يعتقد بعض الوالدين أن دورهم التربوي ينحصر في توفير المأكل والمشرب والملبس والرعاية الصحية وتوفير التعليم المناسب للأبناء لإعدادهم للحياة؛ ويغفلون عن فكرة أن التربية السليمة هي التي ترعى الجانب الإيماني والعقدي والعقلي والفكري والروحي والنفسي
يعتقد بعض الوالدين أن دورهم التربوي ينحصر
في توفير المأكل والمشرب والملبس والرعاية الصحية وتوفير التعليم المناسب للأبناء
لإعدادهم للحياة؛ ويغفلون عن فكرة أن التربية السليمة هي التي ترعى الجانب
الإيماني والعقدي والعقلي والفكري والروحي والنفسي؛ وذلك لإعداد شخصيات متوازنة قادرة
على مواجهة الحياة بكل ما فيها من تقلبات وتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية
وفكرية.
ثم إن بعض الآباء يضعون تصورًا لما يريدونه
من أبنائهم لا يتعدى أن يكونوا قادرين في مستقبلهم على الكسب والعيش الكريم، أو
تحصيل مركز ومكانة للفخر والاعتزاز، أو لتحقيق مستوى اجتماعي مرموق، أو ليكون لهم
ذرية تحمل اسم أجدادهم؛ متناسين رعاية الجوانب الروحية والدينية والعقدية والفكرية
لتحقيق جوانب مهمة من الهوية النفسية لأبنائهم، والتي تعصمهم من الضياع والتشتت؛ غافلين
عن أن تربية الأبناء للعيش لفكرة ومبدأ وعقيدة، والانتماء للأمة والعمل على خدمة
قضاياها، وتحقيق الأهداف العظيمة التي تتعدى الذات والأقربين لتشمل الإنسانية
جمعاء؛ ستجعل من عمر الأبناء أعمارًا؛ ومن أعمالهم الحسنة جبالًا ومن الذكر
والامتداد ما يتعدى حدود الزمان والمكان، ويتعدى الدنيا ليصل للآخرة.
إن امتلاك رؤيةٍ لتربية الأبناء سامية؛ ووضع
أهدافٍ عظيمةٍ وواضحةٍ يُبتغى فيها وجه الله؛ حريٌّ بأن يجعل الوالدين يجدّون
ويجتهدون في البحث عن السبل المحققة لأهدافهم، والأساليب الأنفع والأجدى للوصول
لرؤاهم؛ فالوالدان هم الزارعون، والأبناء هم النبت والثمر.
والأسرة هي المحضن التربوي الأول، والأعمق في
التأثير في بناء عقيدة وأفكار واتجاهات وميول وقيم وسلوكيات الأبناء؛ إلا أن عصر
التقنية والإنترنت والإعلام المشبوه المدعوم من القوى العالمية والانفتاح على ثقافة
العالم فرض نفسه بخيره وشره على العمل التربوي، بل جعل العملية التربوية أشق وأصعب
مما كانت عليه، فازداد قلق الوالدين والمربين؛ حيث إن الأبناء أصبحوا أكثر عرضةً
لكل غريبٍ من الأفكار، ولكل سيئ ومؤذٍ من الخبرات والمشاهدات غير الأخلاقية، والتي
تؤذي العقل والقلب والروح؛ فأصبحت حصوننا التربوية مهددةً بطوفان الانحرافات
الفكرية والأخلاقية؛ مثل الشذوذ الجنسي والإلحاد وإدمان الإباحية
والتخلي عن الحجاب والدعوة للمساواة المطلقة بين الجنسين والارتباط بالحركة النسوية
العالمية، التي تخطط ليل نهار لانتزاع المرأة من دينها وأسرتها. فعلى ماذا نعول؟!
وماذا نصنع؟! وما دورنا التربوي المنشود في ضوء التحديات التي تواجهنا؟!
البناء الإيماني والعقديّ السليم:
التربية الإيمانية العميقة هي الضمانة الأولى لحماية أبنائنا من طوفان الأفكار المشوهة والأخلاق المسمومة. تبدأ عملية بناء العقيدة والإيمان عند الأبناء بعمر مبكر؛ وذلك من خلال السماع والتلقي والتلقين والمشاهدة والنمذجة السلوكية والشعورية والمنهجية والتشجيع والتعزيز. فمتى نبدأ؟! وكيف؟! وبماذا؟!
ابدأ منذ الطفولة الأولى:
لماذا البدء منذ الطفولة الأولى؟! لأن أدمغة
الأطفال تتميز باللدونة ((Plasticity، فيتعلم الأطفال وهم صغارٌ بسهولةٍ
أكثر من الكبار؛ بسبب سهولة تشكل مسارات عصبية في الدماغ بعمق حول أي موضوع تعلم، من
خلال الخبرات التعليمية المختلفة التي يتعرض لها الأطفال؛ وخصوصًا إذا كانت هذه
الخبرات مشحونة عاطفيًا مثل الدهشة، أو الفرح، أو الحزن... إلخ، أو مشبعة لحاجاتهم
المعرفية أو النفسية أو الاجتماعية؛ فيصبح حينئذٍ التعلم مقاومًا للنسيان.
بهذا توافق علم النفس العصبي مع مقولة أبو
حامد الغزالي في إحيائه، والتي تشير إلى أهمية البدء في العمل التربوي مع الأطفال في
جميع الجوانب العقلية والاجتماعية واللغوية والإيمانية في مراحل الطفولة الأولى؛
فقال: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة
خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن
عوّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل
معلم له ومؤدب له، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في
رقبة القيم عليه والوالي له".
البدء منذ الطفولة يعني تشرّب الإيمان النقيّ؛ حيث الفطرة الصافية التي لم تلوث بفعل المحيط والمؤثرات التي تفرض نفسها على الجيل، فتصبح عملية التلقي أيسر وأسهل؛ وصدق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ".
تعميق محبة الله عند الأبناء (الحقيقة والمفهوم والعاطفة):
يتشكل البناء العقلي والوجداني عمومًا للفرد من
حقائق ومفاهيم ومبادئ وتعميمات؛ وتعد الحقائق أساس بناء المفاهيم، وتعلم المفاهيم
ووضوحها أساس تعلم القواعد والمبادئ، والتي بدورها تعد مسهلة لبناء التعميمات
الرشيدة والصحيحة.
التلقين والنمذجة:
وفي تشكيل البناء العقلي العقائدي عند
الأطفال؛ ينبغي أن نولي الحقائق والمفاهيم والمبادئ والتعميمات في العمل التربوي
عناية كبيرة، فيكون بناء الحقائق العقدية والمفاهيم منذ الصغر بـ"التلقين"
و"النمذجة" كأسلوبين للتعليم مع التدعيم والتشجيع.
نحرص أن يقع على مسامع الطفل أن الله ربنا وخالقنا،
وهو الذي يعطينا ويرزقنا؛ نعلمه أن يسمي الله إذا أكل أو شرب أو وقع وإذا نسي؛ نعلمه
ونحفّظه الأذكار عند الأكل وعند الشرب والانتهاء من الطعام (أدعية اليوم والليلة)؛
نعلمه الدعاء في كل المناسبات؛ تلقينًا وتحفيظًا وشرح معنى ونموذجًا سلوكيًا من
قبل الوالدين.
نعرّفه على "الله" من خلال أسمائه
الحسنى وصفاته العليا؛ لن يكلفنا الأمر الكثير، يكفي أن نربط لأبنائنا الأحداث
والوقائع وفهمنا لها بأسماء الله سبحانه؛ حتى تستقر حقائق العقيدة في العقل والوجدان
ومعانيها، فعندما يقع الطفل نقول له: باسم الله عليك، الحمد لله؛ الله اللطيف لطف
بك ولم تكسر قدمك أو لم تجرح يدك، ما أجمل لطف الله!! ونكرر الأمر في سرد الحدث:
"أرأيت -يا أبا فلان- كيف أن الله اللطيف لطف بابني؛ الحمد لله". يتعلم
الطفل معنى اسم الله "اللطيف" عمليًا، ثم يأتي بعد ذلك تعميم فهمه
واستيعابه له على مواقف مشابهة.
وهكذا مع اسم الله الكريم والرحمن والرحيم
والغفور والودود الرزاق... إلخ. يتعلم الطفل حقائق الإيمان بما يشاهده من ممارساتٍ
لوالديه في مواقف الحياة، كيف تعاملوا مع الله حبًا وثقةً ومعرفةً به ورغبةً
برضوانه.
البنية الذهنية للمفاهيم:
أما المفاهيم؛ فـ"المفهوم" هو البنية
الذهنية المجردة لحدثٍ أو فعلٍ أو شيءٍ، ويتكون من مبنىً ومعنىً (كلمةً ودلالةً)؛ مثل
مفهوم الحب؛ والطاعة، والحق... إلخ، ولكل مفهوم مميزات وسمات وخصائص تميزه عن غيره
من المفاهيم التي قد تبدو متشابهة.
ويتعلم الفرد الإنساني المفاهيم من خلال المعايشة
والتفاعل المباشر مع الخبرات؛ مسموعةً (الألفاظ والكلمات)، أو مرئيةً (الصور
الحقيقية أو الرمزية)، أو حسيةً عمليةً (الممارسة عمليًا)؛ وتعد الحالة الانفعالية
المصاحبة للخبرة (راحةً، أو رضًا، أو سرورًا، أو دهشةً، أو وجلًا، أو خوفًا) عاملًا
معمقًا للمفهوم ومثبتًا له؛ وهذا يسري على كل المفاهيم العلمية والدينية،
والاجتماعية... إلخ.
عند بناء مفاهيم الإيمان من مثل مفهوم "الإله"
و"محبة الله" و" طاعة الله" وغيرها كبِنيةٍ ذهنيةٍ وعاطفةٍ قويةٍ؛
يحتاج الوالدان والمربون إلى المزيد من العمل مع الأبناء لتعميقها منذ الطفولة؛ لذا
فالبدء بلفت أنظارهم إلى آثار صناعة الله لهذا الكون وإلى عظمته في كل صغيرةٍ
وكبيرةٍ وفي كل مناسبةٍ وفي كل مناشط الحياة، ولفت انتباههم إلى عطايا الله وهباته
ونعمه العظيمة، وتذكيرهم بشكر الله الدائم على ما وهبهم وأعطاهم لتعميق صورة عظمة
الله سبحانه في أذهانهم؛ واستثارة المشاعر والعواطف الإيمانية لديهم، مما يعمق
المفاهيم (المعاني والدلالات والشعور) لديهم ويثبتها في نفوسهم.
ثم إن ما يُلقيه الوالدان على مسامع أبنائهم منذ
أن يكونوا أطفالًا صغارًا من آيات القرآن الكريم، والوقوف على الآيات تأملًا وفهمًا
وتفسيرًا؛ يعمق الدلالات، ويُحدث التمييز للمفاهيم الإيمانية ومعانيها ويرسخها، وإن
العيش مع قصص الأنبياء وسيرة سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام
والصالحين يعد رافدًا تربويًا إيمانيًا عظيمًا؛ فالأطفال يعشقون القصص التي تُروى
بجاذبية، وتبهرهم الصورة الذهنية التي تُرسم لهم، وتؤثر بهم المعاني التي تورد لهم
أثناء سرد القصة؛ فالقصص القرآني زاخر، والسيرة مليئة بالمواقف التي تؤثر وتحرك
الوجدان لدى الأطفال.
ولن نغفل عن أن الاقتداء والنمذجة من أهم الوسائل التربوية إلى جانب ما تم ذكره؛ فالصورة العملية التطبيقية لإيمان الوالدين والمربين وعلاقته بسلوكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم واختياراتهم والتزاماتهم، وعلاقة محبتهم لله، واتباعهم له، وآثار هذا الحب على جميع مناشط حياتهم؛ كفيلٌ برسم صورة الإيمان الحق الذي يحفز ويدفع الجيل للاقتداء والاتباع وتحقيق حياة إيمانية راسخة لا تتزعزع.
الإجابة على أسئلة الأطفال العقدية:
الأطفال في كل مراحلهم العمرية يتفاعلون مع
البيئة بما يسمعون ويحسون ويرون، بكل تلقائيةٍ ومرونةٍ. تخطر ببال الطفل تساؤلاتٌ كثيرةٌ
أثناء تفاعلاته عن الله والكون والحياة؛ وذلك لميزة الأطفال المهمة في النمو
العقلي، ألا وهي "الفضولية المعرفية"، والتي تظهر منذ أن يبدأ يدرك أمه
ويتتبعها ببصره؛ وتتطور مع الوقت بتطور إمكاناته الحركية والحسية واللغوية والاجتماعية
والعقلية. يبدأ التشويش والتشويه للمفاهيم العقدية من خلال الإجابة على الأسئلة
بطريقةٍ مشوهةٍ؛ أو عدم الإجابة عليها وتركها معلقةً في ذهن الطفل حتى يكبر ويصبح
مراهقًا فيبحث بنفسه عن الإجابات. وأية تساؤلات غير مجابة تعني مزيدًا من التوتر
المعرفي الذي يستحث الطفل أو المراهق على الحركة للبحث عن إجابة على تساؤلاته بغية
خفض التوتر وتحقيق التوازن المعرفي بأي شكلٍ كان، ومن أي مصدر دون تمحيص؛ ومع ضعف
القدرة على التمحيص والمقارنة العقلية الفعالة تصبح احتمالية الانحراف الفكري
أكبر.
لذا وجب الاهتمام بأسئلة الطفل العقدية، وعدم
التهرب منها؛ وإن لم يكن للوالدين خبرة فيها فيمكن الاستعانة بالكتب وسؤال
المتخصصين والخبراء التربويين. ونقطة مهمة جديرة بالاهتمام، وهي أنه ينبغي العمل على
تقديم الحقائق والمفاهيم والتشريع بحسب مستوى الأبناء النمائي، وقدرتهم على تصور
المفاهيم وإدراكها واستيعابها؛ وتبسيط القصص وتمثيل المواقف وتجسيد المعاني لهم، حتى
كأنهم يرونها أو كأنهم يحسونها؛ والتدرج بتقديم المضامين من البسيط إلى المركب،
ومن السهل إلى الصعب، ومن المحسوس والملموس حتى نصل إلى المجرد؛ واستخدام الوسائل
التربوية المناسبة؛ فتفكير الأبناء يبدأ ماديًا حسيًا واقعيًا، وينتهي في مرحلة
المراهقة بالتجريد.
يستمتع الأطفال باستخدامكم عناصر البيئة
المحيطة من حولهم لتمثيل معنى أو شرح قصة أو موقف، فهذا الغطاء تم جمعه على بعضه
ليمثل جبل الصفا، وآخر ليمثل جبل المروة، وعلبة صغيرة تمثل الكعبة، وذلك أثناء سرد
قصة هاجر وابنها إسماعيل -عليه السلام- للعمل على مفهوم ايماني قالته السيدة هاجر
لسيدنا إبراهيم: "إذًا لن يضيعنا الله"... وهكذا.
التربية الإيمانية للأبناء هي خط الدفاع الأول في مواجهة خطر الانحرافات
الفكرية والأخلاقية؛ وهي تتطلب جهدًا منظمًا من قبل الوالدين والمربين يستند على
منهجية رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- في التربية، كما يستند على النظريات التربوية
والنفسية والعلمية.
لكن التربية الإيمانية وحدها لا تكفي، وإن كانت هي الضمانة الأولى والأقوى؛
فهناك جوانب نفسية وشخصية واجتماعية ينبغي للوالدين والمربين الاهتمام بها
والاضطلاع بأدوارهم فيها؛ حتى تقوى الحصون، وتغلق جميع المنافذ إغلاقًا محكمًا،
حتى لا تتسرب هذه التشوهات والانحرافات.
التربية النفسية والعقلية والشخصية لحماية أبنائنا من الانحراف موضوعنا في
الجزء الثاني من المقالة على "رواحل"، فتابعونا فللحديث بقية -إن شاء
الله-.
ريتا
♥️