حين
نترفع عن واقعنا التربوي، ونسكن الأبراج العالية، عندها لا يحق لنا أن نلوم
الارتفاع إذا أصابنا بالدوار، فنحن من اخترنا الدوار، فإذا شعرتَ ـ أخي
المربي ـ بالحيرة وأنت تتأمل حاضر أبنائك، وتفكر كيف سيكون مستقبلهم؟؛ فهذه بعض
أبجديات تربوية في مراحل الأبناء المختلفة من الطفولة حتى النضوج
من خلال ممارسة التربية في واقع الحياة الذي يكتب لنا من فم الأحداث والمعاناة
والألم.!
وكلي أمل ـ أخي المربي
ـ أن تحسها نبضًا إنسانيًا قبل أن تقرأها كلمات في عالم الورق الذي ترسمه الحروف
وتحده السطور.
فإذا أردت أن تنقلها من
عالم الورق إلى عالم الواقع؛ فلا بد لك من تأمل واقعنا التربوي، لتعطيك الكلمات
أسرارها، فتدرك دون لبس أو غموض أو إيهام أن:
هدفنا: إنسان يفكّر بسوية، ويعبّر بحرية.
وسيلتنا: بذل الحب والتبصير بالعواقب.
من الطفولة إلى الصبا..
حين تلف بذور نبات
الفول ذات القشرة البنية القاسية في لفافة صغيرة من القطن، ثم تضعها في كوب من
الماء وتتركها أياماً؛ تنكسر القشرة البنية القاسية ليخرج منها برعم صغير ذو لون
أخضر معلناً قدومه إلى الحياة.
ويومًا بعد يوم تنمو
البراعم، فتخرج المجموعة الجذرية أسفل الحبة، وكذلك المجموعة الخضرية أعلاها!!
تغيرت حبة الفول بعد
"نقعها" في الماء لعدَّة أيام من حبة ساكنة إلى نبات نافع، وحتى لو
منعنا عنها الماء بعد ذلك فلن تقوم بسحب ما خرج منها، وتلغي ما حدث لها من تغيير،
وترجع إلى حالتها الأولى كبذرة فول بنية اللون ملساء الملمس قاسية القشرة؟!
هكذا هي البيئة التي
ينشأ فيها الأطفال ويتم "نقعهم" فيها ـ إن صح التعبير ـ فيتغيرون، فإن
كانت البيئة صالحة طيبة؛ فإن التغيير يكون للأفضل وتنمو براعم الخير، وذلك التغيير
لن ينتهي، وهذه البراعم لن تنسحب، بل ستنبت خيرًا كثيرًا.
ولذلك فإن وصيتي التربوية في هذه المرحلة هي:
امنح الحب والقبول غير
المشروط، وأفسح قلبك لأطفالك، واملأ بالرحمة كل تواصلك معهم، ولا تبخل بالكلمة
الحسنة واليد الحانية حين تقدم النصيحة الصادقة.!
واعلم أن النصيحة حين
تُسقى ماء الحب؛ تثمر رحمة ورفقاً..
أمّا حين نسقيها
القسوة؛ فإنها تثمر الغلظة والعنف..
فابحث لأطفالك عن
اليسر، واجعل نصيحتك لهم مترعة بالرحمة، ومليئة بالمغفرة.
من الصبا إلى الشباب الباكر..
في هذه الفترة يكره
الابن أن يعامل كطفل، ويحب أن يعامل على أنه رجل إن كان ولدًا، وعلى أنه أنثى
ناضجة إن كان بنتًا.. وقد يشعر بعضهم أنه يعيش في زمان دون زمانه ومكان لا يرضاه
لنفسه مكانًا.!
وهنا يحاول البعض جره إلى غير سبيل المؤمنين،
وإغراقه بالشهوات والملهيات التي تملأ نفسه بالمشاكل النفسية.!
ولذلك فإن وصيتي التربوية في هذه المرحلة هي:
اطرق باب هذا العقل بكل ما تملك من "رحمة"
..
وأحيي هذا القلب بـكل ما عندك من ماء "الحب"
..
وأقبل على الله بقلبك، يأتيك
بقلبه ويرزقك مودته وحبه..
تقبل عن أبنائك أحسن ما
عملوا وتجاوز عن سيئاتهم، فهم بشر وهم أبناء بيئتهم، فإن أخبرك أحدهم بكلمات موجعة
بأن نفسه تحدثه أن الله لن يهديه أبدًا لأنه فعل المنكرات ألوانًا؛ فأخبره أنت أن
الله هدى عمر بن الخطاب وهو غادٍ لقتل أكرم أنبيائه عليه، وهدى خالد بن الوليد
وعكرمة بن أبي جهلٍ وقد فعلا بنبيه وأصحابه -يوم أحدٍ- الأفاعيل، وهدى عمرو بن
العاص وقد سافر إلى الحبشة حربًا عليه في أوليائه المستضعفين يؤلِّب النجاشيَّ
عليهم، وهدى غيرهم -سابقين ولاحقين- بعد فظائع شنعاء اقترفوها.. وليكن شعار هذه
المرحلة هو الرفق والمرحمة، لا حرم الله أبناءك مرحمتك..
من الشباب
الباكر إلى النضوج..
هذه هي
أكثر فترات العمر حيوية حيث النمو في كل اتجاه، والتطلع الدائم إلى المزيد.. ففيها
النمو جسدي ظاهر وتطلع إلى مزيد، ونمو عقلي ظاهر وتطلع إلى مزيد، ونمو نفسي وعاطفي
وروحي..
ووصيتي التربوية في هذه المرحلة هي:
الحوار والمشاركة، لأن
الحوار هو طريق الصداقة، والمشاركة هي شرط توثيقها..
حوار طليق بلا قيد، يسير
الأب والمربي مع أبنائه في دروبه، ويوسعها يومًا بعد يوم، ثم يدعوهم إلى أن يسلكوا
أيديهم في جيب تجربته، فيأخذوا منها ما يجدونه من الخير، ويتركوا ما يرونه بلا
فعالية.
إن
إغلاق باب الحوار في وجوه الأبناء هو في حقيقته "وأد" تربوي لشخصياتهم،
وهدم لروح الابتكار والتجديد لديهم، وما لم نلاقح أفكارنا وأفكار أبنائنا عبر الحوار؛ لن نصل بهم إلى
"الوعيّ" الذي تشرق معه عقولهم، ولن ننقي علاقتنا بهم من أشواك القلق
والقطيعة..
والتربية
السوية إنما تكون على أساس من الحرّية ضمن النظام، والمبادرة مع الانضباط،
والتنفيذ وليس الجدل، وتفجير الطاقات وليس تبرير العجز..
ثم يصل الأبناء إلى مرحلة النضوج..
تعطينا التربية الصالحة
أفرادًا فعّالين بصدق يجمعون بين القوة والأمانة، وهؤلاء هم ثمرة نبتة الطفولة ورعايتها حتى الصبا والجهد الدائم حتى الشباب، تعوض جهود
الآباء والمربين، وتحمل بذور دورة تربوية قادمة يتم فيها الإنبات من جديد.
ونصيحتي التربوية في هذه المرحلة هي:
أن نراجع كل ما تحويه رؤوسنا
من أفكار تربوية، فإذا وجدنا مخزوننا التربوي يحوي بعض
أفكار شائخة أو ميتة لم تعد تؤدي دوراً، بل تؤذي برائحتها حياتنا مثل الجثث؛ فلا
بد من دفن هذه الأفكار الشائخة والميتة، لنضع مكانها أفكاراً حيّة
وداعية للحياة من خلال حُسن التمييز للأرضية
التي نقف عليها، ودقة المعرفة بالبيئة
التي نتحرَّك فيها، وتمام الإدراك للتناقُضات الاجتماعية، والقدرة على تشخيص العوامل
المسببة لهذه التناقُضات، ومن ثم تعيين الحلول المُناسبة لهذه التناقضات من خلال
رؤية تربوية منسجمة مع الثقافة التي نحيا في سياقها..
أخي المربي
..
لا تترك هدفك المعلق
علي جدار أملك تتلاعب به رياح الواقع، وتابع سيرك في تربية أبنائك ليكونوا صالحين
ومصلحين مُنْصتاً إلى فم الهداية ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يأمرك بالرفق الذي ما
كان في أمر إلا زانه، ولا تُخرج من فمك إلا الطيب من القول الذي من هداه الله إليه
هداه إلى صراط مستقيم. {وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]
إضافة تعليق