة علوم الحديث والرجال والتاريخ الإسلامي، لِمَا تركه من آثارٍ علميّة جليلة.
وُلد أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي بمدينة دمشق في ربيع الآخر 673هـ الموافق شهر أكتوبر 1274م.
كان من أسرة تركمانية الأصل، تنتهي بالولاء إلى بني تميم، وسكنتْ مدينة ميافارقين من أشهر مدن ديار بكر، وانتقل والد جدّه إلى الشام زمن نور الدين محمود زنكي.
نشأ الإمام الذهبي في أسرة كريمة فكان رجلا صالحًا مُحبًّا للعلم، وترك مهنة النجارة واهتم بصناعة الذهب المدقوق، لذا سُمي الذهبي.
وطلب العلم صغيرًا في مجالات عدة، مثل: القراءات، والحديث الشريف، والنحو، والتاريخ، كما كان له رحلات العلمية داخل البلاد المصرية، وسافر إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وسمع من علمائها.
مع الأيام أصبح الذهبي واسع العلم، غزير المعرفة بالعلوم الشرعية، من عقيدة، وفقه، وحديث، وقراءات، وأصول، وغيرها، مع فهمها على منهج السلف الصالح.
وكان رحمه الله رأسًا في معرفة الحلال والحرام، إمامًا في الحديث وعلومه (أطلق عليه شيخ المحدثين)، ناقدًا بصيرًا، إمامًا في علم التراجم والتاريخ، قويًّا في السنة، شديدًا على أهل البدعة، قائمًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.
قَال عنه البدر النابلسي: “كَانَ عَلّامَة زَمَانه فِي الرِّجَال وأحوالهم، جيّد الفَهم، ثاقب الذِّهْن، وشهرته تغني عَن الإطناب فِيهِ”.
ولقد أثرى المكتبة الإسلامية بعشرات المجلدات والكتب التي لا غِنى عنها مثل: الكبائر، وتاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء، وميزان الاعتدال في نقد الرجال، واختصار تاريخ بغداد، واختصار تاريخ دمشق، وغيرها.
وتُوفي الذهبي بتربة أم الصالح في دمشق ليلة الإثنين الثالث من ذي القعدة سنة 748 هـ الموافق 1348م، ودُفن بمقابر باب الصغير، أحد أشهر مقابر مدينة دمشق الإسلامية وأكبرها (1).
التعليم في عصر الإمام الذهبي
عاش الإمام الذهبي في عصر غَلَبَ عليه الجمود والنقل والتخليص، فتخلص من كثير من ذلك بفضل سعة دراساته وفطنته. قال تلميذه صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ): “ولم أجد عنده جمودُ المحدثين ولا كَوْدَنَةُ (بلادة) النَّقَلَة، بل هو فقيه النظر له دِرْبةٌ بأقوال الناس ومذاهبُ الأئمة من السلف وأرباب المقالات، وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أرَ غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده” (2).
ويرى الذهبي أن للعلم أهدافًا يلزم السعي نحو تحقيقها بكل صدق وإخلاص وعزم ومنها:
- خشية الله وتقواه والسعي نحو رضاه، حيث اعتبر أنّ التعلم من أجل الدنيا من كبائر الذنوب.
- العمل بالعلم واستحضار النية في حال طلب العلم أو تعلمه، وهو ما ذكره بقوله: فإن كانت همتك في طلب الفقه الجدل والمراء والانتصار لمذهبك؛ فما ظنك تقول لله غدا.
- الكسب وطلب القوت للأهل وللعلم ذاته.
- تربية العواطف والنفس على الصدق والإتقان والأمانة العلمية (3).
أقسام العلوم عند الذهبي وموقفه من علوم عصره
اهتم الإمام الذهبي بالعلم والعلوم حتى كان حجة عصره، وكان له فيها باع فصنّفها على النحو التالي:
أولًا: علوم وفق الأحكام التكليفية التي قسمها إلى أقسام خمسة، وهي:
- فرض كفاية وعين: حيث تستلزم حسن الاعتقاد بالله تعالى والتصديق بما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع ضرورة سؤال أهل العلم لدفع الشكوك، والاستعانة بالله وحسن عبادته، والإعراض عن العلوم المهلكة ومنها علوم الإيمان وحفظ القرآن والصلاة وغيرها.
- مستحب: مثل علوم الفقه وأقوال الصحابة والتابعين ومعرفة حججهم من الكتاب والسنة الصحيحة والسيرة النبوية والمغازي ومعرفة اللغة العربية.
- مباح: ومنه معرفة تاريخ العالم واللغات والشعر المباح.
- مكروه: ومن ذلك الدخول في دقائق علم الكلام المحمود منه ليثبت ما يحب.
- حرام: كعلم السحر والطيرة والشعوذة والتنجيم والرمل وبعضها كفر بواح.
ومع ذلك يرى عدم الإكثار من المستحب والمباح والمكروه وعلة ذلك أنّ الإكثار من المستحب قد يوقع فيما لا استحباب فيه، والإكثار من المباحات يوقع في المكروهات.
ثانيًا: علوم نافعة وعلوم ضارة: والعلوم النافعة هي ما نزل به القرآن وفسّره الرسول قولًا وعملًا ولم يأتِ نهي عنه.
ويرى الذهبي أنّه ليس من الحكمة إشهار الأحاديث التي يتشبث بظاهرها أعداء السنن من الجهمية وأهل الهواء (4).
وتناول الذهبي في كثير من مؤلفاته العلوم التي كانت في عصره والعاملين عليها ووجّه النقد لها، ومنها:
- بشأن علم القراءة والتجويد؛ انتقد اهتمام البعض الشديد بمراعاة الحروف والتنطع بتجويدها على حساب الفهم والتدبر والخشوع، بمعنى الاهتمام بالشكل دون الجوهر، ما أدى إلى ازدراء بعضهم البعض، وعدم إخلاصهم في قراءاتهم، وانشغالهم عن تحصيل علوم أخرى.
- بشأن علم التفسير: انتقد قلة العناية به وضياع الحق من كثرة الأقوال في التفسير.
- بشأن علم الحديث: وقد كان للذهبي فيه باع عظيم، رأى ضعف همة علماء عصره في فهمه واللامبالاة في ذلك، وعدم تخيّر العالم الذي يُتلقى منه، والبحث فقط عن الشهرة، مع ضعف التأدب مع العلم والعلماء، وضعف التدين والعمل بالأحاديث.
- بشأن علم الفقه: أشار إلى البعد عن المذهبية والتعصب لها والجدال والمراء والتكبر والعجب بالعمل.
- بشأن علم المنطق: رفضه؛ لأنه يرى أنّ ضرره كبير ونفعه قليل، كما رفض العلوم الفلسفية (5).
الأساليب التربوية في فكر الذهبي
لم يُحدد الإمام الذهبي عمرًا للتعليم وإن كان يرى أفضله في الصغر، وأن يبدأ من البيت والأسرة فيقول: “على الوالدين تعليم الأولاد الأطفال أولاً فأولاً ما يجب اجتنابه، ويلزم فعله واعتقاده”.
ويرى بعض آداب المعلم، حيث يتفق مع كثير من علماء المسلمين فيها، ومنها:
- الاستعانة بالله وحسن التوكل عليه وتقوى الله ولزوم طاعته، وملازمة ذكر الله، ومحاسبة النفس، والتواضع والابتعاد عن الكبر والعجب والغرور.
- الاستمرار في طلب العلم والاجتهاد في تحصيله، مع الاهتمام بالوقت وصرفه فيما هو نافع.
- عدم كتمان العلم عن المتعلمين وتحري الحق والتثبت في النقل والرواية.
- الحذر من التقيد بمذهب واحد والتعصب له، مع الترفع عن أخذ الثمن على التعليم إلا للحاجة، مع ضرورة انتفاع المعلم بعلمه وانعكاسه عليه.
- احترام العلماء وعدم التصدي للفتوى إلا بعد بلوغ الرتبة في ذلك، مع احترام أفكار الآخرين والتجاوز عن أخطائهم. وغيرها من الآداب (6).
قواعد تربوية
ووضع الإمام الذهبي بعض القواعد التي تحكم علاقة المعلم والمتعلم، كالسعي على مصالح المتعلمين والتواضع وعدم الكبر وعدم إخفاء العلم وحسن تقديم النصحية واختيار المواضيع المناسبة للمتعلمين.
وعلى المتعلم احترام المعلم ومجالس العلم، وعدم التعصب لمعلم بعينه، أو محاولة إرضاء أحدهم على حساب الآخر، وعدم الإكثار من انتقاد معلميه، كما يُشدد الذهبي على المعلم القدوة في حياة الطالب (7).
وللمرأة مكانتها التي حفظها الإسلام، وحقوقها التي استوجبها الشرع الحنيف، ومنها تعلم ما يُعينها على طاعتها ويعرفها أمور دينها.
ولقد حثّ الذهبي في كثيرٍ من مؤلفاته على تعليم المرأة، بحيث لم تكن أفكاره تشوبها الجمود. وضح ذلك جليًّا في أخذ ابنته العلم على يديه على كثير من علماء عصره، بل هو نفسه أخذ عن كثير من النساء كأسماء بنت أبي بكر المقدسية (ت: 707هـ)، وأسماء بنت محمد بن عبد الرحيم (ت: 723هـ) وغيرهن.
حتى إنه وصف السيدة عائشة بقوله: “لا أعلم في أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- بل ولا في النساء مطلقا- امرأة أعلم منها” (8).
التربية الأخلاقية عند الذهبي
تعد الأخلاق من أبرز متطلبات المجتمعات إذ إن عدم وجودها يعني سيادة شريعة الغابة، وسيطرة القوة على الحق، وهو ما جعل الإمام الذهبي يرى التربية الأخلاقية من الأولويات التي يجب على المعلم والمتعلم العناية بها بجميع صورها.
وهى تربية ترتبط بين الأصالة والمعاصرة التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم، التي تسيطر عليها لغة القوة وانعدام الأخلاق، وهو ما حذر منه الذهبي من مئات السنين (9).
المصادر:
- نورالدين قلالة: الإمام الذهبي شيخ المحدثين ومؤرخ الإسلام، https://bit.ly/3sFbb6p
- الإمام الذهبي شيخ المحدثين ومؤرخ الإسلام: 3 ديسمبر 2014، https://bit.ly/3HiMCQN
- بسام عمر ذياب غانم: الفكر التربوي عند الإمام شمس الدين الذهبي، رسالة دكتوراه، كلية الدراسات العليا، جامعة الأردن، 2003، صـ41- 47 بتصرف، http://search.mandumah.com/Record/540016
- صديق بن حسن القنوجي: أبجد العلوم، جـ2، وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق دار الكتب العلمية، 2007، صـ23.
- مجد أحمد سعيد مكي: أقوال الحافظ الذهبي النقدية في علوم الحديث، رسالة ماجستير، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، السعودية، 1409هـ، صـ31 وما بعدها.
- بسام عمر ذياب غانم: مرجع سابق، صـ85- 105.
- الذهبي: بيان زغل العلم والطلب، طـ1، دار الميمنة، https://waqfeya.net/book.php?bid=9702
- إبراهيم الدوّيري: المجد العلمي للمرأة بالحضارة الإسلامية، https://bit.ly/3Jltpzo
- بسام عمر ذياب غانم: مرجع سابق، صـ171.
إضافة تعليق