ولأنّ الوعي مهارة وذكاء، ولأنه ضرورة واحتياج، ولأن الوعي وصحةَ الفهم من صلب الإسلام، عليه يقوم ويرتكز؛ كان لابدّ من غرسه في الجيل وتنشئة الإنسان عليه منذ الولادة حتى يشبّ ويشتدّ عودُه وقد ألف هذا الفنّ ووعاه.
الوعي حالة
سامية يسعى إليها كلُّ فطِن حكيم، ويطال سماءها كلُّ صاحب همة عليّة، يحيط علمًا
بالأشياء ويدرك كنهها ومراميها؛ حيث حازها مما أنعم الله عليه من وسائل التعلّم
والإدراك والتقاط المعلومات، من خلال الحواس الناقلة للعلم ليصير إلى التفكّر
بالأسرار والتبصّر بالأحداث، كما ذكر الله في كتابه الكريم في سورة الحاقة: (لِنَجْعَلَهَا
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة: 12]، وفي سورة النحل: (وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:
78]؛ ما يجعل الإنسان يتصرّف وفقًا لما نتج عن تفكيرُه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛
فتكون على أساس ذلك السلوكيات وطبيعتها، والأفعال وأشكالها، التي تؤثر -دون شك- في
المجتمع كما تؤثر على ذات صاحبها وفي مصيره.
ولا غرابة
أنّ حروف كلمة (وعي) تجعلك تلمس دلالتها؛ فالواو والعين والياء في مقاييس لغتنا
العظيمة تدلّ على ضمّ الشيء واحتوائه والإحاطة به؛ ففي لسان العرب: (وعى) أي حفظ
القلبُ الشيءَ، ووعى الحديثَ وعيًا وأوعاه أي حفظه وفهمه وقَبِله، قال -عليه
الصلاة والسلام-: (نضّر اللهُ امرءًا سمع مقالتي فوعاها، فرُبَّ مبَلَّغ أوعى من
سامع) [صحيح سنن الترمذي: 2657].
وللوعي
مترادفات في اللغة العربية وفي أدبيات حضارتنا الإسلامية نجدها في بطون أمهات
الكتب التي باتت مهجورة إلى غيرها من كتب الغرب ومصطلحاتهم، كما نجد رديفات الوعي
في العلوم الأخرى خاصة الحديثة منها كالإنسانيات من علم النفس والاجتماع وما تعلّق
بها من مسارات التنمية البشرية.
الوعي..
الحاجة والضرورة:
ولا يشك عاقل
بأن الوعي حاجة ماسة، والتحلّي به ضرورة لازمة في زمنٍ يعجّ بالكوارث والهزائم
والنّوائب، أكان على الصعيد الشخصي أو العام، أم كان على المستوى الداخلي للبلدان
من تفشي الاستبداد والظلم، أو على المستوى الخارجي من تبعيّة وتنمّر وعدوان.
ولأنّ الوعي
مهارة وذكاء، ولأنه ضرورة واحتياج، ولأن الوعي وصحةَ الفهم من صلب الإسلام، عليه
يقوم ويرتكز؛ كان لابدّ من غرسه في الجيل وتنشئة الإنسان عليه منذ الولادة حتى
يشبّ ويشتدّ عودُه وقد ألف هذا الفنّ ووعاه.
وهنا يبرز في
المشهد عنصر النشء الذي هو محط الاهتمام والمادّة الخام لتلك الصنعة، أما جودته فتعتمد
على أرضه ومكتشفه، وتتميّز بمهارة الصانع
والقائم عليه؛ ولأن توعية الجيل وتعليمه هي تربية للنفوس وهي صنعة جليلة
واسعة الميدان مترامية الأطراف، ولأن الإنسان مادّتها وعمادها، ولأنه يمر في مراحل
عمرية لها خصائصها، فإنّ من الحكمة أن يراعي المربي ذلك كما يراعي شخصية الناشئ
وطباعه وبيئته التي نبت فيها، والمراهقة إحدى هذه المراحل وأبرز محطات العمر، وهي
تترك أثرها في وعي الإنسان وإدراكه بشكل ملحوظ، وقد تؤثر سلبًا في مستقبل النشء إن
أُهمِلت، وتجعل منه نجمًا منيرًا في سماء أمّته إن رُوعيت حق الرعاية.
النماذج كثيرة للمراهقين في حضارتنا التي سادت العالم حينًا من الدهر، من
الصحابة نجد من ضربوا لنا أروع الأمثلة في الرجولة والبطولة والوعي الرشيد، فهذا
الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص أول من رمى بالسهم في الإسلام ولم
يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وهذا أسامة بن زيد بن الحارث قاد جيشًا سيّره رسول
الله -صلى الله عليه وسلّم- وهو دون الثامنة عشرة، وكان في الجيش وتحت إمرته أبو
بكرالصدّيق وعمر الفاروق وغيرهما من كبار الصحابة -رضي الله عنهم جميعًا-، وهذا الأرقم
ابن أبي الأرقم يفتح بيته مقرًّا للدعوة في مكّة وكان في السادسة عشرة من عمره.
وما أكثر القادة المراهقين الذين فتحوا الأمصار وأثّروا في مسيرة الأمة، أمثال
عبد الرحمن الناصر الذي حكم الأندلس ويُعدُّ حكمه عصرًا ذهبيّا لبلاد الأندلس ولم
يبلغ العشرين، ومحمد الفاتح الذي تميّز بفتح القسطنطينية وكان عمره دون الثانية
والعشرين، ومحمد القاسم فاتح بلاد السند والهند وكان عمره سبعة عشر عامًا...
والتاريخ الإسلامي يعج بأسماء القادة والعلماء والفقهاء.
آليات لا غنى للمربي
عنها:
وفي رحلة الاقتراب
من البلوغ يبدأ النضج العقلي والجسمي والنفسي عند الإنسان، وتكون فيه التحولات الهرمونية والتغيرات الجسدية واضحة عليه،
حيث يكون لها تأثير قويّ على صورته لنفسه ومزاجه وعلاقاته الاجتماعية، لذا يحتاج المراهق
في أمّتنا إلى تربية حكيمة واعية يقوم عليها صنّاع مهرة يخلصون النية ويجتهدون ويحسنون
الوسيلة.
- التخطيط الاستراتيجي
لتحقيق الرؤية السامية، وإتقان مهارات الإدارة الضابطة للعمل الجمعي، ورسم
الأساليب وإبداع الوسائل المتناغمة مع الواقع دون تكلّف مخل ممجوج، وتعهّد الهدف
العام من مربين قادة مسئولين، هو الأداة الأولى والوازنة في تصنيع الجيل الواعي.
والقاعدة في العمل أن
يدوم؛ فوضوح الغاية وقوده، ونصوع الفكرة ضمانة حياته، ويد الجماعة دليله ومرشده،
فإن عملاً بلا غاية نقش في الماء، وإن كان بلا فكرة فهو رسم في الهواء، وإن كان بلا
جماعة فهو متاهة في الهباء.
ولابد أن يفرز ذلك
كله أداءً ممنهجًا سليمًا تكون له السيادة الضابطة لمعزوفة التوعية والتربية؛
لتكون بكل صخبها وهدوئها متناغمة مع هُوية الأمّة وذائقتها، مواكبة للعصر مرنة حيوية؛
فأمّتنا يتصدّر فيها العلمُ الشرعيّ كأساس للبناء ومنطلق للفضاء الرحب الذي يتيه
فيه مَن لم يضبط بوصلته، ثمّ تكون العلوم الدنيوية التي ينهلها الجيل من ميادين
التنظير والتطبيق بكافة ألوان التجارب، وتدوين النتائج والبناء عليها واستخلاص
الخبرات والدروس.
وتلتقي الأدمغة
الصاعدة في سلّم الوعي لتتحاور وتتناظر متحليّة بالآداب التي يبثّها ويعيشها
المربون قدوةً بينهم وخيرَ مثال، مستثمرين التقنيات الحديثة والأسس المتينة،
يمزجزن بين الأصالة والمعاصرة، يدرسون أثر الأجداد وتراثهم العلمي والأدبي،
وينظرون فيما استجد عند الغرب اليوم، فهم يعرفون لكلٍّ فضله ودوره، ويدركون بوعيهم
النابت قيمة وقدر كلّ طرف، فيؤدّون ما يريده منهم إلهنا العليم البديع، من تفكير
فذّ يشرق فينير الكون، يتوقّد من شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها
يضيء، ينشّطون كل أنواع التفكير ومستوياته، وتُراعى فيهم كل أنماط الشخصية وأصنافها،
تستثمَر فيهم كل الطاقات وأطيافها، ليكون البحث والتجربة والتحليل والاستنتاج
والبناء، ويكون الحوار والشعر والخطاب، تربية مستوعبة للعلوم كافة، لتضمن مخرجات واعية،
فنحن اليوم نولي التعليم وأساليب التدريس أولوية على التربية، ونسلخ التعليم عنها؛
لذا نجد المعلم اليوم يتبرّأ من مهمة التربية، فهمّه أن ينهي منهجًا وضع له من
مجهول، لم يشارك هو في صناعته، ولم يشارك حتى في نقده وتقويمه، وبات لا يسأل عن
هذه الأمور في زمن التبعيّة والاستبداد!
وعلى ما سبق فإن
إلمام المربين بهذا الفهم وهذا الوعي لقيمة وضرورة الانطلاق من العلم الشرعي إلى
العلم الدنيوي هو الضامن لصناعة أجيالنا الواعية، وقد تكون المراهقة بيئة موائمة
وفترة صالحة للانشغال بهذه الأمور؛ لما لطبيعة خصائص المرحلة من قوة دافعة لاستثمارها،
بتوازن دون تطرف وتضييق، أو تهاون وتضييع، بل بالأخذ بسماحة الدين وجمال الحياة
واستحضار الغاية الربانية من الوجود.
- فإذا انشغل
المراهق بالعوالي من الأمور في أجواء حافلة بالتنافس والشغف والسعادة بالتجربة
والمغامرة؛ كان عن الأمراض النفسية والمجتمعية أبعد، وكان عن أسباب هلاك البشر
أشدّ نأيًا وأقرب للسلامة، فالفراغ والجِدة مفسدة للمرء أيّ مفسدة، فكيف إن كان
مراهقًا يودّع الطفولة ويدخل عالم البالغين؟! وبهذا التوازن وترتيب الأسس
التعليمية ومراعاة الناشئ واستثمار الزمان والمكان على هدى وبصيرة نكون قد أمسكنا
بزمام الأداة الثانية في الصناعة.
- والثالثة تكون في تهيئة
المجتمع ليكون حاضنة للوعي سليمًا من مخلفات الجهل والتقاليد المخالفة للدين،
فمخالفة الدين يعني مخالفة للفهم ومناقضة للعقل، وبالتالي تكون عن الحضارة أبعد،
وبه يُبعد بنيه عن التقدّم الواعي لعمارة الأرض وإرضاء رب العالمين. فإذا هُيّئ
المجتمع وكان تربة صالحة للزراعة، كانت تلك ضمانة لعودة السيادة والخيرية لأمّة
التوحيد التي ملكت بالدين الأمم وسادت بالعدل والحكمة الكون جميعًا، وما سيادتها
وخيريتها إلا بخيرية جيلها الصاعد..
ملكــنا هــذه
الدنيــا قرونا ** وأخضعــها جـــدود خالــدونا
وسطرنا صحائف
من ضياء ** فما نسي الزمان ولا نسينا
وللمجتمع وسائله
ومؤسساته التنفيذية لهذه الرؤى إن أجمع عليها الناس، وطالبت بها الشعوب، وحموا
بأنفسهم وأموالهم أمتَهم بأبنائهم الواعين، مخافة أن يأتي يوم تذود عن الأمة
والأوطان بدماء أبنائها السفهاء الساذجين. فتوجيه الإعلام والمناهج التربوية
والتعليمية، والرقابة عليها من القيادات الحكيمة، أكانت تتمثل في الدولة أو
القيادات الشعبية الواعية، والعمل على إعداد المعلم الواعي المربي صاحب الهيبة
والمكانة والتقدير، وتقوم على ذلك الحكومات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، ولا
يخفى أنّ مساندة البيت الذي إن فهم أهلُه وأحاطوا بما عليهم علمًا وفهمًا وعملاً، كان المجتمع مهيَّأً ليُنبت للأمة
الخير في جيل خَلق اللهُ فيه من المَلَكات ما إن رعيناها كنّا لربِّنا من الشاكرين،
وحزنا منه سبحانه الزيادة والفضل العظيم.
والاستعداد والتربية
المجتمعية للمراهقين تكون في كل المجالات والميادين: الزراعية منها والتجارية
والصناعية، وكذلك التهيئة الحركية وبناء الجندية السليمة وصناعة الجيوش في النفوس
الصاعدة لتكون واعية ملمّة باحتياجات الأوطان، مبنيّة على القوة المادية والمعنوية
التي تتنافى مع ضعف مألوف في المراهين هذه الأيام، فإن أوجدنا المراهق الواعي
استحال على أعداء الأمة إيذاؤنا، فلن يقدر أحد على امتطاء
ظهرك إلا إذا كنت منحنيًا، وطالما كنت صلبًا واقفًا في شموخ فلن تقدر عليك أمم
الأرض كلها ولو اجتمعت..
وكـــنا حين
يرمــينا أنـــاس ** نؤدبـــهم أبـــاة قــادريــــــنا
وكـــنا حين
يأخـــــذنا ولي ** بطغيان ندوس له الجبــينا
تفيض قلوبنا
بالهدي بأسـا ** فما نُغضي عن الظلم الجفونا
وتكون تهيئة المجتمع
بنشر الوعي، الذي هو مزيج العلم والفهم والعمل الجاد، وبث روح الإيمان بقيمة الجيل
وضرورة صقله، بناءً على أسس قويمة، ثم تعميم وترسيخ القيم والأخلاق التي جاء نبيّنا
ليتممها فينا، فهو قدوتنا وأسوتنا الحسنة، فقد ربى
الصحابة وأنشأ جيلاً فريدًا، واعتنى بهم صغارًا وكبارًا؛ فهذا ابن عباس حبر الأمة
وهو ابن تسعة أعوام رديف للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: (يا غلام، إني
أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك...) [صحيح الجامع: 7957]، فبسيرة هادينا وسيرة أصحابه -رضوان الله عليهم- وسيرة
أبطال أمتنا الذين تربّعوا عرش الجهبذة والعبقرية والشجاعة والعطاء، وكان أثرهم في
كل المجالات وعبر تاريخ مديد لحضارتنا الغراء، ما على الحريصين إلا البناء على ما
قدّمه السلف، والانطلاق من حيث توقفت البشرية، ليشيدوا صرحًا للوعي المستنير بنور
القرآن الذي ما إن تمسك به المربّون، وتدرّب على هداه الصبية والناشئون؛ إلا شبّوا
بقوّة وصلابة لا نظير لها ولا شبيه.
وأخيرًا.. لا شك أنّ
المراهق الواعي، وأنّ صنّاع حكمته ومعبّدي البصيرة له، لابد أن يواجهوا عقبات في
الطريق وعثرات هنا وهناك، إلا أنّ الاستعداد المجتمعي يخفّف من وطأة العراقيل وألم
الكبوات، ويجعلها أداة طيّعة في صقل الشخصيات وتمايز معادنها.
كل هذا إن كان الهمّ في
صناعة الوعي محمولاً من الجماعة والدولة، أمّا إن تفرّد في المسئولية الأهل
والمربّون، فالعبء يكون عليهم مضاعفًا؛ ذلك لأنّ المراهق سيواجه صعوبات وعراقيل أكثر
وأقسى لها ما لها من إيجابيات وعليها ما عليها من تبعات. على المربين والأهل في
الحالتين بذل الوسع وعشق الصنعة ولزوم الدعاء: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا
دُعَاؤُكُمْ...) [الفرقان:77].
إضافة تعليق