الاختلاف بين الناس من ثوابت النظام الكوني، يُقِرُّه القرآن ويثبته العلم، ويشهد له التاريخ، فإنه ليس غريبًا اختلاف البشر؛ نظرًا لاختلاف ظروف معيشتهم وبيئاتهم، ومستوى وعيهم وثقافتهم، وتجاربهم وتصوُّراتهم، وكذا اختلافهم في العمر والخبرة في الحياة
الاختلاف بين الناس من ثوابت النظام الكوني، يُقِرُّه القرآن
ويثبته العلم، ويشهد له التاريخ، فإنه ليس غريبًا اختلاف البشر؛ نظرًا لاختلاف ظروف
معيشتهم وبيئاتهم، ومستوى وعيهم وثقافتهم، وتجاربهم وتصوُّراتهم، وكذا اختلافهم في
العمر والخبرة في الحياة، واختلاف الأمزجة والنفسيات والطبائع، زيادة على اختلاف الحجج
والبراهين والمسوغات.
فالاختلاف سُنة كونية، سنَّها الله تعالى لعباده لأخذ العبرة
والعظة، ولِما في ذلك من التدبر والتفكر في خلقه؛ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22]، فجعل الاختلاف آيةً من آياته؛ لتكون
لنا عبرة ودليلًا على عظيم خلقه، وقدرته الشاملة على خلق الأضداد، وإيجاد
المختلفين في كل شيء.
ومن ثَمَّ لا يُمكن جمع البشر جميعًا على كلمة واحدة أو رأي
واحد، وتلك مشيئة الله النافذة وسنته الجارية، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118، 119]؛ قال ابن كثير: "أي ولا يزال الخلفُ بين
الناس في أديانهم واعتقادات مِللهم ونِحلهم، ومناهجهم وآرائهم؛ قال الحسن البصري: الناس
مختلفون على أديان شتى، إلا مَن رَحِمَ ربُّك، فمَن رَحِمَ ربُّك غيرُ مختلف".
لذلك كان من الأمور البديهية في تركيبة العقل البشري؛ وجود
هذا الاختلاف، فإعمال العقول يؤدي دائمًا إلى تباين في الإنتاج الفكري والثقافي وتعدد
في الرؤى، وذلك بسبب تنوع الخلفيات الثقافية واختلاف زاويا الأنظار وطرائق الأفهام
بين الناس، فلكل واحد مقدماته العقلية وخلفياته الثقافية وسلسلة معقولاته التي يقيم
بها الأحداث ويزن بها الأمور، لذلك كان من الضروري قبول هذا الاختلاف والتباين الثقافي
والفكري واحترامه وإيجاد الصيغة الملائمة لتوظيفه وتحقيق أعظم استفادة منه.
ومن ثم يبرز دور المربين وأهل العلم في تكوين رؤية كاملة
لإدارة الخلافات الفكرية والثقافية، وتأطير هذا الاختلاف وجعله اختلافًا راشدًا إيجابيًا
يثري الحياة الفكرية والثقافية للمسلمين، ويحيي فضائل التفكير السوي في حياتهم مرة
أخرى، وذلك بإيجاد أرضية مشتركة قوامها الثوابت العقدية والشرعية ومبادئها العامة،
وهو ما يعني بعبارة أخرى "التنوع في إطار الاتحاد". ودون هذا الجهد التربوي
المستمر سيتحول الاختلاف إلى تضاد وتنازع ومصدر لفساد ذات البين، وربما حروب أهلية
وتطاحن، وشواهد التاريخ أكثر من الحصر في هذا المضمار تحديدًا.
عندما وعت الأمة قيمة سنّة الاختلاف بين الناس، وأحسن
المربون زرع قيم الاختلاف الراشد في عقول أبناء الأمة والأجيال المتعاقبة، نشأت
المذاهب الفقهية المتنوعة التي عاشت في تعايش وتكامل، وتيسير على الأمة، ورفع الحرج
عنها؛ لمرونة أحكام الشريعة الإسلامية، ومسايرة أحكامها لكل مستجدات العصر؛ لتستوعب
كل قضايا الناس في سائر الأزمنة والأمكنة، وظهرت المدارس العلمية التي أثرت الحياة
الفكرية والعلمية ليس للأمة الإسلامية فحسب، بل للبشرية جمعاء.
وعندما غابت مقاصد الاختلاف الأصلية، وغاب فهم هذه السنة
الكونية وكيفية عملها الراشد، وحلت الأهواء مكان العقول، ونسي المربون السبل
الراشدة لبناء ثقافة قبول الاختلاف ومراعاة التفاوت في الأنظار والأفكار، عندما
حدث كل هذا صارت الأمة إلى جماعات وأحزاب وشيع وفرق وطوائف تبدّع وتفسق بعضها،
وربما تكفر وتستحل دماء المخالفين، وكل ذلك باسم الدفاع عن الحق ونصرة الدين، وما
هو إلا تعصب وشطط وغلو ومعانٍ مغلوطة للولاء والبراء، وفهم خطأ وجهل مركب لمصطلح
الطائفة المنصورة وأهل السنة والجماعة.
ومن الآفات التربوية المعاصرة والتي كان لها دور كبير في
تعميق الاختلاف وارتفاع وتيرة حدته في السنوات الأخيرة، وتحوله من خلاف تنوع
وإثراء إلى خلاف تضاد وإغراق؛ احتكار الصواب.
واحتكار الصواب جريمة متكاملة الأركان يقوم بها بعض
المربين والدعاة وقادة العمل الإسلامي بحق الشباب الصاعد والناشئة.. جريمة يغرس
المربي بها في روع من يريبهم أن الصواب قيمة مطلقة لا يملكها إلا نحن ومن ينتمي
إلينا، ويقول بقولنا، ويسير في ركابنا!!
وإذا كان الشرع الحنيف قد حذّر تحذيرًا شديدًا من احتكار
البعض لأقوات المسلمين وجاء الوعيد على لسان الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-:
"من احتكر فهو خاطئ". [أخرجه الإمام مسلم]. وهذا في شيء يمكن أن يستعاض عنه،
ويوجد له حلول وبدائل، فما بالنا إذا وجد البعض وهم يرون الصواب والحق المطلق في ركاب
حركتهم، والسداد والحكمة لا تجري إلا على ألسنة قادتهم وأئمتهم، فكل رأي يخالف آرائهم
سقيم شاذ، وكل رؤية تخالف رؤاهم إما عليلة منبطحة ترضى الهوان والذل، وإما متطرفة مغالية
لا تعرف الواقع وستؤدي إلى نفق مظلم. فينشأ الشباب بهذا الفكر الجامد الذي يراوح مكانه،
ويحول الناشئة إلى نموذج كربوني فاقد للتفكير والإبداع والابتكار؛ إذ الحق مع قادته،
والحكمة في طريقته وحدها!!
والإشكالية الحقيقة أن القائمين على هذه الجريمة يحسبون
أنهم بذلك يحسنون صنعًا، وينصرون حقًا، ويحفظون دينًا، ولكن في الحقيقة يعمقون
خلافًا ويجذّرون شقاقًا ويزرعون شرًا وبيلاً مستطيرًا عانت من الأمة لقرون.
وحتى يتفادى المربون الوقوع في هذه الآفة المفسدة لعقول
ونفوس الشباب لابد من اتباع عدة خطوات مهمة تتعلق بضبط أمر الاختلاف بين الناس، من
أجل تأسيس العقلية القادرة على فهم الاختلاف وترشيده، والتعامل الناضج مع الأقوال
والآراء والأفراد المخالفين.
أهم هذه الخطوات:
1-تقدير القصور الذهني:
فالمربي لابد أن يؤصّل في تربيته للناشئة تقدير مدى
القصور الذهني لدى البشر، وعدم الاستهانة مطلقًا بحجم هذا القصور والوهم الذي يمكن
أن يكون عليه التفكير عند كل واحد منا، وفي الوقت نفسه ما يمكن أن يكون عند الآخرين
من الأفكار اللامعة والمفاهيم الممتازة، فالثقة المفرطة في النفس من أبواب الشر الواسعة،
وعدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهلكات عندما قال: "ثلاث مهلكات: شح
مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
وداء العجب من الأدواء القاتلة للقلوب والنفوس التي أعيت
الأطباء والحكماء، وعلماؤنا وأئمتنا كانوا أوعى الناس بهذه المسلمة العقلية، فقالوا:
"كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب"، ووعينا بأنفسنا
مقدمة ضرورية لوعينا بالغير، حتى ولو كان هذا الغير منافسًا ومخالفًا لنا؛ لذلك قال
المولى -جل في علاه- لخير رسله: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 55]، أي نحن نرشدك يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لسبل المجرمين
وطرائقهم التي قد تخفى عليك، فنبينها لك بوضوح حتى يكون الصراع معهم واضحًا خاليًا
من الخلط.
فلا أحد من الناس يحمل الحقيقة المطلقة والصواب المطلق، بل
ثمة دومًا احتمالية للخطأ والسهو والجهل، من ثمّ كان لابد من إيجاد خط للرجعة وباب
للتحول الفكري والمذهبي، والعقلاء فقط هم الذين يجعلون لأنفسهم طرقًا للرجوع، وأهل
البدع -وخصوصًا في باب العقائد- لم يجعلوا لأنفسهم هذا الخط، فالتزموا التزامات وأقروا
نتائج لمقدمات عقلية فاسدة عندهم، أوجبت عليهم الوقوع في أعظم وأخطر البدع، وردوا بهذه
المقدمات القرآن وصحيح السنة وإجماع الأمة.
2-الأرضية المشتركة قبل الغرف المنفصلة:
فمن آفات التفكير البشري التي انعكست على البرامج
التربوية والخطابات الدعوية؛ انتقاء السلبيات واكتشافها سريعًا ووضعها تحت المجهر،
أكثر وأسرع من رؤية الإيجابيات والتركيز عليها.
وهذه الآفة تدفع الإنسان للبحث أكثر عن مواطن الاختلاف قبل
معرفة مواطن الاتفاق، حتى ولو كانت مواطن الاتفاق أكثر من 90% من الفكرة أو الأطروحة
والرأي، وبسبب هذه الذهنية الانتقائية الانتقادية تفرعت عشرات الأقوال والمذاهب والجماعات
والأحزاب حتى صارت معقدًا للمفارقة والمفاصلة والولاء والبراء حتى بين العاملين لدين
الله -عز وجل-، فضلاً عن غيرهم من عموم الناس، وفي خضم ذلك جرى تعظيم شأن المختلف فيه
حتى ولو كان هينًا ومن حواشي ودقائق المسائل الفقهية أو الفكرية، وإن البحث عن المشترك
من أكبر الأمور المعينة على ردم الهوات الكثيرة والمتباينة بين الأفكار والرؤى والشعوب
والأجيال.
3-البحث عن البواعث:
فالبواعث هي القوى المحركة التي تدفع للحركة أو الفكرة
أو الرأي؛ فباعث الاختلاف يحدد بصورة كبيرة كيفية التعامل معه وترشيده.
فثمة اختلافات لو فتشت عن بواعثها لوجدت الهوى رابضًا في
الركن المظلم من المشهد، يدفع ويحرض ويحرك بأوجه كثيرة وأقنعة متغايرة!!
فمثلاً قد يكون الاختلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي
أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه،
وتارة لمجرد الاختلاف طلبًا للتمايز والتفرد، وتارة يكون من باب الانتقام أو
المكايدة.
وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل أشكاله ومختلف صوره؛ لأن
حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير، فهو مطية الشيطان إلى
الكفر، قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87]، فبالهوى
جانب العدل من جانبه من الظالمين، وبالهوى ضل وانحرف الضالون، وبالهوى ظهرت الفرق
المبتدعة والآراء الشاذة والأفكار المنحرفة.
ولاكتشاف تأثير الهوى في الاختلاف طرق كثيرة: منها أن
يكون الاختلاف مصادمًا للنصوص الصريحة من الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، أو يتصادم
مع مقتضيات العقول السليمة التي يقبل الناس الاحتكام اليها؛ لذلك لم يعتبر أهل العلم
بعض الخلافات الفقهية، وعدوها من قبيل الأقوال الشاذة التي لا يُلتفت إليها، ولا
يجوز الاعتراف بها فضلاً عن العمل بمقتضاها.
4-تفعيل مبدأ العذر:
من أكثر المبادئ الضابطة لفقه الاختلاف والحافظة لأخلاقه
وآدابه؛ مراعاة العذر، والعذر له أقسام كثيرة؛ أبرزها: العذر بالجهل الذي قد يغلب
على كثير من الناس، خاصة في أزمنة الفتن وتسلط الأعداء وتكميم صوت العلماء. وفي حديث
ابن ماجه عن حذيفة -رضي الله عنه-: "يُدرس الإسلام كما يُدرس وشي الثوب، حتى لا
يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسري على كتاب الله -عز وجل- في ليلة فلا
يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس -الشيخ الكبير والعجوز- يقولون: أدركنا
آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها". فيقول صلة بن زفر لحذيفة
راوي الحديث: "ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا
نسك ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تنجيهم من
النار. ثلاثًا". رواه الحاكم وصححه.
فعلى المربين والدعاة -مهما اختلفت مذاهبهم، وتعدَّدت مشاربهم،
وتنوَّعت آراؤهم وتباينت أفكارهم- أن يتراحموا فيما بينهم، ويزرعوا في قلوب من
يربونهم معاني أخوة الدين وثقافة الاختلاف وفقه التعامل مع المخالفين، حتى تغشاهم سحب
المحبة، فيرتشفوا معًا فرات المودة والتعاطف، ويستظلوا جميعًا بظلال الإخاء والوداد.
فيكبتوا ألدّ أعدائهم، ويبطلوا كيده القديم، فتأمن الأمة وتطمئن على مستقبلها
بنضوج أبنائها ورشدهم في التعامل مع الاختلاف.
إضافة تعليق