لقد حدث تغيير كبير في واقع مجتمعاتنا، وهذا التغيير غيَّر سُلم الأولويات والاهتمامات في الأسرة، فصار أهم شيء في حياة الوالدين أن يصل أبناؤهم إلى أعلى الدرجات في التعليم، وأن يدخلوا أكبر الجامعات ..

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

لقد حدث تغيير كبير في واقع مجتمعاتنا، وهذا التغيير غيَّر سُلم الأولويات والاهتمامات في  الأسرة، فصار أهم شيء في حياة الوالدين أن يصل أبناؤهم إلى أعلى الدرجات في التعليم، وأن يدخلوا أكبر الجامعات، حتى أصبح ذلك لونًا من «الهوس» الذي يسيطر على عقول الآباء والأمهات، ذلك الهوس الذي يجعلهم في توتر مستمر، وهذا -بلا شك- يؤثر في تربية أبنائهم؛ حيث نرى في كثير من الأحيان أن الأب لا ينظر إلى ابنه بمنظار الدين والدنيا، بل هو فى الغالب لا يهتم بتحصيل أولاده للعلم والمعرفة، إلا للحصول على الشهادة والمنصب والجاه دون أي أعتبار لتدين رشيد، أو خلق متين، أو سلوك نظيف!!

بينما يجب أن يكون المربي دائم الرعاية لابنه، والعناية به على مختلف الأحوال والظروف، مشغولاً بتربيته الفكرية، ومنهمكًا في تربيته الروحية والنفسية، ومتابعًا لنموه العلمي وحياته المادية، فإن فعل ذلك فإنه مع مرور الزمن تتوثق العلاقة بينهما، وتسمو وتغدو أقدس وأنبل وأصدق علاقة بين عبدين صالحين دانا بإسلام القلب والوجه لله رب العالمين، فالمربي دائم التمني أن تكتحل عيناه برؤية ابنه وقد سبقه وتجاوزه في شتى مجالات الدين والدنيا بدرجات ودرجات، وكله رجاء أن يتقبل الله صنيعه هذا بقبول حسن؛ فهو لا يبتغي من أحد جزاءً ولا شكورًا.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِى مَا هي؟!». فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ في نفسي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «هي النَّخْلَة». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِى بِمَا وَقَعَ في نفسي، فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لي كَذَا وَكَذَا. [متفق عليه].

هذا ما تحمله أحاسيس المربي نحو أبنائه، فكم يقدم من وقته وجهده لتحقيق ما يصبو إليه؟!

استقالة تربوية:

إن واقعنا –كمربين- يؤكد أننا قد قمنا باستقالة تربوية، تركنا بموجبها مسؤوليتنا فى عملية تربية أبنائنا، لنحصر هذه المسؤولية فى توفير المصروف والكسوة والأكل وتوفير أسباب الراحة، أو ربما انشغلنا بالتربية الدعوية عن التربية الأسرية، وهذه حقيقة مرة.

ولكن ما هو أمرّ منها أن نبقى على واقعنا هذا حتى ندرك بعد فوات الأوان -ونحن نواجه فى أبنائنا البقع المتصحِّرة التي يخلِّفها غياب التواصل معهم- أنَّ نقطة واحدة من الوقت الذي أهدرناه دون التواصل معهم، رُبَّما كانت كافية لانقاذ أخلاقهم.

إن من أهم مقتضيات الحكمة والتوازن في ممارسة المربي لعملية التربية الحذر من الانشغال عن الأسرة والأبناء بمهام الدعوة، والنظر إليهم على أنهم أمر دنيويّ لا يجب أن يشغله؛ ذلك أن مقتضيات الدعوة تحتم اعتبار الأبناء من أهم قضايا الدعوة، وتسعى لتوفير الوسائل التي تحسِّن تواصلنا مع أبنائنا، بأن نشاركهم هواية لهم كالنجارة مثلاً أو الخياطة أو تربية النباتات أو الرسم... وغيرها من الهوايات، نشاركهم فيها مشاركة الصديق، ونناقشهم في كل ما يخص هذه الهوايات بصداقة حميمة، فهم يتذكرون بكثير من السعادة والامتنان الأوقات التي نقضيها معهم.

قال أحد الآباء يشكو ابنه: إنه منطوٍ على ذاته، يفتقر إلى الثقة بالنفس والقدرة على البت في الأمور، وروح النضال والكفاح والمثابرة، فسأله صاحبه: كم من الوقت تمضيه مع ابنك؟! أجاب بقوله: أراه كل يوم على الإفطار، إلا إذا اختلفت مواعيدنا، فقال له محدثه: هل تمضي معه وقتًا طيبًا بالمنزل، أو تدعوه إلى مطعم، أو إلى صيد سمك؟! أجاب الرجل مندهشاً ومتسائلاً: ومن أين لي الوقت لأفعل ذلك؟! قال له صاحبه: العلاج بسيط، نظم حياتك العملية بحيث يتسع منها وقت لابنك.

كيف نحقق التوازن؟!

إن وجود الأب بين أبنائه ولو صامتًا، فيه من عمق التربية ما فيه، فيه التضحية بوقته، فيه التقدير لهم، فيه إحساس المشاركة، فيه الطمأنينة، فكيف إذا نطق الأب وهو بينهم فحلَّ مشكلة أو ناقش همومهم، إنه بذلك يكسر الحواجز بينه وبينهم ويسبر غور نفوسهم، بل يصبح مخططًا لحياتهم بما يعود عليهم بالنجاح فيها؛ فلا نسمع ابنًا يقول: لا أحد يفهمني. ولا نسمع أبًا يبرر: لقد قلت لهم ما يجب أن يقوموا به، لقد فقدت الأمل فى إصلاحهم.

يتعثر الابن، فيجد يدًا حانية تمسح جراحه، وتسدِّد خطاه، ويرى نفسًا كريمة تنفخ فيه روح الثبات والمثابرة، وتؤكد له وقت اليأس أنه من أقاصي اليأس يولد دائمًا منتهى الأمل.

والنصيحة التربوية هنا: أشبع أطفالك عاطفيًا، أعطهم حقهم فيك، اخرج معهم في نزهات دورية إلى الحدائق، العب معهم أنت، مُجّ الماء من فمك، ورشّهم به مُلاعبًا، أخرج لسانك لهم مضاحِكًا، حتى يروا حمرتَه، اصنع جَملاً لابنك، احمله على ظهرك، دُرْ به في غرفته، اجعله يوجهك أينما شاء، إذا ركب فوق ظهرك وأنت ساجد، فأطِل السجود، حتى يشبع. هكذا كان يفعل نبيّك محمد، سيّد الخلق أجمعين، قدوتك وقائدك.

تأمل هذا الحديث عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، ولتنظر كيف التقت فيه أعلى درجات الهمة في الدعوة مع أقوى درجات الرحمة بالصغار، فعن أنس بن مالك، قَال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبا عُمَيْرٍ، كَانَ فَطِيمًا، فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَرَآهُ قَالَ: «أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟!». قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِه. [متفق عليه].

إنها الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الطفولة، وهذا ما يجب أن يراعيه الأب والمربي في تأصيل منهج الدعوة عند الأبناء.

إن اللعب ممتع، ولكن اللعب مع الآباء أمتع؛ فلا تمنع أبناءك بـ"حب" أو "حرص" من ممارسة اللعب، فتتحطم نفسياتهم كما تتحطم الآنية في يد من "يحب" وضع الزهور بها.

إن بعض الأشياء الصغيرة يكون لها أثر كبير في النفس، ومن ذلك الابتسامة، وكما أن  الطفل الصغير يقتنص الحب من الكبار بعينيه الصافيتين وضحكته اللامعة وصوته الذي لا يحمل كلمات محددة ولكنه أكثر جمالاً من كل الأصوات؛ كذلك الأب الذي لا تفارق البسمة شفتيه؛ يحق له أن يقول: إن تواصله مع أبنائه على ما يرام، فهل تستطيع كمربٍّ أن تجعل ابتسامتك لأبنائك صادقة، ابتسامة حب لهم، وليس ابتسامة تحريك لهم نحو اختيارك؟!

أخي المربي، تنازل عن بعض ما تراه "فرصة" عمل أو دعوة لتجلس مع أبنائك، لا تعتذر بأنك مشغول ولا تملك الوقت الكافي للجلوس معم، حاول أن تعي التوازن بين التربية الدعوية والتربية الأسرية، حفاظًا على التصورات السليمة أن تُثلم، وصونًا لجهدنا المبذول أن يبيد.

واعلم أن هذا التوازن لا يتحقق إلا من خلال زخم الخبرات، وتلاحم الطاقات، وتلاقي الإبداعات، ومن ثم فإن المطلوب من كل مربٍّ "محاولة" اقتحام مجاهل العملية التربوية؛ لاكتشاف سننها، وفضّ ألغازها، والقيام بمسح للإمكانات، ودراسة للطاقات على كل المستويات، على هدي مقتضيات الدعوة الراشدة، حتى يرى تربيته قد انتفضت حيّةً ناطقة بأحلى بيان وأعذب كلام.. (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) [الجمعة: 4].

مقالات ذات صلة
التعليقات
  1. 7 أغسطس 2021
    شوزان الراوي

    لم يعد هناك مؤسسات تربوية تقدم هذه الخبرات للأبناء 😢 ولم يعد الوالدين لديهم نفس الاهتمامات في كسب ود الأبناء او ترتيب اولوياتهم الا مارحم ربي. فقد طغى عصر النت والفيس ونواقع التواصل الاجتماعي والتيك توك والالعاب الإكترونية على كل جميل في حياة اطفالنا وعلينا نحن أن نقدم محتوى مميز لابناءنا لكي يتركوا هذه الافات المدمرة ، ليس هذا فحسب بل يجب الا نمل من توعية الوالدين حتى يقموا بواحبهم

إضافة تعليق
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة