رغم تشتت الأفراد داخل الأُسَر وانغماسهم في ضغوط الحياة، تظل مائدة الطعام أحد الروافد الصامدة للتربية أمام عاصفة التشرذم الأسري، حيث يجتمع أفراد الأسرة الواحدة ليس للأكل فقط وإنما لتواصل حميمي فريد في كينونته عظيم في أهميته وفائدته لكل فرد.
وعلى هذه المائدة نتبادل الحوارات مع أبنائنا عن شواغلهم والتزاماتهم العلمية والعائلية وعن معاناتهم وأحلامهم وطريقة تعاملهم مع الحياة، لكن يبقى المحور الأعظم والهدف الأكبر هو التوجيه الأبوي والتعليم الهادف عبر مناقشة تصرفات وأفكار فلذات الأكباد، فيتناولونها بالتعزيز أو النقد والتعديل والتوجيه للأصْوب من منطلق الخبرة العملية وعُمق التجارب الحياتية.
أهمية مائدة الطعام في التواصل الأسري
وأشار النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أهمية مائدة الطعام في التواصل الأسري، حيث أخبرنا الرسول الكريم في حديثه أنّ البركة في الطعام إنما هي بالاجتماع عليه، وذلك حينما روي أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ” قَالَ: “فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟” قَالُوا: “نَعَمْ” قَالَ: “فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ” (أحمد وأبو داود وابن ماجه وحسنه الألباني).
ووعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: “طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ” (البخاري).
وقال علي- رضي الله عنه-: لأن أجمع إخواني على صاع من طعام أحب إليّ من أن أعتق رقبة. وكان ابن عمر- رضي الله عنهما- يقول: من كرم المرء طيب زاده في سفره وبذله لأصحابه”. وكان الصحابة- رضي الله عنهم- يقولون: “الاجتماع على الطعام من مكارم الأخلاق”.
وقَالَ اِبْن بَطَّالٍ: الِاجْتِمَاع عَلَى الطَّعَام مِنْ أَسْبَاب الْبَرَكَة, وقال السندي في شرح سنن ابن ماجه: فَبِالِاجْتِمَاعِ تَنْزِل الْبَرَكَات فِي الْأَقْوَات وَبِذِكْرِ اِسْم اللَّه تَعَالَى يَمْتَنِع الشَّيْطَان عَنْ الْوُصُول إِلَى الطَّعَام.
وذكر المناوي في فيض القدير: “وفي الأكل مع الجماعة فوائد منها ائتلاف القلوب وكثرة الرزق والمدد وامتثال أمر الشارع لأنه تعالى أمرنا بإقامة الدين وعدم التفرق فيه ولا يستقيم ذلك إلا بائتلاف القلوب ولا تألف إلا بالاجتماع على الطعام وشر الناس من أكل وحده ومنع رفده كما مر في حديث، فمن فعل ذلك وأراد من الناس نصرته على إقامة الدين فقد أتى البيوت من غير أبوابها وربما خذلوه عنادا لبغضهم له إذ البخيل مبغوض ولو كثر تعبده”.
ومن خلال جلوس أفراد الأسرة حول المائدة يتحقق التعارف الأسري في أسمى معانيه؛ حيث يتعرف الأطفال إلى الكثير عن الأب والأم، وعن آرائهم المختلفة في شتى الموضوعات، وما يحبون وما يكرهون، وما يعتبرونه صوابًا، وما يعتبرونه خطأً، وأيضًا يتعرف الأب والأم إلى آراء وأفكار الأطفال، وما يحبون وما يكرهون.
ومائدة طعام الأسرة فرصة عظيمة ليعرف أفراد الأسرة بعضهم بعضًا، ويتعلمون كيف يجلسون معًا للحوار، وهذا التقارب الذي سيشعرون به تجاه بعضهم سيقلل بشكل كبير من حدوث الجدل والسلوك السيئ فيما بينهم، وحتى وإن حدث خلاف بينهم، فإنهم يلتقون على الطعام بما يصفي النفوس، ويقرب بين القلوب.
ويولد هذا الجو الأسري حول المائدة الألفة بين أفراد العائلة ويقلل من الحدة والتوتر، ويعلمهم مهارات التواصل الاجتماعي مع الآخرين، بالإضافة إلى تعليم الأفراد عادات غذائية صحية والعمل على حل مشكلاتهم الغذائية، وتشكيل ذكريات مع الوالدين والإخوة.
وفكرة اللقاء الجماعي، ممثلاً بـ”مؤتمرات الطعام” اليومية، شهدت منظومة من التغيّرات باتجاه ارتفاع نسب وعناوين الحريات والقيم الفردية للأبناء، ومن خلال تناول وجبات عائلية منتظمة معا، يمكن تحسين ليس فقط الخيارات الغذائية، ولكن أيضا تعزيز الفوائد العاطفية للتفاعل بين الأبناء والأبوين.
دور مائدة الطعام في التربية
وتشمل مائدة الطعام على العديد من الفوائد التربوية التي تعود بالخير والنفع على جميع أفراد الأسرة، فهي منتدى يُحقّق الترابط، والمحادثات والحوارات المفيدة؛ فضلاً عن تعليم الكثير من القيم التربوية، مثل: التعاون والمسؤولية وآداب تناول الطعام من خلال المساعدة في تحضير المائدة وتوزيع الأدوار:
- غرس القيم في نفوس الأطفال: فلمائدة طعام الأسرة دورٌ كبير في غرس القيم في نفوس الأطفال، فهي تعلمهم، وتغرس فيهم الشعور بالحب والأمان والمسؤولية، وتقدير الذات، والترابط، وهي فرصة ليعتاد الأطفال التحدث إلى الكبار، والاستماع إليهم.
- تحقيق السعادة للأطفال: فيجب على الأب والأم التفكير ولو مرة في الأسبوع في الأشياء التي فعلها الأبناء في الشارع أو في البيت، أو في المدرسة خلال الأسبوع، وتستحق الثناء والمدح، فالأطفال الصغار مثل الكبار ينعمون ويسعدون بالثناء والمدح، فهو يشجعهم للاستمرار في أشياء أفضل، ويمكن أن يكون ذلك أثناء تناول الطعام على المائدة.
- تربية ما قبل المائدة: وذلك بحرص الزوج عند أول دخوله المنزل وبعد إلقاء السلام أن يبدأ بسؤال الأولاد عن تواجد الوالدة ويذهب إليها ملقيا السلام ومقبلا رأسها تطييبا لخاطرها وإعلانا عن مشاعر الود والرحمة، وهذا تربية للأطفال.
- المشاركة في تحضير المائدة: فينبغي ألا تقع مراسم تجهيز المائدة على عاتق الزوجة المنهكة في المطبخ وحدها، بل يتشارك كل الأفراد في حمل الأطباق وسائر الأغراض في جو مرح لطيف، وهذه المشاركة وإن كانت رمزية بالنسبة للزوجة، فإنها تنطوي على معاني العرفان والمعونة بالقدر المستطاع، وتفتح شهية الصغار الذين يختارون لون طبقهم المفضل وكمية ونوعية الطعام المناسبة لديهم.
- التربية على الحمد: فمن الهدي النبوي ألا نعيب طعامًا قط، لأنّ النقد لنعمة الله تعالى نوعا من الجحود لفضل الكريم الوهاب، حتى وإن كانت تلك النعمة بسيطة في محتواها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: “ما عاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طعامًا قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله، وإن كرهه تركه”.
- رب الأسرة أولا: ومن الأدب ألا يبدأ أحد الصغار بالأكل قبل أن يبدأ رب الأسرة أولا، وما أجمل أن يجهر الوالد بالتسمية عند بدء الأكل تعليما للجاهل وتذكيرا للناسي .. “بسم الله” أو “بسم الله الرحمن الرحيم”، فإن نسي ذكر الله تعالى أثناء الطعام “بسم الله أوله وآخره”، فإنها تطرد الشيطان وتحل البركة في الطعام.
- من آداب الطعام: الأكل والشرب باليمين والأكل مما يلي المرء، وألا يأكل من وسط الطبق لأن البركة تتنزل فيه، والاجتماع على الأكل وألا ينفرد كل واحد بطبق خاص قدر المستطاع، وألا يقرن المرء بين حبتين من الأكل مما يؤكل أفرادا كالتمر وحب الفواكه كالعنب والمشمش وغيرها، ويجوز الإقران في حال استئذان الجلوس، أما الشرب فعلى ثلاث مرات، وألا يتنفس في الكوب. فعن عمر بن أبي سلمة- رضي الله عنه- قال: كنت غلاما في حجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك”، فما زالت تلك طعمتي بعد” (متفق عليه).
- تربية الأبناء على شكر الأم: فلا بد من أن يعود الأب أبناءه على شكر والدتهم، وذكر وتعداد محاسنها، فمقولة الجالسين للأم “جزاك الله عنا خيرا” تطيب نفس الزوجة المكدودة، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
- المشاركة في رفع المائدة: ومن التعاون أن يتشارك الجميع في رفع المائدة كما تشاركوا في تكوينها، ويا حبذا لو تشاركوا في غسيل الأطباق وترتيب الأواني كل في موضعه، فعن الأسود قال: سألت عائشة- رضي الله عنها-: ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصنع في أهله؟ قالت: “كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة” (البخاري) وفي رواية: قالت: “يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم”. وفي رواية أخرى: “ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه”.
إن التفاف العائلة على مائدة الطعام اليومية أحد أشكال الألفة والمودة بين أفرادها؛ فالسُّفْرة ليست مجرد أطباق وطعام يؤكل، وفي السابق، كانت وجبات الطعام جزءا لا يتجزأ من الحياة الأسرية، إذ كان أفرادها يعلمون أنه يجب عليهم الوجود في المنزل في أوقات معينة حتى يتمكّن الجميع من تناول الطعام على مائدة واحدة، وهو ما كان له الأثر الكبير في تربيتهم وتحسين سلوكهم للأفضل.
مصادر ومراجع:
- إسلام ويب: مائدة الأسرة .. ساحة فريدة للتواصل.
- منى خير: ما أثر غياب “المائدة الجامعة” على الصحة النفسية لأفراد الأسرة؟
- أميمة الجابر: ساعة الغداء.. وتواصل أفراد الأسرة.
- مي صالح: فوائد تربوية لمائدة طعام الأسرة.
- د. زهرة وهيب خدرج: هل الاجتماع على مائدة الطعام مهم لأفراد الأسرة؟
- المناوي: فيض القدير ص 6458.
إضافة تعليق