من آيات الله تعالى الدالة على عظمته وقدرته أنْ خلَق الناس من نفْس واحدة، وخلق منها زوجَها، ثمَّ منح الزوجين الأولاد والذريَّة. ولعل من أعظم ما افترضه الله علينا تجاه نعمة الذرية هو أن نُحسن رعايتها وأن نؤدي الأمانة التي وضعها الله في أعناقنا. فكل شخص له دور ومسؤولية سوف يُحاسب عليها؛ "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".

كذلك لا بد أن نقدم لهم ما يساعدهم على صلاح أمورهم الدنيوية والدينية؛ فيلزم أن نقيم جسور العدل فيما بينهم حتى لا تسود في قلوب الأبناء الضغينة والكراهية تجاه الوالدين، وحتى لا تكثر الأحقاد فيما بينهم.

 

مفهوم العدل في الإسلام وتطبيقه:

الشريعة الإسلامية شريعة العدل، فأمرنا الله تعالى بالعدل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].

فالعَدلُ الذي أمَرَ اللهُ به يشمَلُ العَدلَ في حَقِّه، وفي حَقِّ عِبادِه؛ وذلك بأن يؤدي العبد ما أوجب عليه في حقه وحق عباده، وكل والٍ يعامل من تحت ولايته بالعدل.

لذا يُعد من أبرز صور العدل: (العدل بين الأبناء) لأن تفضيل بعضهم على بعض لا يأتي إلا بالأحقاد، ويشعل القلوب بالغيرة والضغينة؛ فينتج عنه عقوق الأبناء للآباء وكثرة الأحقاد فيما بينهم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة)[1].

فما معنى العدل؟! وما أهميته؟ وكيف يمكن تحقيقه بين الأبناء وما النتائج المترتبة على عدم تحقيق العدل بين الأبناء؟!

مفهوم العدل اصطلاحًا

يمكن اختصار مفهوم العدل في:

    (التعبير عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا).

    وقيل أيضًا هو: (استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير)[2].

ضرورة تطبيق العدل بين الأبناء

العدل بين الأبناء من حقوق الآباء على الأبناء والتي ينبغي رعايتها، ولعل رسولنا الكريم خير أسوة في تطبيق العدل على نفسه وذويه.

 

فيشير صلى الله عليه وسلم لهذا الحق في هذا الحديث:

قال صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) [3]حيث يكون العدل بين الأولاد في العطية، والهبة، والوقف، وحتى في القُبَل.

 

تطبيق مفهوم العدل في النفقة

في حالة النفقة الواجبة يعطي الوالد كل ابن من الأولاد ما يحتاجه، فإذا احتاج أحد أبنائه إلى الزواج، زوجه ودفع له المهر؛ لأن الابن لا يستطيع دفعه، ولا يلزم أن يعطي الآخرين مثل ما أعطى لهذا الذي احتاج إلى الزواج؛ لأن التزويج من النفقة، كذلك النفقة على الدراسة[4]، كل وفقًا لاحتياجاته.

 

على سبيل المثال، مصروفات دراسة طفل في المرحلة الابتدائية تختلف عن مصروفات شاب في الجامعة، أو مصروفات طفل احتياجات خاصة تختلف عن بقية الإخوة؛ لأنه يحتاج لنفقات أزيد من الطفل الطبيعي.

 

العدل في العطية أو الهبة:

لا بد أن ننتبه إلى الفرق بين العطية والنفقة (فإذا أعطى الوالد طفله دينارًا ليشتري حلوى (هذه عطية)، فعليه أن يعطي الطفل الآخر بالمثل دينارًا. وهكذا يكون العدل في العطية والهبة.

 

كيفية تحقيق العدل بين الأبناء

تمييز أحد الأبناء على الأخر وعدم العدل بينهم في المعاملة والاهتمام؛ من الأسباب التي تُشعل الغيرة بين الأبناء.

 

مفاسد عدم العدل بين الأبناء

قد يميل أحد الوالدان نحو الابن الذي يتصف بصفات حسنة أو الطفل المرح، ومثل هذا الميل لا يُلام عليه الوالد، ولكن ليس من الحكمة إظهار المودة والحب أمام إخوته؛ وذلك لما يترتب عليه من مفاسد كثيرة على جميع أفراد الأسرة؛ منها:

 

    إحباط باقي الإخوة، وعدم الرغبة في إحراز التقدم أو النجاح في أمورهم الدينية والدنيوية.

    شعور الطفل المميز عن إخوته بالكبر والغرور أو بالكسل، وكذلك انعدام أو نقص الدافعية لأن يكون نافعًا لنفسه ولغيره ولأسرته.

    عقوق الوالدين، وعدم بر الأبناء لوالديهم بسبب المفاضلة بين الأبناء وعدم العدل بينهم.

    زرع العداوة والكيد والحقد بين الإخوة نحو الأخ المميز، وكذلك اشتعال الغيرة بين الأبناء، وما يترتب عليه من مفاسد لا يستطيع كبحها الوالدان مهما حاولا.

 

ولنا في قصة سيدنا يوسف وإخوته المثال الأبرز والأشهر في جانب اشتعال الغيرة بين الأخوات.

تأمل قصة يوسف عليه السلام وما جرى من إخوته تجاهه، تتبين لك المفاسد التي يتسبب بها عدم تحقيق العدل بين الأبناء.

فيخبرنا الله تعالى عن سبب فعلتهم تلك في يوسف أخيهم، في قوله: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [يوسف:٨].

 

فعلم إخوة يوسف ميل قلب أبيهم إلى يوسف؛ فكانت النتيجة أنهم قدموا على عمل مشين في حق الأبوة والأخوة. فبدأوا التخطيط للتخلص من أخيهم: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) (سورة يوسف:9)

 

وبالفعل حبكوا هذه المؤامرة باستخدام مكرهم، وجاءوا أباهم يقنعونه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف في رحلة برية ليصطادوا، وأكدوا له حرصَهم على أخيهم.

 

فلما أظهر الأب تخوّفه تجاه تلك الرحلة، أقسموا أنهم لن يتركوه وإلا كانوا خاسرين. وبالفعل آذوه وأبعدوه عنهم وعن أبيهم كما تبين في باقي القصة.

 

ولا شك أن يعقوب عليه السلام لم يكن ظالماً لأولاده أولئك، وإنما حملهم على ذلك بسبب محبته القلبية لابنه يوسف عليهما السلام وحرصه عليه.

 

فاحذر كل الحرص عزيزي الوالد أو المربي من أن يشعر أحد الأبناء بتمييزك للآخر دون تحقيق أي ملامح للعدل بينهم، فبالتأكيد سيولد هذا الشعور في نفس هذا الطفل ما لا يستطيع الوالدان كبحه والصمود أمامه.

 

فمهما قدم الوالدان من نصائح وتوجيهات وترغيب وترهيب فلن تكون هناك أي جدوى طالما لم يلتزما بتطبيق العدل والمساواة بين الأبناء.

 

وهنا يأتي دور الطرح المناسب لسؤال: كيف يمكن تحقيق العدل بين الأبناء؟!

 

كيفية تحقيق العدل بين الأبناء

عزيزي المربي؛ في السطور القادمة سنحاول عرض بعض الطرق التي تعينك على تحقيق العدل بين الأبناء، فإن لم تستطع تطبيقها جميعاً، فلا تتركها جميعًا.

 

1- تعزيز شعور الطفل بالتقبل والحب:

إذا كان الحب موزع بالتساوي بين الأبناء ويحظى كل منهم بالحب الكافي وما يحتاجه من أمان نفسي وحب واحتواء؛ فلن يجدوا سببًا لاشتعال الغيرة فيما بينهم.

 

2- العدل في الاهتمام والمعاملة

لقد حرص الإسلام على تطبيق العدل بين الأبناء في الاهتمام والمعاملة والعطف والعطية والهبة وفي التَّسويةُ بَينَهم حتَّى في القُبَلِ؛ فعن إبراهيمَ النَّخعيِّ قال: (كانوا يستَحِبُّونَ أن يعدِلَ الرَّجُلُ بَينَ ولَدِه حتَّى في القُبَلِ).[5]

 

3- بناء علاقة إيجابية مع الأبناء

تحدثنا في مقال سابق عن التربية بالحوار، وأن الاستماع لأبنائنا يمنحهم الثقة بأنفسهم وآرائهم، مما يزيد من أواصر المحبة بين الآباء والأبناء.

 

كما يساعد على بناء علاقة إيجابية وجو أسري به حب وتفاهم؛ مما يساعد الأطفال على أن يشبوا أكثر تسامحًا فيما بينهم وأكثر استقلالًا وكرمًا وحبًا لبعضهم البعض.

 

4- تعليم الطفل الرضا

يتعامل بعض الآباء مع الطفل الغيور بعدالة تامة بأن يمنحوه لعبة مطابقة لنفس اللون والحجم لأخيه، بينما من الضروري تعليمه صفة الرضا لما لها أهمية على شخصية الطفل.

 

فالتدريب على الرضا من أصعب المهام التربوية ولكن هناك طرق مختلفة لغرس الرضا في نفوسهم منذ الصغر، يمكنك التنويع بينهم كما شئت.

 

5- عدم التمييز في العطية أو الهبة بين الأبناء

 

التمييز في العطية بين الأبناء هو أمر محرَّم في شرع الله تعالى. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى ووضح لنا قاعدة عظيمة في العدل بين الأبناء عندما جاء بَشِيرُ بنُ سعدٍ بابنِه النُّعْمانِ يُشهدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على ما أعطاه لابنِه دون بقية أبنائه مِن عَطيَّةٍ وهَديَّةٍ، فرفض الرسول أن يشهد على ذلك لأنه ظلم وجور. وأوضح ضرورة تحقيق العدل بقوله في الحديث الشريف:

 يُخبِرُ النُّعمانُ بنُ بشيرٍ رَضِي اللهُ عَنهما:

أنَّ أباهُ أتى بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يشهَدُ علَى نحلٍ نحلَهُ إيَّاهُ فقالَ : أَكُلَّ ولدِكَ نحَلتَ مثلَ ما نحلتَهُ قالَ : لا قالَ : فلا أشهَدُ على شَيءٍ أليسَ يَسرُّكَ أن يَكونوا إليكَ في البِرِّ سَواءً قالَ : بلَى قالَ : فلا إذًا[6].

 

6- تجنب المقارنات بين الأبناء

بعض الآباء يستخدمون المقارنات كأسلوب تحفيز بين الأبناء، ولكنه للأسف يأتي بنتائج عكسية و يشعرهم بالدونية.

 

على سبيل المثال، لِمَ لا تكون مؤدبًا مثل أختك؟! فذلك يجعل الطفل ناقمًا على أخته وعلى فكرة التأدب ككل. فلماذا تريد أبنائك أن يكونوا نسخًا مكررة من بعضهم البعض!

 

7- تجنب تحويل أطفالك إلى ضحايا ومشاغبين

عندما تفترض دائمًا أن الطفل الكبير دائمًا (على خطأ ومشاكس)، والطفل الصغير دائما (على حق وضحية). فغالبا يدفعك الطفل الصغير المشاكس ( وهو ما لا تراه) إلى إنقاذه [7]؛ فتقع في عدم العدل بينهم. فلا تضع ابنائك في قوالب ثابتة، فيفقد الطفل هويته داخل الأسرة ويسعى دائمًا أن يصبح النسخة التي رسمها له والده ( ضحية أو مشاكس)حتى لا يغامر بحب والده.

 

 

8- الحرص على مشاركتهم الأنشطة الجماعية

اقضي وقتًا مع أطفالك في أنشطة جماعية تدعم معنى التعاون وأهميته وروح الفريق، وساعد أطفالك على إدراك أن متعة التعاون عندما يتشارك الفريق معًا في تحقيق النجاح.

 

9- الإيمان باختلاف القدرات والمواهب بين الأبناء وبعضهم

 

علم الأطفال بوجود اختلافات فردية بين الشخصيات، وأن لكل فرد ما يميزه، وأظهر لهم تقديرك لصفاتهم الخاصة التي تميزهم عن الآخرين. و أنك تهتم بمواهبهم الفردية و تسعى لتطويرها معهم.

 

10- تجنب التدليل المفرط للأبناء

 

التدليل المفرط للطفل يتسبب في حدوث نتائج عكسية، فالطفل المدلل يريد أن يعامله الأخرين على أنه محور الكون ومحط الاهتمام دائمًا وأبدًا، ويرفض أي شخص يحاول جذب الانتباه غيره. وبذلك تشتعل الغيرة بداخله من قدوم طفل جديد، أو زميل متفوق يحظى على اهتمام المعلمين.

 

 

أخيرًا وليس آخرًا،  انتبه أيها المربي أن العدل من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الوالد وأن يلتزم بتحقيقها بين أبناؤه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلُّهم الله تعالى في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله[8].. إلى نهاية الحديث).

 

فتطبيق العدل مطلوب في المعاملة والعقوبة والنفقة والهِبَة والملاعبة والقُبَل كما ذكرنا سابقاً، ولا يجوز تمييز أحد الأولاد بعطاء عن الآخر.

فيستحق جميع الأبناء نفس الفرص والمعاملة العادلة بغض النظر عن الفروقات الفردية.

المصادر:

https://parentingdialogue.com/tips-for-fostering-fairness-in-children/

 

https://www.sunjournal.com/2005/05/08/treating-children-equally-fairly-thing/

https://simplylifetips.com/treating-your-kids-equally-can-benefit-everyone/

 

https://www.kiplinger.com/slideshow/retirement/t021-s014-should-you-treat-your-kids-equally-in-your-will/index.html

.

 



[1] (مجموع الفتاوى)) (28/146).

 

[3] رواه البخاري (2587)

[4] (الشرح الممتع)) لابن عثيمين (11/80).

 

 

 

[5] رواه ابن أبي شيبة (31642).

 

[6] صحيح النسائي المصدر

الصفحة أو الرقم: 3682 | خلاصة حكم المحدث : صحيح

[7] كتاب التهذيب الإيجابي من الألف الياء.

[8] رواه البخاري (660)، ومسلم (1031)

 

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة