مهاب السعيد

كانت أول نصيحة تلقيتها من زوجتي عن تربية (لين) ابنتنا وأغربها هي: واحدة من أهم الأشياء التي لا يجوز أبدًا أن تحرم منها طفلك هي الملل!
أخذتني غرابة الفكرة ومنطقيتها ولكني لم أدرك مع ذلك مدى أهميتها في وقتها.
تحكي (ماري كوندو) اليابانية والتي هي من جيلنا تمامًا (38 عامًا) عن طفولتها حين كانت في الخامسة من العمر أنها كانت طفلة وسطى بين رضيع تهتم به أمها، وأخ أكبر كان متسمرًا أمام ألعاب الفيديو، فكانت تشعر بالملل طوال اليوم ولا تجد ما يسليها في المنزل بمفردها، والشيء الوحيد الذي كان متاحًا لها هي مجلات ESSE والتي كانت والدتها مشتركة فيها وكانت مليئة بمقالات تعليم الديكور الداخلي والتنسيق وتسهيل العمل المنزلي.
على الفور صارت هذه المجلة هي شغفها الوحيد، لسبب وحيد، لا يوجد شيء آخر في محيطها! فصارت شغوفة بمجلة منزلية أخرى شبيهة اسمها Orange Page تتصفحها سريعًا كل يوم وهي عائدة إلى منزلها، بعدها صارت مهووسة بالترتيب والتنسيق المنزليين، كانت تتسلل إلى حمام المنزل لتضع أواني لتوفير المياه، وتترك الأطفال يلعبون الغميضة بينما تنشغل بترتيب رف الكتب في صف المدرسة، أو التحقق من محتويات خزانة التنظيف.
كبرت ماري كوندو حتى وصلت إلى سن ال 26 لتكتب كتاب (سحر الترتيب) في 2010 وتنقل فيه هذا الهوس بالترتيب والتنظيم وتبتكر طريقة من وضعها أسمتها على اسمها (كونماري).
بيع من هذا الكتاب خمسة ملايين نسخة في 30 دولة في العالم وترجم إلى دستة من اللغات، وأتبعت هذا النجاح بثلاثة كتب أخرى على ذات المنوال كلها يتكلم عن الترتيب، مع قصص للأطفال وكتب مصورة تتناول ذات الفكرة.
ذاع صيتها في العالم، فتعاقدت معها نيتفليكس في سلسلة Tidying up with Marie Kondo في 2019 من 8 حلقات، وبعد نجاحها أنتجت لها سلسلة تليفزيونية أخرى في 2021 بعنوان Sparking joy من 3 حلقات.
يعرف الميم لوردز ماري كوندو بميم شهير لها بصورتين على الأولى مكتوب (This one sparks joy)، وعلى الثانية مكتوب (This one doesn't spark joy). وترشحت ماري لجائزة الإيمي، واختارتها مجلة التايم كواحدة من أكثر 100 شخصية مؤثرة حول العالم في 2015. وتبلغ ثروتها حاليًا حوالي 8 مليون دولار.
والآن تخيل لو كنت في ذات المنزل مع ماري الطفلة ذات الخمسة أعوام ووجدتها تشعر بالملل، فأخذتك الشفقة بها، وأعطيتها مسلسل رسوم متحركة شيق، أو قصص مصورة ممتعة، أو أعطيتها مثلًا.. هاتفًا ذكيًا عليه ما يكفي من الألعاب والفيديوهات المسلية حتى قيام الساعة؟!
لا يتكون الشغف لدى إنسان وخصوصًا الأطفال إلا بالملل. وفي دراسة قدمتها جمعية علم النفس البريطانية BPS في 2013 خلصت إلى أن الشعور بالملل يحفز الإبداع لأنه يساعدنا على أحلام اليقظة واجترار الأفكار.
نعطي أطفالنا وسائل مستمرة تجعلهم مشغولين على الدوام، فيما يشاهدونه، فيما يسليهم، نتخيل أن المشكلة تتوقف عند حد أنهم صاروا يصابون بالملل بسرعة ولا يصبرون دقيقة أو اثنتين من دون تلك المحفزات الخارجية الرائعة التي تتغلب بالتأكيد في روعتها على الواقع الممل المحيط بهم.
ولكن المشكلة الأكبر من ذلك، أنها أفقدتهم ذلك المحفز الذي خلقه الله من حولنا لإطلاق شرارة الإبداع والشغف الأولي في نفوسنا.
يٌنسَب لآينشتاين أنه قال أن الإبداع هو بقايا الوقت الضائع، وعبقري أوروبا ومؤسس عصر الحداثة الأول: رينيه ديكارت كان يعزو كل إبداعه لعادته في السهر ليلًا بمفرده أو البقاء في سريره حتى ساعات متأخرة بعد استيقاظه في الصباح، وقد ابتكر فكرة الإحداثيات في ذات ليلة مملة قضاها في غرفته وحيدًا يفكر في كيفية تحديد موقع هذه الذبابة التي تطن في فضاء الغرفة. بينما تحدث الكاتب الأمريكي المبدع نيل جايمان عن سر إبداعه فقال: "عليك أن تدع نفسك تشعر بالملل لدرجة أن عقلك ليس لديه ما يفعله أفضل من سرد قصة لنفسه"!
لا تأخذ من طفلك الملل فتأخذ منه معه كل شيء.
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة