م.كندة حواصلي
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد وسائل للاتصال، بل أصبحت منابر للتأثير ومنصات تجارية وأسلوب حياة لجيل جديد نشأ بين شبكات التواصل، ومع الوقت تشكَّلت لهذا الجيل خصائص تميزه عن غيره، فأصبح يحمل قيمًا وأفكارًا ذات طابع خاص، فما هي سمات هذا الجيل؟ وما الطرق المثلى للتعامل معه؟ وكيف يمكن التأثير فيه وحمايته؟
أثَّرت الطفرة الرقمية على العالم بشكل واضح، وغيرت الكثير من ملامحه وأدواته وأفكاره، ونقلت نموذج العمل التقليدي والشركات والمشاريع إلى مسارات جديدة، جعلت فيها الكثير مما كان مستحيلاً ممكنًا، وما كان بالأمس خيالاً أصبح واقعًا، ولم يكن هذا التأثير محصورًا بنمط الحياة والأعمال الذي حملته هذه الطفرة الرقمية، وإنما بسرعة تغير هذه الطفرة وتجددها وتقديمها الغريب والمؤثر أيضًا.
وبينما يتابع العالم بشغف هذا التطور التقني المتسارع، يغفل الكثير عن تأثير هذا التطور على الإنسان والمجتمعات والأفكار، ولئن كان التحول الكبير في نمط الحياة التي نعيشها واضحًا، إلا أن نمط التحولات في الأفكار والمجتمعات لا تبدو واضحة في الوقت الحالي، فهذه التحولات لا تزال في طور إعادة التشكل ولن تظهر بشكلها الواضح إلا بعد سنوات، ولكن إرهاصاتها قد لا تخفى على من يتابع بدقة واقع الشباب والمراهقين في الدول العربية والإسلامية لا سيما في دول الربيع العربي.
وفي البداية لا بد من الإشارة إلى أن ما سيرد في السطور القادمة لا يمكن تعميمه على جميع الشباب والمراهقين، إلا أنه يوصف تيارًا عريضًا من هذه الشريحة يزداد وجودها وتأثيرها يومًا بعد يوم، وأن هذا التغيير حتى وإن لم يكن قد طال دوائرنا القريبة بعد، فهذا لا يعني أننا في مأمن منه ولا في حالة إعفاء من المسؤولية، بل يجب علينا أن نشمر جميعًا قبل أن يبتلعنا جميعًا.
الجيل الرقمي «جيل Z»، ماذا نعرف عنه؟
برز مصطلح “الجيل z” لتوصيف ما يعرف بجيل ما بعد الألفية في العديد من الكتابات والتنظيرات الغربية، والذي يندرج ضمنه أي شخص ولد بين عامي ١٩٩٧م و٢٠١٢م وفق تصنيفات العديد من الخبراء، حيث إن الشريحة الأكبر سنًا في هذا الجيل هم الآن شباب في أوائل العشرينات من العمر دخل بعضهم عالم الأعمال، أو قد بلغوا سن الرشد.
وبينما تغيب الدراسات العربية التي تحاول التعرف على شكل ونوع التغيير عند الجيل العربي الجديد من الشباب والمراهقين، اهتمت العديد من الدراسات التسويقية الأجنبية برصد تلك التغيرات، بهدف معرفة مزاج هذه الشريحة واهتماماتها الجديدة وتصميم منتجات تتوافق مع اهتماماتها[1].
تصف العديد من الدراسات الأجنبية الجيل Z بأنه الجيل الرقمي الأكثر نشاطًا، والأكثر استخدامًا للأجهزة الذكية، اعتاد أن يكون متوافرًا طوال اليوم، يعيش حياة كاملة افتراضية غير حقيقية داخل منصة وسائط اجتماعية، أو ضمن غرف الألعاب، لا يفهم معنىً للخصوصية، ولا التميز الفردي، بل يعيش حياته مستترًا بفلاتر التطبيقات وميزات الواقع المعزز[2] والبث.
وهو جيل ينشئ حساباته الشخصية وفق معايير قد لا تتطابق مع شخصيته، ويتصرف على وسائل التواصل الاجتماعي كما لو كان كل شيء رائعًا، وقد يختبئ خلف اسم مستعار، أو خلف جنسية أخرى، أو خلف صورة فنان أو رياضي مشهور، وقد يعدل صورته الشخصية ببرامج المونتاج ليبدو أكثر عصرية وأكثر حداثة يتوافق مع معايير الجمال، وقد يسبغ على نفسه الألقاب والخبرات التي لا يعرف عنها شيئًا ويهرف بما لا يعرف.
يهتم هذا الجيل بالشكل على حساب المضمون، وتسحره العلامات التجارية ويستهويه التسوق الإلكتروني واقتناء الماركات، ويفضل المحتوى المرئي والصورة والفلاتر بشكل كبير، ويعتبر الشهرة والمال مقياسين أساسيين للنجاح، وهو يدرك أنه غير مقيد بالجغرافيا أو بالمناطق الزمنية، يملك الحق في النقاش والنقد، ولا يقبل الوصاية ولا يثق بالكبار.
تعتبر تجارب هذا الجيل الواقعية قليلة، وخبرته بالعلاقات الاجتماعية الاعتيادية محدودة، وحتى لو خرج إلى الواقع والمجتمع تراه غارقًا في هاتفه لا يعرف كيف يتواصل مع الناس أو يكوّن صداقات، لا يعرف شكل العالم قبل ظهور الإنترنت، ولا يتخيل العيش فيه بدون وجود جهاز محمول حديث المواصفات وإنترنت سريع، يدرك حجم القوة التي منحته إياها مواقع التواصل، ويعرف كيف يستخدمها لدعم رأي يستهويه أو التأثير في الرأي العام وفي قضايا سياسية واجتماعية.
تبدو تصورات هذا الجيل عن ذاته وعن قيمه غير واضحة، فهي تتأثر بالموجات السائدة والأفكار الرائجة التي تقاذفها الأمواج على هذه الساحة الافتراضية، فقد يدعي ما لا يؤمن به، وقد يقلد صرعة وهو يعرف أنها تخالف معتقداته الدينية أو قيمه الاجتماعية، بينما قد تراه محاربًا في أوقات أخرى يخوض معارك وهمية بين سطور التعليقات، وينثر فيها تعليقات متسرعة وشتائم بذيئة، دون اعتبار لمن يحاور أو لمن يقرأ.
وتظهر ثقة هذا الجيل بنفسه بشكل متأرجح، فهو يقيس مكانته وقيمته بالإعجابات والمشاركات والتعليقات وعبارات المديح، وتتأثر نفسيته بالتفاعل الافتراضي حوله، فقد تدفعه الصدفة لأن يصبح أحد المشاهير وتسلط عليه الأضواء وتنهال عليه المتابعات والإعجابات، وقد تتسبب بعض الشائعات أو التعليقات السلبية باكتئابه وانعزاله وقد تصل به إلى الانتحار.
يعاني هذا الجيل –وفق الدراسات والأبحاث- من معدلات إجهاد نفسي مرتفعة مقارنة بالأجيال الأكبر، ويَعتبر ٣٤٪ منهم أن صحتهم العقلية أسوأ مما كانت عليه قبل عام، وأنهم أكثر عرضة لظهور أعراض الاكتئاب، ويقول ٧٥٪ إنهم يشعرون بالتعب الشديد لدرجة أنهم «جلسوا ولم يفعلوا شيئًا»، و ٧٤٪ كانوا قلقين، و ٧٣٪ كافحوا للتفكير بشكل صحيح أو التركيز، بينما يشعر٧٣٪ منهم بالوحدة، فيما يشعر ٧١٪ منهم بالبؤس والتعاسة[3].
يستخدم هذا الجيل مواقع التواصل الاجتماعي للترفيه وقتل الوقت، وتحتل الألعاب والأغاني والرقصات والتحديات عنده مكانة بارزة من اهتماماته، وبالإضافة إلى قلقه النفسي فهو جيل مشتت غاضب يفتقد الصبر، ويريد أن يساير الموجة السائدة لا أن يواجهها، يفضل كل ما هو سريع وصارخ ومجنون وخارج عن المألوف، ليس لديه أحلام كبيرة باستثناء الشهرة والربح السريع، وليس لديه طاقة على القراءة ولا العمل ولا يتابع النقاشات العميقة، ويتأثر برأي المؤثرين الجدد[4] أكثر من تأثره بالخبراء والمتخصصين.
أين تتجه اهتمامات الشباب السوري على مواقع التواصل؟
من الصعب متابعة اتجاهات الاهتمام عند الشباب والمراهقين السوريين –ذكورًا وإناثًا- في ظل غياب الدراسات الرصينة والدورية، ومن الصعب أيضًا تعميم هذه الاتجاهات خاصة مع اختلاف البيئات التي يعيش ضمنها هؤلاء الشباب، فاهتمامات الشباب داخل سوريا تختلف عن اهتمامات من هم خارجها، واهتمامات الشباب السوري المقيم في دول عربية تختلف عن اهتمامات من هم في بلاد اللجوء.
ولعل من الأسلم في هذه الحالة متابعة ما يعرف «بالمؤثرين السوريين» وهم الأشخاص الذين حصدت حساباتهم ملايين المتابعين، لمعرفة نوع المحتوى الذي يلقى الاهتمام وتوجه القائمين عليه، فقد يكون مؤشرًا أوليًا لمعرفة اتجاهات اهتمام تيار واسع من الشباب السوري على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويمكن تقسيم المجالات التي صعد فيها المؤثرون السوريون إلى مجموعة مسارات عامة وهي:
- أصحاب المدونات الشخصية الذين ينقلون تفاصيل حياتهم اليومية، والذين استطاعوا نتيجة حجم المتابعات الكثيف والأرباح العائدة من مواقع التواصل، أن ينقلوا تفاصيل حياتهم المرفهة ورحلاتهم السياحية ومغامراتهم ومنازلهم وجانبًا واسعًا من حياتهم الخاصة وعلاقاتهم ومشاعرهم بشكل استعراضي وينشروها للعموم.
- «أصحاب المواهب»، سواء في مجال الطبخ، أو الفكاهة، أو المكياج، أو الغناء ممن قد حصدوا ملايين المتابعات رغم ضحالة المحتوى الذي يقدمه العديد منهم.
- الذين يقدمون محتويات تمثيلية، تقوم على اختلاق قصة تستمد أحداثها من الواقع أو حتى من الخيال وقد يظهر فيها صاحب الحساب بمظهر البطل القادر على حل المشاكل بكل بساطة.
- «اللاعبين – Gamer» وهم الذين يقضون ساعات طويلة يشاركون فيها طريقة لعبهم لإحدى الألعاب مع الجمهور ويعلمونه بعض الخدع والأسرار حول تلك اللعبة.
وفي جميع المسارات السابقة، تبرز لدينا ملامح عامة قد تنطبق على شريحة واسعة من صناع المحتوى، فعلى سبيل المثال يزداد اهتمام هؤلاء المؤثرين بالمظهر وبإظهار مظاهر الثراء والرفاهية مع تزايد عدد المتابعين، ويصبح العديد منهم وكلاء لبعض الماركات المشهورة ومقصدًا لأصحاب الإعلانات بغض النظر عن المحتوى الذي يقدمونه، وبالتالي يقدم هؤلاء المؤثرون صورة براقة عما يحلم غالبية الشباب الوصول له.
ويحاول العديد من هؤلاء المؤثرين الخروج إلى الجمهور بصورة عصرية تواكب أحدث صرعات الموضة، حيث لا يجد البعض حرجًا في الظهور بشكل مخنث، أو ارتداء الملابس الممزقة، أو الضيقة، أو التي لا تتناسب مع الزي الشرعي، أو الخضوع لعمليات التجميل أو حتى التزين بالوشم أو بالإكسسوارات والمكياج، والرقص والتمايل أمام الكاميرات، واستخدام الألفاظ البذيئة أو الإيحاءات الجنسية.
ومن الملاحظ أيضًا عند تحليل المحتوى المقدم أن شريحة واسعة من أصحاب المحتويات الرائجة يضطرون من أجل الحفاظ على وتيرة المتابعات وزيادتها إلى المبالغة واللجوء إلى الابتذال، والمشاركة في تحديات سخيفة أو غبية أو حتى خادشة للحياء، حيث لا يجدون حرجًا في تقديم ما لا يتوافق مع مكانتهم العلمية أو العمرية في مقابل زيادة التفاعل والبقاء في دائرة الاهتمام، ويُلاحظ أن هذه الاستراتيجية –القائمة على تفاهة المحتوى- فعالة في جذب المشاهدات التي تتناسب طردًا مع حجم الإسفاف، وإن كانت هذه المشاهدات والتعليقات المصاحبة لها تكيل الشتائم وتعلق بشكل سلبي وقاسٍ على هذا المحتوى الهابط.
ومن جهة أخرى يلاحظ في الكثير من الأحيان أن العلاقات الاجتماعية عند العديد من هؤلاء المؤثرين تتجه بشكل غير منضبط، فقد يشارك الشاب خصوصيات عائلته، وقد يصور مقالب يستهدف بها والدته أو والده أو إخوته ويضعهم في وضع محرج من أجل إضحاك الجمهور، والغريب أيضًا هو تجاوب العائلة مع هذا الإسفاف والتفاعل مع المقلب العفوي أو المدبر دون حساب لهيبة ومكانة رب العائلة أو أفرادها أو خصوصيتهم.
وغالبًا ما يتطور هذا الانحراف في شكل العلاقات الاجتماعية، ليقحم الزوج زوجته في فيديوهاته أو العكس، حيث تبدأ المشاركات بشكل منضبط وعائلي، ثم تتطور بشكل غير أخلاقي لا يمانع فيها الزوج من استعراض رقص زوجته أو جمالها أو ملابسها وسط مئات من التعليقات المؤيدة ومئات أخرى من الشتائم.
هذا وقد انتشرت أنماط من الثنائيات، وهم على الأغلب من المراهقين -ذكورًا وإناثًا- تجمعهم علاقة صداقة، أو تعرفوا على بعضهم ضمن زواريب الواقع الافتراضي، حيث يصورون فيديوهات مشتركة بهدف مضاعفة المشاهدات من خلال استهداف متابعي كل منهما، وقد يبدأ المحتوى بمقالب مدبرة أو تحديات فكاهية أو المقاطع الغنائية، وقد يتطور إلى علاقات منفتحة غير منضبطة تروج للكثير من القيم التي لا تتناسب مع القيم السورية أو الإسلامية.
كما ظهر نوع جديد من المؤثرين، الذين يعتاشون على المحتويات الهابطة التي يقدمها مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي، بحجة نقد ما يقدمه هؤلاء، حيث يجمع هذا «المدون الناقد» بعض الفيديوهات المتشابهة في السياق أو التي تشارك في تحدٍ ما، ويقوم بتوجيه تعليقات لاذعة له، إلا أنه -بقصد أو بدون قصد- يساهم في إشهار هذه الحسابات والترويج لما تقدمه، واستغلال هذا الإسفاف والمحتوى الهابط أو الخليع لتحقيق شهرة ذاتية.
ولعل السمة المشتركة للعديد من هؤلاء المؤثرين هي غياب الحياء والرقابة وعدم وجود خطوط حمراء، فكل شيء مباح وكل شيء ممكن، من أجل الحفاظ على المتابعات في سوق تزداد فيه المنافسة بشكل مطَّرد، ولا مشكلة عند بعضهم في الخوض بالأعراض واختلاق معارك وهمية وتوجيه سباب أو شتائم للمنافسين في نفس الميدان، واللجوء إلى ردات فعل متطرفة كخلع الحجاب على الهواء أو تسريب صور وفيديوهات شخصية، أو حتى التذلل للجمهور لدعم الحسابات وزيادة المتابعة، أو حتى الحديث في مواضيع شخصية حساسة.
ولعل من الصادم أن نسبة واضحة من صناع هذه المحتويات التي يتابعها الشباب والمراهقون، هم في الغالب من الجيل الأكبر سنًا –جيل الألفية الذين ولدوا بعد عام ١٩٨١- حيث لم يجد العديد منهم حرجًا في الدخول في هذا العالم بشكل جامح، والتفاعل معه بشكل لا يليق بسنه ولا بخبراته العلمية ولا ماضيه، ومن اللافت أيضًا أن غالبية أصحاب هذه الحسابات هم من السوريين المقيمين في دول اللجوء الأجنبية وهي ظاهرة تستدعي الدراسة والبحث والغوص لمعرفة الأسباب والدوافع وراءها.
ولا بد من الإشارة إلى وجود بعض المؤثرين السوريين الذين حاولوا تقديم محتويات هادفة قيمة ذات رسالة، تحترم عقل المتابع وتسعى إلى توعيته وتزويده بالمعلومات الصحيحة، إلا أن هذا التيار الرصين لم يستطع الوصول إلى حجم متابعات تيار التفاهة ولم يلق حجم التفاعل والدعم لا من المتابعين ولا من الجهات والمنظمات ذات الرسالة المجتمعية.
القيم والمفاهيم الجديدة:
يواجه العديد من الآباء والمصلحين صدمة كبيرة، عندما يلاحظ أن ميول أبنائه تنساق مع التيار الجارف الذي لا يستطيع مجابهته، ويجد أن الأهداف والقيم والأحلام الكبيرة حول إصلاح الأمة والنهوض بها وتحقيق الاستخلاف لم تعد شيئًا يمكن من خلاله جذب الشباب والمراهقين به وإقناعهم بتبنيه والسعي لأجله إلا النزر اليسير.
بل على العكس قد يلحظ هؤلاء بأن هناك قيمًا جديدةً غرست في هذه الأجيال الناشئة، لم يكن للأسرة ولا المدرسة ولا المسجد دور فيها، بل قد تتعاكس وتتصارع مع الكثير من القيم السائدة التي دأبت هذه الجهات على غرسها، وهنا لا يجد هؤلاء أمامهم إلا خيارين، الصدام مع هذا الجيل أو المسايرة ومحاولة التأثير الناعم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لا بد من الإشارة إلى وجود بعض المؤثرين السوريين الذين حاولوا تقديم محتويات هادفة قيمة ذات رسالة، تحترم عقل المتابع وتسعى إلى توعيته وتزويده بالمعلومات الصحيحة، إلا أن هذا التيار الرصين لم يستطع الوصول إلى حجم متابعات تيار التفاهة ولم يلق حجم التفاعل والدعم لا من المتابعين ولا من الجهات والمنظمات ذات الرسالة المجتمعية.
ولعل من أهم الأفكار والقيم التي أصبحت دارجة بين الشباب والتي ساهمت في تعزيزها الثورات والاضطرابات السياسية، ورسخت وجودها وسائل التواصل بمساحات الحرية والتفاعل الكبيرة التي تتيحها، هي: الترويج لفكرة الحرية المطلقة المنسلخة من أي حدود وضوابط، والتركيز على الفرد كمحور للحياة، وليس كأداة للتغيير[5].
ونتيجة لشيوع أفكار الحرية غير المنضبطة، لم يعد هناك سلطة واضحة على جيل الشباب والمراهقين، لا من المنظومات الأخلاقية ولا الجهات الاعتبارية والدينية، ولا حتى لأصحاب الخبرات والكفاءات ولا حتى للثوابت والأحكام الشرعية، بل قد يكون تأثير أحد الحمقى من أصحاب المتابعات المليونية على الجموع في فيديو يتمايل فيه راقصًا أو يتحدث فيه عن موضوعاتٍ تخصصية أو حساسة؛ أكثر من أحد المختصّين.
ومن القيم التي تروجها مواقع التواصل بشكل غير مباشر، التركيز على المادية المفرطة على حساب الروحانيات والغيبيات، فكل شيء يقاس بعوائده المادية، وكل الأفكار مقبولة إن حققت من ورائها ثراءً أو شهرةً أو إعلانات، بينما قد تندر الأفكار والقيم والمواقف الأخلاقية التي تدعم القضايا العادلة عن هذه الساحة ومؤثريها، فلا أحد يريد تسجيل موقف قد يفقد بسببه عددًا من المتابعين أو أصحاب الإعلانات.
ومن القيم الجديدة التي غيرتها مواقع التواصل الاجتماعي، النظرة للنجاح والناجحين، فلم يعد النجاح المطلوب هو المسيرة التي تتطلب الجد والاجتهاد والتعب، أو التي تعود بفائدة عامة تغير واقع الناس والمجتمعات نحو الأفضل، بل أصبح النجاح يتطلب كميرا وإضاءة وسيناريو يقذف بصاحبه فجأة ليتصدر السياق العام (Trend)، ويقيس فيها نجاحه بعدد الإعجابات والمتابعين وبما يجنيه من عائدات، وبالجوائز والدروع التي يحصدها لكونه «صانع محتوى».
ولعل الأخطر من هذا كله، ما تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي من إعادة تشكيل التصورات عن العائلة والعلاقات السائدة بين أفرادها، والترويج لمفاهيم جديدة بشكل ناعم، فما يتم ترويجه على مواقع التواصل يقدم صورة غير منطقية عن شكل الأسرة السعيدة والزواج الناجح، كما أنه يكسر أشكال التراتبية وقواعد الاحترام والقوامة التي يُفترض أن تبنى عليها هذه الأسر.
وإلى جانب ذلك، يقدم المحتوى الرائج صورة مشوهة عن الزواج كعِبء وقيد لا يجب التسرع بدخوله وليست هناك مشكلة في التخلص منه عند أول عقبة، وبالتالي يجب التريث قبل الدخول فيه، أو التمهيد له بتجارب وعلاقات قد يصل بعضها إلى مرحلة المساكنة، وقد تتطرف هذه التجارب باتجاهات شاذة تحت عنوان: استكشاف الهوية الجندرية[6].
ومن الملاحظ أن العديد من وسائل الإعلام التقليدية التي استخدمت صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي قد انخرطت في هذا السياق الفكري الذي يعيد تشكيل مفهوم الأسرة في الأذهان، من خلال تسليط الضوء المتكرر على التجارب الغريبة والقصص غير المألوفة والشاذة في المجتمعات العربية، والتركيز على بعض تجارب اللاجئين في إعادة استكشاف هويتهم الجنسية في بلاد اللجوء، أو استعراض تجارب العابرين الذين وصلوا إلى مرحلة أبعد وقاموا بتغيير جنسهم بشكل يدعو لتعاطف المشاهدين من جهة، والنقمة على المجتمع «ذي الأفكار البالية» الذي حاربهم ورفضهم من جهة أخرى.
ومن اللافت أيضًا الاحتفاء الكبير من قبل بعض الدول والجهات بمؤثري وصانعي محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، وإقامة المهرجانات الباذخة، واستقبالهم استقبال الأبطال، وتغطية أخبارهم، وإمطارهم بالجوائز والهدايا وتوزيع الألقاب والتي قد يخيل أن صاحبها قد حقق إنجازًا هامًا في الحياة، وهو أمر لا يمكن تفسيره إلا بوجود دعم مباشر من هذه الجهات لهذا التغيير الفكري والثقافي تحت ستار الحداثة، وترسيخ للقيم الجديدة، وترميز هذه الشخصيات كقدوات مؤثرة في الحياة.
مع أم ضد التيار؟
أفرزت الطفرة التقنية عوالم ومجتمعات افتراضية أصبحت واقعًا مفروضًا في الحياة، وهو ما دفع بتحديات صعبة أمام الآباء والمصلحين والمفكرين وأصحاب المشاريع الإصلاحية والدعوية الذين لا يجدون لأنفسهم مكانًا ضمن هذه العوالم، ويصعب عليهم إدراك مفاتيحه وأدواته أو مواكبة تغيراته المتسارعة.
ومع غياب الدراسات والتقارير التي تتبع هذا العالم وترصد التغيرات التي يتسبب بها، يحاول البعض المضي قدمًا وفق النهج الإصلاحي القديم والوعظ المباشر، مستعينًا ببعض المساحات الحديثة التي توفرها هذه المواقع، في محاولة للوصول إلى بعضٍ من هذه الشريحة المغيبة والتأثير فيها، إلا أن هذه المحاولات لا تبدو فعالة أو مؤثرة على المستوى الحالي.
ولعل إدراك المشكلة وفهم التغيرات قد يكون الخطوة الأولى لإعادة تصميم مشاريع تستهدف هذه الشريحة وتسعى إلى زراعة القيم والأفكار المستحدثة، ومقاومة هذا التلوث الديني والفكري والأخلاقي الذي تروجه مواقع التواصل الاجتماعي، فلا تزال هناك الكثير من الأبواب المغلقة التي لم يتم طرقها ولا تزال هناك الكثير من الأدوات التي لم يتم استعمالها، يمكن من خلالها الوصول إلى ضحايا هذا التيار الجارف وتقديم طوق النجاة لهم وسحبهم إلى بر الأمان.
وبما أن الواقع الافتراضي أداة مرنة لإيصال الأفكار، يمكن تطويعها واستخدامها لخلق حالة أثر إيجابي، حيث يمكن الدخول من باب تصميم ألعاب احترافية، على درجة عالية من الحرفية والتشويق والإتقان، يمكن من خلالها غرس بعض الأفكار والقيم الإيجابية التي تركز على البناء والإصلاح والتعاون والعطاء والمشاركة والتطوع بدل القتل والتدمير والانتصار الساحق، وهو باب لم يطرقه بعدُ أصحابُ التوجهات والمشاريع المعتدلة.
إن تقديم فرصة تنافسية تحقق لصاحبها مكانة وشهرة وعائدًا ماديًا مغريًا، يُتنافس فيها على تقديم محتويات نوعية تبحث في قضايا جادة تسهم في نهضة البلاد، كالنهوض بالتعليم أو اقتراح حلول مبتكرة لمشاكل محلية أو عالمية، من شأنه لفت انتباه رواد الشبكات الاجتماعية وتحريضهم على تسخير طاقاتهم في مسارات مغايرة
وقد يكون الدخول من الجانب النفسي أحد المفاتيح المطلوبة لعملية الإصلاح، خاصة مع ما تلقيه هذه المواقع على روادها من ضغوط، حيث يمكن تقديم الدعم النفسي المدعم بالقيم والأخلاق أن يساعد الشباب والمراهقين على الثبات وتخطي الصعاب والأزمات، مع ضرورة الانتباه إلى أن يقوم على هذا الموضوع متخصصون ثقات في هذا المجال.
ولئن كان من الصعب مجابهة هذا التيار الجارف: فقد يكون إعداد الكوادر والدخول المنضبط فيه سبيلاً لخلق تيار جانبي، يمكن أن يقدم نموذجًا مغايرًا ترتبط فيه الفكرة والهدف بالتسلية والمحتوى الخفيف، ويسحب جزءًا من متابعي تيار التفاهة إلى شاطئ أكثر قيمة وفعالية، ولعل أفضل وسيلة للبدء في شق هذا التيار الفرعي من السيل الجارف المسابقات الرنانة ذات الجوائز المغرية والتي تقوم عليها شركات وأسماء معروفة بمسؤوليتها المجتمعية.
إن تقديم فرصة تنافسية تحقق لصاحبها مكانة وشهرة وعائدًا ماديًا مغريًا، يتنافس فيها أصحاب الخبرات والمواهب والابتكارات على تقديم محتويات نوعية تبحث في قضايا جادة تسهم في نهضة البلاد، كالنهوض بعملية التعليم ومواجهة التلوث البيئي، أو اقتراح حلول مبتكرة لمشاكل محلية أو عالمية، من شأنه لفت انتباه رواد وسائل التواصل الاجتماعي وتحريضهم على تسخير طاقاتهم وتوجيه أفكارهم في مسار مغاير، كما أنه سيقدم فرصة على طبق من ذهب لاستكشاف المواهب والعقول ودعمها لتخلق أنماطًا جديدة من المؤثرين يمكن أن يقارعوا بطروحاتهم المعتدلة سيل التفاهة الجارف ومحتواه الفارغ، وينقذوا الشباب من الوقوع فيه.
[1] لمعرفة المزيد عن صفات هذا الجيل يُنظر: مقالة: الجيل Z: يتوق للاستقرار، فامنحهم ذلك. Gen-Z: They Crave Stability And Trust, So Give It To Them . forbes. ومقالة: على أعتاب مرحلة البلوغ ومواجهة مستقبل غير مؤكد: ما نعرفه عن الجيل Z حتى الآن On the Cusp of Adulthood and Facing an Uncertain Future: What We Know About Gen Z So Far, Pew Research Center. ومقالة: ما مدى اختلاف الجيل Z عن جيل الألفية وما الذي يجب أن نعرفه عنه؟ Generation Z: How Millennials are different and what we should know?. ومقالة: ماهي الخصائص الرئيسية للجيل Z What Are the Core Characteristics of Generation Z?.
[2] الواقع المعزز Augmented Reality، وهو نوع من أنواع التكنولوجيا الحديثة التي تعتمد على المزج بين المعلومات الرقمية والمعلومات المستقاة من البيئة الطبيعية، فهي لا تعرض صورة اصطناعية بالكامل وإنما تأخذ معلومات الواقع وتعدل عليها ومن أبرز أمثلتها النظارة الافتراضية. الواقع المعزز، موقع هارفرد بزنس ريفيو، https://bit.ly/٣wW٨uxP.
[3] الجيل Z : يتوق للاستقرار، فامنحهم ذلك. Gen-Z: They Crave Stability and Trust, So Give It To Them. forbes.
[4] يقصد بالمؤثرين الجدد الحسابات الشخصية التي حظيت بأعداد كبيرة من المتابعات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهم يقسمون إلى النانو انفلونسر والذي يملك أقل من ألف متابع، والمايكرو انفلونسر وهم الذين لديهم ما بين ١٠٠٠-٤٠ ألف متابع، والماكرو انفلونسر وهم الذين يملكون ما بين ٤٠ ألف وحتى مليون متابع، والميغا انفلونسر وهم الذين يملكون أكثر من مليون متابع. مقالة: مؤثرون بأموال وشهرة واسعة .. لكن ماذا عن متاعبهم؟، بي بي سي بالعربي، https://bbc.in/٣wTuxGC.
[5] ومن هذه الأفكار الدعوة لحرية الجسد والعلاقات الجنسية والشذوذ والتي يتم التعامل معها وكأنها حرية شخصية مقدسة للأفراد لا يحق لأحد انتقادها أو التدخل بها طالما أنها لا تؤذي أحدًا وتقع ضمن إطار التراضي، بينما يتم الإغفال المتعمد عن آثار هذه الحرية المطلقة على الأسرة والمجتمع والكوارث التي أدت لها.
[6] يقصد بالهوية الجندرية كيف ينظر الشخص إلى نفسه وكيف يقيم شعوره بكونه ذكرًا أو أنثى أو شيئًا آخر، وذلك بغض النظر عن تكوينه البيولوجي، ويعتقد أصحاب هذا الطرح أن المجتمع يؤثر بشكل كبير في تشكيل صورة الفرد عن جنسه، وأن على هذا المجتمع ألا يتدخل وأن يترك للفرد حرية القرار بتحديد كيف يريد هذا الفرد أن يتصرف وفقًا لميوله الحالية حتى لو كانت هذه الميول تخالف تكوينه البيولوجي.
إضافة تعليق