الخطابة والمحاضرة شأنها شأن غيرها من عمليات التواصل الشفاهي بين المرسل والمستقبل، تعتمد على عناصر رئيسة أربعة، تتمثل في: المتحدث، والمستمع، ومضمون الرسالة المراد توصيلها من خلال الخطبة، والوسيلة التي عن طريقها تصل الرسالة إلى المستقبل.
الخطابة
والمحاضرة شأنها شأن غيرها من عمليات التواصل الشفاهي بين المرسل والمستقبل، تعتمد
على عناصر رئيسة أربعة، تتمثل في: المتحدث، والمستمع، ومضمون الرسالة المراد
توصيلها من خلال الخطبة، والوسيلة التي عن طريقها تصل الرسالة إلى المستقبل.
وهذا
السلوك الاتصالي تتماهى فيه عدة عناصر تُكسب الرسالة قوة في المدلول والتأثير،
تتضافر جميعاً لتكسبها طعماً غير اعتيادي، وقوة غير طبيعية، تتشنف لها الآذان،
وتتفتح لها القلوب، وتصغي لها الأنفس؛ هذه العناصر تتعلق إما بالألفاظ وما يتصل
بها من الأصوات أو التعبيرات التي تكتسبها الكلمات لتضفي عليها معنى جديداً في كل
مرة، وإما بالإشارات المرئية وما يصاحبها من هيئة الجسم وفترات الصمت وملامح
الوجه، وهو ما يمكن تسميته "المهارات الملمحية".
وفي
هذا المبحث نعرض لإحدى تلك المهارات التي بها يمكن للخطيب إكساب خطبته أبعاداً
جديدة في التعبير والتأثير، يطمح لتقليدها أصحاب التوجهات المشابهة، ويسعى
المستمعون للاستمتاع بالإنصات إليها، فلا يتوقف حضور الخطبة أو المحاضرة عند حدود
إسقاط فريضة الجمعة أو الحضور الباهت، لكن يكتسب بُعداً جديداً من الاستفادة
والمتعة بالمعلومة.
المجال
الصوتي، أو ما يمكن تسميته (لغة الصوت):
يقع
كثير من الخطباء والمحاضرين في خطأ قراءة الخطبة أو المحاضرة بصورة رتيبة وكأنه
يقرأ في جريدة - بل حتى قراءة الجريدة تحتاج إلى نوع من التفاعل لكسر الرتابة
والملل - دون مراعاة استخدام اللغة الصوتية التي من شأنها أن تُفهم المعنى، وتكسب
الكلمات نكهات متعددة بتعدد طرق نطق الألفاظ، حيث إن الأصوات والكلمات هي وعاء
للمعاني، وكلما كان الوعاء جميلاً أكسب المعنى جمالاً فوق جماله، وإذا لم يهتم
الخطيب بأوعية المعاني خرجت الجمل بلا طعم ولا لون ولا رائحة.
ومن
المهارات التي ينبغي على الخطيب أن يعيها ويطبقها خلال خطبته في المجال الصوتي أو
لغة الصوت، ما يلي:
- إخراج الأصوات والحروف من مخارجها
الصحيحة، ونطقها بطريقة سليمة خالية من العيوب، وسلامة اللسان من العيوب الفجة
التي تؤثر سلباً في نطق العبارات والجمل، فالخطيب لسان القوم، ولسان القوم عليه أن
يكون أفصحهم، وأقواهم بياناً، وأسلمهم لساناً، ولا يستقيم ذلك لمن لا يحسن نطق
الحروف بطريقة صحيحة، فينطق الثاء سيناً أو الذال زاياً أو القاف كافاً أو الطاء
تاءً أو العكس... وهكذا، بلْ عليه أن يدرس كيف تنطق الحروف، وما مخارجها الصحيحة
وصفاتها، وألا يخلط بين الصفات المختلفة، وعليه أن يقف على عيوب لسانه، وأن يستشير
في ذلك من حوله من الخبراء أو من مستمعيه، فإن وقف على شيء من ذلك فعليه إصلاحه في
الحال.
- ضبط الكلمات المنطوقة، سواء في بنيتها
وهيئتها - وهو ما يهتم به علم الصرف -، أو في ضبط أواخرها - وهو ما يهتم به علم
النحو والإعراب -، فلا يسع الخطيب على الإطلاق - وهو لسان القوم - أن يرفع المفعول
أو ينصب الفاعل أو يجهل الإعراب؛ حيث يشكّل ذلك عيباً كبيراً من عيوب الإلقاء
والمحاضرة، فكثير من المستمعين - لا سيما في المجتمعات المثقفة - لديهم خلفية قوية
عن علوم اللغة والنحو والإعراب - ولو حتى بصورة مبدئية أساسية -، فإذا كان الخطيب
على هذه الحال من الخطأ البيّن شكّل ذلك حاجزاً كبيراً بينهم وبين الاستماع إليه،
وكثيراً ما رأينا علامات الامتعاض على وجوه المستمعين حينما يخطئ الخطيب في الإعراب
أو ضبط بنية الكلمات، ويكون الأمر أكثر شناعة وفحشاً حينما يلحن في قراءة القرآن
أو الحديث النبوي الشريف.
- استخدام النَّبْرِ الصحيح؛ وذلك
بالتركيز صوتيّاً على الكلمات الأم في النص الخطابي، أو تلك التي يرغب الخطيب أو
المحاضر في إظهارها وبلورتها من خلال عباراته، فهذا مما ييسر على المستمع التقاط
المعاني المتضمنة في كل جملة أو عبارة من أقصر طريق، دون الحاجة إلى شرح أو تفصيل
أو زيادة بيان، ويكون ذلك بعدة طرق، منها: تكرار اللفظ، أو مد أحد حروف المد بصورة
زائدة عن المقدار الطبيعي، أو رفع الصوت عند النطق به دون بقية ألفاظ الجملة، أو
الهمس به دون بقية الألفاظ، أو نطقه بطريقة مختلفة عن غيره من الألفاظ، أو الإبطاء
من سرعة الحديث عند النطق باللفظ المراد إظهاره... وهكذا.
- ترجمة علامات الترقيم بصورة صوتية؛
وذلك بإعطاء النقطة والفاصلة والفاصلة المنقوطة وعلامة الاستفهام صورة تخترق وعي
السامع وعقله، فيجعل الخطيبُ صوتَه مصوِّراً للمعنى الذي تقتضيه علامة الترقيم،
فالوقف على النقطة يختلف عن الوقف على الفاصلة، وكلاهما يختلف عن الوقف على علامة
الاستفهام أو الفاصلة المنقوطة، وهذا يحتاج من الخطيب دراية بوظيفة كل منها. ويدخل
ضمن ذلك مهارات الوقف الصحيح المتناسب مع المعنى، فليست كلُّ كلمة مناسبةً للوقف
عليها، بل ربما يتخلف المعنى حين الوقف عن كلمة لأخرى. ومن ثم ينبغي على الخطيب أن
يُشعر المستمع - من خلال أدائه الصوتي المراعي كافة ما سبق من المهارات - بمعنى كل
علامة من علامات الترقيم عوضاً عن رؤية رمزها في النص المكتوب بالنسبة للقارئ.
- التلوين الصوتي: وهذه المهارة من أهم
مهارات الخطيب، وهي الفارقة بين خطيب يقطع له المستمعون الفيافي لسماعه، وآخر لا
يُعبأ بحديثه خَطَبَ أو لم يخطُبْ. ونعني بها تقمص الخطيب الإحساس الذي تحمله
كلماته، فإن كان المقامُ مقامَ حزن وجب عليه أن يُشعر صوتُه المستمعَ بالحزن
والأسى، وإن كان الحديثُ عن بشرى تحوي فرحة وسروراً وجب أن يظهر في روحه وإحساسه
الفرح والاغتباط، وإن حكى موقفاً غاضباً عن شخصية تاريخية على سبيل المثال، عليه
أن يظهر الغضب على حديثه وطريقة نطقه للألفاظ... وهكذا. وهذا في ظننا لا يتأتّى
إلا بعد معايشة متعمقة لمحتوى الخطبة، وتطبيق لما فيها من معانٍ وتكليفات، إضافة
إلى إتقان الخطيب مهارة التقمص.
- التنغيم الصوتي: ويكون برفع الصوت
وخفضه بشكل موظَّف، ليخرج من دائرة الرتابة المعهودة لدى كثير من الخطباء، وهذا من
شأنه أن يلفت انتباه الغافل، ويوقظ الوسنان.
- التحدث بإيقاع نطقٍ وسرعةٍ متناسب مع
الجو النفسي للخطبة أولاً، ومع قدرة المستمعين على متابعة عناصر النص الخطابي
ثانياً. ففيما يخص الجو النفسي للخطبة فموضوعات الرقائق على سبيل المثال لا
يناسبها الإيقاع السريع، وإنما تحتاج إلى تؤدة وإيقاع أبطأ نسبياً من الموضوعات
التوعوية أو السياسية أو الفكرية... وهكذا. وهذا غالباً حال الموضوعات التي تخاطب
العاطفة والإحساس والمشاعر. وأما فيما يخص قدرة المستمعين على المتابعة
والاستيعاب، فهذا مما يستشفه الخطيب من خلال خبرته بجمهوره، فمن المستمعين من يطيق
الإسراع، بل يطلبه أحياناً، فقدراته الذهنية جاهزة لاستيعاب المعلومات المعروضة
بصورة سريعة، ويشعر حين الإبطاء بالملل والرتابة، وبعضهم الآخر لا تسعفه قدراته
الذهنية على متابعة تدفق المعلومات وعرضها السريع على العقل، بل ربما يؤدي الإسراع
إلى ضياع بعض الأفكار المهمة التي تنبني عليها الخطبة. والفيصل هنا هو ملاحظة
الخطيب لجمهوره وقدراته الذهنية.
- الجهر بالصوت بدرجة تناسب عدد
المستمعين واتساع المكان؛ وهنا خطأ يقع فيه بعض الخطباء والمحاضرين، حيث يخطب
بطبقة صوتية عالية لا تتناسب مع حجم المسجد الصغير أو القاعة ومساحتهما، أو يرفع
درجة مكبرات الصوت بصورة تصمّ آذان المستمعين، فيتسبّب في نفورهم أو تمنّيهم
انتهاء الخطبة في أسرع وقت لتمر دون فائدة، فهذا مما ينبغي الالتفات إليه
والاهتمام به. وإذا اتسع المسجد وزاد عدد المصلين فعلى الخطيب أن يعلي طبقة صوته
بصورة تتناسب مع العدد والمساحة.
إضافة تعليق