اشتُهر الإمام البخاري بجمع الحديث وترتيبه والتحقق من الرُّواة، حتى أصبح “الجامع الصحيح” الذي ألّفه في نحو 16 عامًا هو أبرز كتب الحديث النبوي عند المسلمين من أهل السنة والجماعة، بل لم يلق كتاب -بعد كتاب الله- العناية التي أولتها الأمة لهذا الكتاب، من حفظ ونشر وشرح وتدريس وتلخيص ودراسة.
ورغم أنّ البُخاري كان العُمدة في ميدان الحديث، فإنه ترك – أيضًا- فكرًا تربويًّا، تطرق إليه كثير من علماء الحديث، ومنهم إبراهيم سعود العجين، أستاذ مساعد في الحديث النبوي الشريف وعلومه، بجامعة آل البيت في الأردن، الذي أعدّ بحثًا، نوه فيه إلى ملامح الفكر التربوي لهذا العالم الجليل.
نشأة الإمام البخاري
وُلد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، في مدينة بخارى بأوزبكستان حاليًّا، بعد صلاة الجمعة في 13 شوال عام 194هـ، الموافق 4 أغسطس 810م، وكانت بخارى – آنذاك- مركزًا للعلم، حيث كانت تمتلئ بحلقات المحدِّثين والفقهاء، فاستقبل البخاري حياته في وسط أسرة ذات دِين ومال؛ فقد كان أبوه عالمًا محدِّثًا، عُرِف بين الناس بِحُسن الخُلُق وسِعَة العِلم، وكانت أمه صالحة.
ولقد كان البخاري فارسيَّ الأصل، وأول مَن أسلم من أجداده هو المغيرة بن برد زبة، على يد اليمان الجعفي والي بخارى؛ فنُسب إلى قبيلته، وانتمى إليها بالولاء، وأصبح الجعفي نسبًا له ولأسرته من بعده.
ونشأ البخاري يتيمًا، فقد تُوفِّيَ أبوه مبكرًا، لكن زوجته تعهدت وليدها بالرعاية والتعليم، فدفعته إلى العلم وحببته فيه، وزينت له الطاعات؛ فشب مستقيم النفس، عفَّ اللسان، كريم الخُلُق، مقبلا على الطاعة، وما كاد يتم حفظ القرآن الكريم حتى بدأ يتردد على حلقات المحدثين، فمالت نفسه إلى الحديث، ووجد حلاوته في قلبه؛ فأقبل عليه محبًا، حتى إنه ليقول عن هذه الفترة: “ألهمت حفظ الحديث وأنا في المكتب (الكُتّاب)، ولي عشر سنوات أو أقل”.
ورغم مكانة البُخاري وعِظَم قدره في الحديث، فإنّ ذلك لم يشفع له عند والي بخارى؛ فأساء إليه، ونفاه إلى “خرتنك”؛ فظل بها صابرًا على البلاء، بعيدًا عن وطنه، حتى لقي الله في ليلة عيد الفطر سنةَ 256هـ، وكان ليلة السبت عند صلاة العشاء، وصُلّي عليه يوم العيد بعد الظهر، ودفن بإحدى قرى سمرقند، وكُفِّن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وَفق ما أوصى به، وحينما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أيامًا، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره، وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة.
مصادر الفكر التربوي عند الإمام البخاري
الفكر التربوي المقصود عند الإمام البخاري في هذا البحث، هو مجموعة الآراء والنظريات التي احتواها كتاب (العلم) من (الجامع الصحيح)، مما يتعلق بالقضايا والمفاهيم والمشكلات التربوية، وقد اعتمد البخاري في فكره التربوي على مصادر، وهي على النحو الآتي:
- القرآن الكريم.
- السنة النبوية.
- أقوال الصحابة رضوان الله عليهم.
- أقوال التابعين والأئمة من بعدهم.
مميزات الفكر التربوي عند البُخَاري
وأما عن المميزات الخاصة بالفكر التربوي عند الإمام البخاري – رحمه الله- فهي كالتالي:
- الاعتماد على صحيح الحديث النبوي، فبنى فكره على أساس متين، كما أنّه وليد تجربة تربوية حافلة، مارسها تلميذًا وشيخًا.
- شموليته وترابطه، فالقضايا التربوية التي ناقشها البخاري، شاملة لكل جوانب العملية التعليمية، بترابط محكم بين كل باب من أبواب كتاب “العلم” والكتاب الذي يليه.
- يذكر الأهداف التربوية من خلال ما بدأ به وهو الباب الأول: “فضل العلم”، ثم ينتقل إلى آداب العلم فيُبوّب بها الباب الثاني: “من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه”، ثم يتحدث عن البيئة التعليمية الناجحة، من خلال الباب الثالث: “من رفع صوته بالعلم”.
- ويتطرق إلى البيئة التعليمية الناجحة في الباب الحادي عشر: “ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا”.
- ويتناول أوقات التعليم في الباب الثاني عشر: “من جعل لأهل العلم أياما معلومة”، كما يذكر بدافعية العلم بقوله في الباب الثالث عشر: “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين”، ويربطه بموضوع الفهم، إذ يعنون الباب الرابع عشر بـ: “الفهم في العلم”، ثم بحاجة طالب العلم للرحلة في طلبه، فيذكر في الباب السادس عشر: “ما ذكر في ذهاب موسى – عليه السلام- في البحر إلى الخضر”.
- وينتقل إلى مصدر العلم في الباب السابع عشر: قول النبي – صلى الله عليه وسلم-: “اللهم علمه الكتاب”.
- ويُخصص الباب الثامن عشر لتعليم الصغار: “متى يصح سماع الصغير”، ويعود إلى التذكير بأصناف المتعلمين من حيث تأثرهم بالعلم في الباب العشرين: “فضل من علم وعلّم”، مُحذرًا بعد ذلك من خطورة رفع العلم وظهور الجهل، كما في الباب الحادي والعشرين: “رفع العلم وظهور الجهل”.
- ثم ينتقل إلى الوسائل التعليمية بقوله في الباب الرابع والعشرين: “من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس”، ثم وجوب تبليغ العلم بقوله في الباب الخامس والعشرون: “تحريض النبي – صلى الله عليه وسلم- وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من ورائهم”.
- وينتقل إلى الباب السابع والعشرين: “التناوب في العلم”، وهو مصطلح تربوي انفرد به البخاري.
- ويتحدث عن الغضب في التعليم عند الحاجة إليه، فيقول الباب الثامن والعشرين: “الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره”. وبعد ذلك ينتقل إلى موضوع تعليم المرأة بقوله في الباب الحادي والثلاثين: “تعليم الرجل أمَته وأهله، وعظة الإمام النساء وتعليمهن”.
- ويُذكر بدافعية التعليم بقوله في الباب الثالث والثلاثين: “الحرص على الحديث”. ويعود إلى بيان خطورة تفشّي الجهل بقوله في الباب الرابع والثلاثين: “كيف يقبض العلم؟”، ثم يكرر وجوب تبليغ العلم، وينتقل إلى أمر خطير ينبغي التنبه إليه عند تبليغ العلم، وهو الكذب في العلم، فيقول في الباب الثامن والثلاثين: “إثم من كذب على النبي – صلى الله عليه وسلم”.
- وحتى لا يقع في الخطأ والكذب في العلم يذكر أدوات العلم، فيقول في الباب التاسع والثلاثين: “كتابة العلم”. ثم يتطرق إلى موضوع أوقات التعليم، وبخاصة في الليل فيذكر في الباب الأربعين: “العلم والعظة بالليل”.
- ويتناول البخاري موضوع مراعاة الفروق الفردية في التعليم بقوله في الباب الثامن والأربعين: “مَن ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه”. ويخصص الباب التاسع والأربعين لـ: “مَن خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا”.
- وينتقل إلى ذكر العوائق النفسية التي تمنع العلم بقوله في الباب الخمسين: “الحياء في العلم”، ويذكر أماكن التعليم بقوله في الباب الثاني والخمسين: “ذكر العلم والفتيا في المسجد”.
- ويختم كتاب العلم بالباب الثالث والخمسين الذي خصصه لـ: “مَن أجاب السائل بأكثر مما سأله، تنبيهًا على سعة العلم”. وكأن لسان حاله يقول: إن العلم واسع، وهذه أسس التعليم ومبادئه قد ذكرتها في كتاب “العلم”.
الأهداف التربوية
رسم الإمام البخاري أهدافه التربوية من منطلق توحيد الله تعالى، فبوّب الباب العاشر تحت عنوان: “العلم قبل القول والعمل”؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، (محمد: 19)، ويمضي في تفصيل الأهداف بقوله: “ومن سلك طريقا يطلب به علمًا سهّل الله له به طريقًا التي الجنة”.
ومن أهدافه العليا ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 28)، بل العلم من أسباب النجاة من النار، فيقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10)، فالغاية النهائية للتربية الإسلامية هي تحقيق العبودية لله في حياة الإنسان الفردية والجماعية، وهذا ما أوضحه الإمام البخاري ضمن رؤيته التربوية.
ويدخل في ذلك عدد من الأهداف من أهمها:
- التربية الإسلامية تربي الفرد تربية عقلية سليمة.
- تحقيق السيادة والريادة الفردية والجماعية.
- العلم أساس في صحة القول والعمل.
- العلم سبب للوصول التي الهداية.
- إنقاذ الناس من الضلالة بالعلم.
- تحقيق الخيرية والسمو والرفعة للإنسان.
- تحقيق التقدير الذاتي للإنسان.
مواصفات المربي وآدابه
يضع الإمام البخاري مواصفات عالية، وآداب رفيعة يُلزم المربي أن يلتزم بها وهي:
- الحكمة ومراعاة نتائج التعليم.
- استعمال الأساليب التفكيرية مع المتعلم.
- أن يكون ربانيًّا في هدفه وسلوكه وتفكيره.
- اتصافه بالعلم.
- الصبر والرفق.
- مراعاة الفروق الفردية.
- نشر العلم وعدم كتمانه.
- التيسير والتبشير.
- التواضع.
- التدرج في التعليم.
إضافة تعليق