يلجأ بعض المربين -مدفوعين بدافع الخوف والمبالغة- إلى حجب الطلبة وفرض سياج من القلق من اتصالهم بغيره من المربين، أو زيارتهم لحلقات تربوية أخرى
يلجأ بعض المربين -مدفوعين بدافع الخوف
والمبالغة- إلى حجب الطلبة وفرض سياج من القلق من اتصالهم بغيره من المربين، أو زيارتهم
لحلقات تربوية أخرى، وتعرفهم على روّادها ومعلميها، أو تطلعهم إلى معارف أخرى غير
التي يغذيهم بها مربيهم، وقد يظن المربي أن هذه الحماية الزائدة لمصلحة الطالب،
ولكنها في الحقيقة قد تحجّم قدراته، وتقتل فيه ملكات التفوق والإبداع، وتجعله مستقبلًا
يفتقر إلى الرأي الحرّ والتفكير الناقد والكيان المستقل.
إنّ المتربي -خاصة العناصر المتميزة- يمرّ
بمرحلة تتسم بالنمو المطّرد والتطور العقلي، وهو يشعر دائمًا بأن عمله الرئيس هو
التلقي، فلو اقتصرت مصادر معرفته على شخص المربي، واختياراته ومذاهبه فقط فلن يُشْبِعَ
ذلك نَهَمَهُ المعرفيّ، ولن تُتاح له الفرصة كي تتسع مداركه، وتثمر مواهبه، ولربما
ينتهي به المطاف إلى الخروج مستقلًا بنفسه، باحثًا عن محضن آخر يجد فيه مناخًا
ملائمًا للنمو والتقدم. ومكمن الخطر هنا أنّ المربي -إن لم يتدارك هذا الخطأ-
فستظل المحاضن التربوية تخسر العناصر المتميزة وتحتفظ بالمقلدين الذين استنسخهم
المربي من نفسه.
وهناك عدة أسباب وراء انتشار هذا الأسلوب
التربوي الخاطئ؛ منها:
- ضعف
التجرد لدى المربي؛ إذ يرى معيار نجاحه في تربيته لطلابه بمدى مبالغتهم في طاعته،
وتبنّيهم لآرائه، ومتابعتهم له في اختياراته الفقهية، ونقده للشيوخ والكتب
والمناهج التربوية للآخرين، دون مراجعة أو مناقشة، وإذا صدر ذلك من أحدهم لم يقبل
ذلك منه، ولربما اتهمه بإثارة الفتنة وسوء الأدب، ولسان حاله يقول: (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29].
- بقايا النظريات الصوفية في العلاقة بين الشيخ والمريد
(المربي والطلبة): فقد يكون المربي متأثرًا بما درسه عن الشكل النمطي لعلاقة
الطالب بالمعلم، وهذا المفهوم وإن كان موجودًا في كتب أهل السنة إلا أنه لا يخلو
من التأثر بالطريقة الصوفية في تنظيم العلاقة الصارمة بين الشيخ والمريد (المربي
والمتربي)، والتي تقوم على إلغاء شخصية المتربي بالكامل، والمبالغة في تقديس
الشيخ، والثقة به، والتزام الطاعة الكاملة له دون أدنى إعمال للعقل، مثل قولهم في
وصف ما ينبغي أن يكون عليه الطالب بين يدي أستاذه: (وينبغي للمتعلم أن يلقي زمامه
للمعلم كما يلقي المريض زمامه للطبيب، وأن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي
مغسّله). [مختصر منهاج القاصدين ص19]. وقد كان هذا المنهج جديرًا بتوريث البدع
والشطحات والأخطاء العقدية عبر الأجيال، ونشرها عن طريق هؤلاء التلاميذ المنسحقين.
- ضعف في فهم المربي لقضية الأخوة الإيمانية: وضرورة تنميتها عند
المتربين بالشكل الصحيح؛ فقد يفهم المربي قضية الأخوة الإيمانية فهمًا ضحلًا؛ يجعله
يظن أن حيّزَ تطبيقها هو داخل المحضن التربوي فقط، أما ما كان خارج الأسوار فمنه
الترقب والحذر، وقد يصل الأمر إلى بُغض المخالفين -في الفروع والجزئيات- والتحريج
على المتربين من مخالطتهم أو الحديث معهم.
- غياب التصور الصحيح للقيادة التربوية لدى المربي،
فالقائد الناجح هو مَن يحيط نفسه بمجموعة من القادة الناشئين وليس الأتباع الذين
يجب أن يظلوا أتباعًا حتى نهاية أعمارهم.
ومن أهم سبل
العلاج لتلك الظاهرة:
- تجرد المربي: فيجد غايته في تجليَة الحق وإبرازه
لأبنائه المتربين بصرف النظر أن يكون ظهوره على يديه هو، أو على يد غيره من الأفراد
أو التجمعات، قال الشافعي: (وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب
إليّ شيء منه أبدًا؛ فأوجر عليه، ولا يحمدوني).
- ربط المتربي بالمصدر الأصلي للتلقي، ليس
فقط في العلوم الشرعية والكونية، ولكن في ضبط فكره، وسلوكه، وأهدافه في الحياة،
كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصاياه الجامعة لأصحابه، فعنْ أَبِي
نَجِيحٍ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ
مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ
مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ
فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ
وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). [سنن َاَلتِّرْمِذِيُّ:
266].
- ضبط فهم المتربي لقضية الخلاف، وأنّ الاختلافَ في الفروع، وتعدُّدَ
المذاهب الإسلامية هو من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين، كما أنه يُثري الفكر
الإسلامي، ويوسِّع على الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، عن القاسم بن محمد بن أبي
بكر قال: (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في أعمالهم، لا
يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن من هو خيرٌ منه قد عمله). على أن
يبدأ بتعليمهم الثوابت ومحكمات الدين، مثل العناية بحِكَم التشريع ومقاصد الشريعة؛
فذلك مما يزيدها رسوخًا لدى الشباب، ويقوي قدرتهم على مقاومة الاختراق الفكري والثقافي.
إضافة إلى تدريبهم على مهارات التعامل الإيجابي في مواقف الخلاف، ومن أبرزها: مهارات إدارة
الخلاف، ومهارات المناظرة، وردّ الشبهات، ومهارات التفكير الناقد.
- تربية الطالب على التوازن العاطفي،
فلا يبالغ في الحب ولا في البغض، بل يكون معتدلًا في أحواله كلها، عن علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أحبب حبيبك هونًا
ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا
ما). ولن يصل المتربي إلى هذا التوازن إلا إذا تلقاه من المربي القدوة في مواقف
عملية متكررة.
- فهم وتأصيل قضية الأخوة الإيمانية
بشكل صحيح في نفوس المتربين، فالأصل في عقد الأخوة الإيمانية أنه من مسائل الإيمان
والعقيدة، وهي تعلو على أي خلاف سائغٍ في الفروع أو في مناهج الحركة والعمل
الإسلامي، كما أن النمو النفسي الصحيح للمتربي لا يتم في كيان فردي يعيش فيه
منعزلًا عن الآخرين، وإلا كيف يتدرب على تطبيق مفاهيم الأخوة إن لم يمارس هذه
الأخوة عمليًا؟! وكيف يتدرب على التعاون في جوانب الاتفاق ونبذ الخلاف إن لم يقم
بذلك مع آخرين، ويتدرب عمليًا عليه تحت رعاية مربيه وتوجيهه؟! إنّ نمو المتربي في
محضن منفتح على الآخرين هو الذي يغذي تلك المشاعر الإيجابية، وإلا ستنمو بعض جوانب
نفسه وتظل جوانب أخرى ضامرة، بل إن من شأن المربي أن يترصد أخيار الرجال
في المجتمع، فيحتك بهم، ويتعرف عليهم، ويزورهم، ويصطحب معه من ينتقيه من طلابه،
فيتعلمون طريقة ضم الجهود الإسلامية وتنسيقها، فيجدد بذلك سيرة الإمام أحمد بن
حنبل -رحمه الله-؛ فقد كان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق، أو اتباع
للأمر؛ سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله.
- اعتماد منهج
الحوار والمناقشات الحرة البنّاءة بين المربي وطلابه؛ فهي بمثابة التدريب العملي لعقل
المتربي على طرق التفكير السليم، وكيفية التناول الموضوعي للقضايا، والبعد عن
المغالاة والشطط.
وأخيرًا..
فإن دوام المراجعة والتصحيح هو سبيل التقدم في كل عمل،
وإن أخذ المربي نفسه بالاعتدال، والبعد عن المبالغة في الفهم والتصورات والتطبيق العملي مع
المتربين، لمن أهم السمات لشخصية المربي، حيث يؤثر في فهمه ونظرته للأمور، وتبدو
تطبيقاته متوازنة في كافة الجوانب، وليوسّع على المتربي؛ فلا يبالغ في حجبه والخوف
عليه من مخالطة الأقران، ولكن يتيح له الفرصة كي يمارس التفاعل الاجتماعي الصحيح مع البيئة المحيطة به بكل
مفرداتها، وعندئذٍ يتخرّج على
يديه أفرادٌ يتمتعون بعقليات قوية ناضجة، قادرة على تكوين الرأي المستقل، والتفكير
الناقد الذي يفند به الصالح من الطالح، والغث من السمين.
إضافة تعليق