المنتدى الإسلامي العالمي للتربية
رغم ذيوع صيت السلطان محمد الفاتح في التاريخ الإسلامي خلال القرن الخامس عشر الميلادي، فإنّ الشيخ آق شمس الدين استحق لقب الفاتح المعنوي للقسطنطينية، نظرًا إلى دوره البارز في تعبئة الأمة التركية وراء هذا المشروع الإسلامي العظيم، وإشرافه على تربية محمد الفاتح مُنذ الصّغر، وتنشئته على الرغبة الجامحة في فتح مدينة القسطنطينية.
والشيخ شمس الدين يُعد نموذجًا للعالم العامل الحُر الذي ينحاز إلى قضايا أمته، ويَضع علمه وخبرته في خدمتها، فقد عاش في مرحلةٍ تاريخيةٍ حاسمةٍ، تمكّن فيها من صناعة قائد نقل العالم كله نحو تاريخ جديد.
نشأة آق شمس الدين وعلمه
وُلِدَ محمد شمس الدين بن حمزة وشهرته آق شمس الدين في منارة الشام بمدينة دمشق عام 792هـ/1389م، ويتصل نسبه- وَفق بعض المؤرخين- بسيدنا أبو بكر الصديق.
حفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة، ودرس في أماسيا، ثم حلب، ثم أنقرة، واهتم بالعلم منذ صغره، فأحبّه وكرّس حياته للعلم حتى أصبح من العلماء المشهورين في العلوم الإسلامية وزاد عليها في الطب والفلك وعلم الأحياء والرياضيات.
وبعد أن أكمل دراسته اتخذ مكانه بين العلماء العظماء، فأصبح أحد كبار علماء عصره، وعمل في المدارس العثمانية لسنوات طويلة، فنشأ على يديه مئات الطلاب من المبدعين.
ونشأ الشيخ شمس الدين في زمن كانت فيه الدولة العثمانية قد بسطت نفوذها على كثير من الدول الإسلامية ووحدتها تحت رايتها وخلافتها، وأصبحت القوة المهيمنة في العصر الوسيط حتى غزت ربوع أوروبا وأقلقت مضاجع الممالك الغربية، ووضعت هدفا لها هو التوسع ناحية أوروبا ونشر الإسلام الحنيف.
ولقد اتسم العصر الذي وُلِد فيه الشّيخ آق بالعناية بالعلم والعلماء، والاهتمام بسبل القوة، وتربية أبنائها على هذه المعاني، وعاشت الشعوب الإسلامية في كنف الخلافة الإسلامية في منعة ردحًا من الزمان، ازدهر فيها العلم، وتقدمت فيها البلاد، واتسعت فيها رقعة الدولة الإسلامية، واهتم الناس بدينهم وحُسْن تربية أبنائهم.
إن الزمن الذي عاش فيه الشيخ آق، حرص فيه الأمراء العثمانيون على العناية بالقوانين المتعلقة بالعلماء والمدرسين والمدارس، وتصنيف العلماء ودرجاتهم، وتذليل سبل البحث والاختراع أمامهم، وتشجيعهم على ذلك ماديًّا ومعنويًّا، وازهردت المدارس والمعاهد والمكتبات العامة.
ولم يكن الشيخ آق متبحرًا في علوم الدين والتزكية فقط، بل كان عالما في النبات والطب والصيدلة، وكان مشهورًا في عصره بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض.
واهتم بالأمراض البدنية قدر عنايته بالأمراض النفسية، واعتنى بشكل خاص بالأمراض المعدية، التي كانت تتسبب في موت الآلاف، وألّف في ذلك كتابًا بالتركية بعنوان “مادة الحياة” قال فيه “من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الأشخاص تلقائيًّا، فالأمراض تنتقل من شخص إلى آخر بطريق العدوى، هذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذا يحدث بواسطة بذور حية”.
ووضع الشيخ آق تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي، ليكون أوّل مَن فعل ذلك، ولم يكن الميكروسكوب قد خرج بعد، كما اهتم- أيضًا- بمرض السرطان وكتب عنه، وفي الطب ألّف كتابين هما “مادة الحياة”، و”كتاب الطب”(4).
وبعد ست سنوات من فتح القسطنطينية قرر الشيخ آق العودة إلى موطنه بعد أن أحس بالحاجة إلى ذلك رغم إصرار السلطان الفاتح على بقائه في إسطنبول، ثم مات عام (863 هـ/ 1459 م).
آق شمس الدين.. وتربية محمد الفاتح
بلغ الشيخ آق شمس الدين منزلة عظيمة في علوم القرآن الكريم والسنة، والفقه، واللغات: العربية، والفارسية، والتركية إلى جانب علوم الرياضيات، والفلك، والطب، والنبات، والصيدلة، والتاريخ، ما أهله أن يختاره السلطان العثمانى مراد خان ليُعلّم ابنه محمد الثاني (الفاتح)، فكان نعم المُعلّم والمُربّي؛ حيث أخذ عنه السلطان محمد الفاتح ما عنده مِن علم.
كان الشيخ آق زرّاعًا للخير، بصيرًا بمكامن النفوس، وكان يتوجّه إلى الله أن لا يضيّع له جهدًا في تربية الأمير الصغير محمد.
تعلم “الفاتح” على يد الشيخ آق العلوم الأساسية، كالقرآن الكريم، والسنة النبوية، والفقه، واللغات العربية والفارسية والتركية، وعلم الفلك والرياضيات والتاريخ، لذا فقد كان له تأثيرٌ بالغٌ على توجهات محمد الفاتح عسكريًّا وثقافيًّا.
فكان محبوبًا لدى الفاتح، وقد عبّر الفاتح لوزيره محمود باشا عن احترامه للشيخ بقوله: “إن احترامي للشيخ آق، احترام غير اختياري، وإنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة”.
وكان مهيبًا لا يخشى سوى الله، لذا كان عند قدوم السلطان لزيارته لا يقوم له من مجلسه، أما عند زيارته للسلطان فقد كان السلطان يقوم له من مجلسه توقيرًا له واحترامًا ويجلسه بجانبه، حتى لاحظ ذلك وزراء السلطان وحاشيته، فأبدى الصدر الأعظم “محمود باشا” دهشته للسلطان فقال له: لا أدري يا سلطاني العظيم، لِمَ تقوم للشيخ “آق شَمْس الدّين” عند زيارته لك، من دون سائر العلماء والشيوخ، في الوقت الذي لا يقوم لك تعظيمًا عند زيارتك له؟
فأجابه السلطان: أنا أيضًا لا أدري السبب، ولكني عندما أراه مقبلًا عليَّ، لا أملك نفسي من القيام له، أما سائر العلماء والشيوخ، فإني أراهم يرتجفون من حضوري، وتتلعثم ألسنتهم عندما يتحدثون معي، في الوقت الذي أجد نفسي أتلعثم عند محادثتي الشيخ آق شَمْس الدّين.
شارك الشيخ آق في حصار القسطنطينية، وكان له جهد كبير في فتح القسطنطينية، بفضل توجيهاته للجنود والقادة، وبيان عظمة هذا العمل وفضله عند الله، إلى جانب دعائه المستمر لله وخشوعه وتذلُّله لله أن ينجز لهم هذه المهمة.
يقول أمير حسين أنيسي في كتاب “مناقب آق شَمْس الدّين”، أن الأمراء والعلماء العثمانيين اجتمعوا على إثر ذلك بالسلطان، وقالوا: “إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر إلى هذا الحصار جريًا وراء كلام أحد المشايخ- يقصدون الشيخ آق- فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن عونا من بلاد الإفرنج داخل القلعة، ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح”.
فلما أرسل السلطان إلى الشيخ آق، رد عليه الأخير برسالة قال فيها: “هو المعزّ الناصر.. إن القضية الثابتة هي: أن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله، ولقد لجأنا إلى الله وتلونا القرآن الكريم، وما هي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات ما لم يحدث مثلها من قبل”.
كان لهذه الرسالة أثرها القوي في نفس السلطان وجنوده، فقرر مجلس الحرب المضي في طريق الفتح، فدخل السلطان على الشيخ آق فقبل يده، وطلب منه أن يعلمه دعاء يدعو به لينال التوفيق من الله، فعلمه، فخرج من عنده يعطي الأوامر بالهجوم العام على القسطنطينية.
بعد فتح القسطنطينية كان الشيخ آق أول مَن ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا وقد اهتدى الشيخ إلى قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري بموضع قريب من سور القسطنطينية.
فكر تربوي
ولقد كان الشيخ آق شمس الدين مُعلّما ومُربّيًا ومرشدًا ومصلحًا اجتماعيًّا، حيث اهتم بالناحيتين التربوية والفكرية.
وتميّز الشيخ بفكر تربوي فريد في المجالات السياسية والاجتماعية والسلوكية، أما المنهج الدراسي فجعله أنموذجًا للعالم العامل الذي ينحاز إلى قضايا أمته ويضع علمه وخبرته في خدمتها.
واهتم الشيخ اهتمامًا بالغًا بالعلم واعتبره أداة القوة وتحقيق الانتصار إذا اقترن بالتربية وهو ما ترجمه عمليًّا في تربية السلطان محمد الفاتح والجيش العثماني الذي استطاع أن يفتح القسطنطينية.
وترجم الشيخ فكره التربوي من خلال غرس هذه المعاني في محمد الفاتح، حيث رباه على معاني الإيمان والإسلام والإحسان واتضح ذلك حينما كان يأخذه كل يوم وهو صغير على البحيرة ويشير له إلى أسوار القسطنطينية ويقول له: أترى هذه الأسوار الشاهقة والمدينة العظيمة؟ إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أن رجلًا من أمته سيفتحها بجيشه ويضمها إلى أمة التوحيد: “لَتَفْتَحْنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
لم تكن تربية الشيخ تربية قولية بل ترجمها لعمل بعدما بلغ السلطان الفاتح سن الحادية والعشرين وتجهز لفتح القسطنطينية، فطلب الشيخ من أبنائه وطلابه أن يكونوا على رأس الجيش وهو معهم ما أشعل الحماسة في نفوس الجنود حتى فتحت المدينة.
وكان للشيخ آق شمس الدين مؤلفات علمية، منها: كتاب مادة الحياة، وكتاب الطب، وحل المشكلات، والرسالة النورية، ورسالة في ذكر الله، ومقامات الأولياء، ورسالة في التصوف، ورسالة في دفع مطاعن الصوفية.
رحم الله هذا الشيخ الذي قال عنه تلميذه- السلطان محمد الفتاح- لمن حوله: “إنكم ترونني فرحًا، فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة (القسطنطينية)، إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين”.
المصادر والمراجع:
- أسامة حساني: آق شمس الدين.. الفاتح المعنوي لإسطنبول، 31 يناير 2017.
- عبد الرحمن أتشيل: العلماء والسلاطين في عهد الدولة العثمانية المبكرة، ترجمة سعيد آل عبد السلام، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، 2022.
- أبو سعيد المصري: الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي، الموسوعة الشاملة، صـ974.
- محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1999، صـ375.
- عامر محمد خطاب: الفكر التربوي عند آق شمس الدين ودوره في تكوين شخصية السلطان محمد الفاتح، دراسة ماجستير، دار الأسرة العربية، 2021.
- رندة عطية: آق شمس الدين.. الأب الروحي لفتح القسطنطينية، 20 أغسطس 2020.
إضافة تعليق