وتعد تربية الأبناء على محبة الأمة والعمل على نصرة قضاياها والشغف بها من تلك الأهداف التي توصلنا إلى الغايات العظيمة للتربية؛ فالتربية لقضية ما أو لهدف عظيم أو مشروع كبير يصنع من الجيل الناشئ أيقونات قوة.
غاية التربية أن تنشئ فرداً صالحاً صحيحاً جسدياً ونفسياً واجتماعياً؛
نافعاً لنفسه ولمجتمعه، فاعلاً إيجابياً متحركاً. ولما كانت هذه الغاية؛ كانت الأهداف
المنبثقة عنها والوسائل والطرائق المحققة لها شريفة وعظيمة، مخططة ومنظمة، واعية
ومدروسة لعظم هذه الغاية.
وتعد تربية الأبناء على محبة الأمة
والعمل على نصرة قضاياها والشغف بها من تلك الأهداف التي توصلنا إلى الغايات
العظيمة للتربية؛ فالتربية لقضية ما أو لهدف عظيم أو مشروع كبير يصنع من الجيل الناشئ
أيقونات قوة، وطاقات عظيمة، واستثمارات مذهلة موجهة لخدمة الفرد ذاته ومجتمعه وأمته،
بل والإنسانية جمعاء؛ فكيف إن كانت القضية هي أشرف القضايا وأعظمها، بل وأعمقها
وأجلها وأقدسها، ألا وهي قضية فلسطين بكل ما فيها من قدسية؛ المسجد والأرض
والإنسان.
كيف نربط أبناءنا بقضايا الأمة؟!
من امتلأ عقله بهذه الغاية وأُشبعت روحه حباً لها؛ تحرك فكره ووجدانه وجسده
باتجاهها بكل السبل، وابتكر أفضل الطرق وأنبل الوسائل. إن ربط الأبناء بالأمة وقضاياها
يحتاج من الوالدين التركيز على ثلاثة أبنية رئيسة ينطلقان منها ويعتمدان عليها:
· البناء الإيماني:
حتى يكون الغرس سليماً وريّه صافياً
وبناؤه أعمق وحركته أوثق وأبرك؛ كان لا بد من التربية الإيمانية منطلقاً في الربط
بقضايا الأمة.
فمنذ الطفولة الأولى يبدأ ترسيخ المفاهيم
الإيمانية وتعميق محبة الله في نفس الطفل، ربطه بأسماء الله وصفاته، والعيش في
معانيها والعمل بمقتضاها. يتزامن معها توثيق محبة رسوله الأمين محمد -صلى الله
عليه وسلم- الذي بلغنا رسالة الإسلام العظيم، فكان لنا غوثاً ونجاة، ومرجعيةً
ومنطلقاً في الحياة؛ وذلك من خلال سرد سيرته -عليه الصلاة والسلام- وصحابته والعيش
والتنعم في ظلالها، وربط محبة الله ومحبة رسول الله وصحابته بالعمل الصالح المنتج الفاعل
في الحياة، بناءً يستغرق حياة الفرد منذ الطفولة وحتى الرشد، بناءً يستوجب معه
توفير كل ما يقيمه ويقويه ويدعمه.
إن البناء الإيماني السليم يثمر روحاً
مُحبة؛ فمحبة الصالحين وأولياء الله، ومحبة المؤمنين أينما كانوا وحيثما وصلوا، بل
ومحبة الأمة الإسلامية جمعاء ثمار ذلك البناء المتين.
وإن هذا الحب لهو أعمق الحب وأقواه
وأوثقه؛ فمحبة الله تستوجب طاعته والامتثال لأوامره ونواهيه، ومحبة رسوله تستوجب
الاقتداء والاتباع، ومحبة الصالحين تستوجب الانتماء والولاء، ومحبة الأمة تستوجب الدعم
والنصرة...
وهذا يحتاج إلى جهد ومثابرة وعمل
منظم وبيئة سليمة يحرص عليها الأبوان، وتعمل من أجلها الأسرة جميعها.
نستظل مع أبنائنا في ظلال آيات
الله في كتابه الكريم، نتعلم معنى الاعتصام بالله، وكيف تكون الاستجابة له عندما
يأمرنا بـ(لا تفرقوا)، وأن الألفة الحاصلة بين المؤمنين هي محض نعمة : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ
النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
نعيش معاني الرحمة على المؤمنين وخفض الجناح لهم، وأن الشدة لا تكون إلا للكفار
المحاربين في آية: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم
مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ
فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ
عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا) [الفتح: 29].
والعيش مع أحاديث رسول الله
مدارسةً وفهمًا ووعيًا، فقول رسول الله ﷺ: "مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى". يقول النبي ﷺ: "المؤمن للمؤمن
كالبنيان يشد بعضه بعضًا". وشبك بين أصابعه. ويقول ﷺ: "من كان في حاجة
أخيه كان الله في حاجته". ويقول ﷺ: "والله في عون العبد ما كان العبد في
عون أخيه"...
أحاديث عظيمة تطرق على مسامع الفرد
ووجدانه، ويعايشها منذ هو طفل صغير يتعلم بالتلقين والمشاهدة والنموذج والربط
بالحدث، ثم إذا هو مراهق تطرق أوتار قلبه وترسخ في ذهنه، فإذا ما صار شاباً عاشها
حباً دافعاً لكل سلوك طيب نحو الأمة...
البناء الوجداني:
فكما أن الروح تُغذى بالبناء
الإيماني فهي تكتمل بالقيم والأخلاق، بل هي نتاج ذلك البناء ولا تنفصل عنه؛ فالرحمة
والعطف والتعاطف، الحب والبذل والعطاء، العدالة والإنصاف؛ قيمٌ يشملها الذكاء
الأخلاقي الذي يعتبره التربويون الغربيون ضرورياً في بناء الطفل النفسي والوجداني؛
لتعرُّف ما هو صحيح وما هو خطأ، وأن يسلك سلوكاً أخلاقياً بناءً عليه. وهذه القيم يعود
نفعها على الفرد نفسه وعلى مجتمعه وأمته والإنسانية جمعاء.
·البناء الفكري:
وهو المخزون المعرفي المتراكم عبر
سنوات التربية التي مر فيها الأبناء من خلال التنشئة الاجتماعية التي يتعرض لها
المتربي، سواء الخبرات الأسرية أو المدرسية أو المحافل الثقافية والمراكز التربوية
المختلفة، من خلال الأحداث والتفاعل معها، من خلال القراءة والمُدارسة والنقاشات.
وتعد الأسرة هي الركيزة الأولى والمصدر الأول في بناء فكر الأبناء، وهي المسؤولة
عن سلامته وقوته.
تلعب النماذج الفكرية الوالدية المُشاهدة من قبل الأبناء المصدر الأول
لتوجيههم وصقلهم فكرياً وربطهم بالأمة؛ حيث تفاعل الوالدين مع الأحداث والنقاشات
العائلية حولها، واهتماماتهما اليومية ومتابعاتهما، ومشاركتهما الفعاليات المناصرة
لقضايا الأمة، وإدماج الأبناء وإشراكهم بكل ذلك.
كما أن الحياة مع الأبناء في ظلال
السيرة النبوية واستلهام الدروس والعبر منها، والتعامل معها كمنهج حياة يعتبر
مجالاً خصباً لبناء الفكر القويم. ففيها مواقف ونماذج حافلة ألغت الفروق القائمة على الإقليم واللون والعرق بين الناس،
وأرست معايير جديدة للتفاضل والأخوة والارتباط والولاء والانتماء. وما ينطبق على
الوالدين في بناء فكر الأبناء ينطبق على المربين الذين يتفاعل معهم الأبناء في
العائلة الكبيرة والمدرسة والمسجد والجامعة، وما يبث في وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن أدوار الوالدين في صقل هذا البناء غرس حب القراءة في نفوس الأبناء
والشغف بها؛ حيث تعد القراءة من أهم المصادر التي ترفد الفكر وتغذيه وتصقله، وتمكّن
الفرد من مهارات عقلية وذهنية متقدمة؛ ما يجعل الارتباط بالأمة وقضاياها العادلة
مبنية على معرفة عميقة وبصيرة.
يتفاعل البناء الايماني والوجداني والفكري السليم لدى الفرد فينتج فرداً مميزاً محباً لأمته، مرتبطاً بها عقيدة وشعوراً وعملاً وحركة، باذلاً لها مضحياً في سبيلها، أمته التي لا تحدها حدود، يبكي الأقصى كما يبكي المسلمين في بورما وميانمار، يتحرق قلبه على أهل غزة كما مسلمي الصين، ينفق على فقراء إفريقيا كما ينفق على فقراء بلده، يقدم نفسه وماله ويستجيب لنداء الأخوة في أي مكان نصرة لإخوانه من أبناء أمته..
أشرف القضايا وأعظمها.. قضية
فلسطين أنموذجًا:
إن ربط الأبناء بقضية الأمة
المركزية: قضية فلسطين والمسجد الأقصى يحتاج إلى اهتمام خاص وتركيز أكبر؛ حيث إن
قضية فلسطين قضية دين وعقيدة، أقصى ومسرى، إنسانٌ وكرامة. قضية فلسطين هي قرآن نتلوه
في سورة الإسراء، وسيرةٌ نتدارس فيها الإسراء والمعراج وفتح الفاروق لها وعزّ
الإسلام فيها.
إن من تربى على محبة الأمة وحمل
همها وعمل على نصرة قضاياها، كانت محبة الأقصى في نفسه وعقله ووجدانه أوجب، والارتباط
به أعظم.
لذلك نعلم الأبناء قضيتنا الأولى
كما نعلمهم السورة من القرآن، نعلمهم فلسطين جغرافيا وتاريخًا، حضارة وعمارة،
نبوات وانتصارات، نعلمهم القدس والأقصى، المدن والقرى، نعلمهم فلسطين جبالها
وسهولها وبحارها.
نزرع فيهم أن فلسطين للأمة جمعاء،
وأن لهم حقًا فيها بكل ما فيها، كما هو حق الفلسطيني مهما كانت جنسيتهم، فهي أرض
الله ووقف للمسلمين.
نعلمهم تاريخ القضية وطبيعة
الصراع، مؤامرات الأعداء وكيد اليهود المعتدين. نسرد عليهم سير المجاهدين فيها
وبطولاتهم ومقاومتهم، ونقص لهم قصص البطولة والفداء والجهد والجهاد.
نعلمهم سورة الإسراء حفظاً وفهماً
وتدبراً وعملاً وبموعود الله لنا فيها كأمة بالنصر والتمكين.
نربيهم ونعلمهم أدوارهم في معركة التحرير وتطهير المقدسات واسترجاع الأرض ودحر أعداء الله، في كل منشط من مناشط الحياة مهما صغر أو عظم، إن أكلوا أو شربوا أو تعلموا أو تقدموا أو تميزوا، في كل مراحلهم العمرية، كلٌ بحسب مستواه النمائي نربطهم بذلك الهدف العظيم. نزرع فيهم حب الشهادة والاستشهاد في سبيل الله وأنها حياة ليس كمثلها حياة.
الدعم المعرفي للقضية وللثقافة
المقدسية:
تتطلب التربية لقضية الأمة تحقيق
التمكن المعرفي المعمق لها، والإلمام بكل ما فيها معرفة متكاملة: التاريخ
والجغرافيا، العقيدة والقداسة، الحقائق والوقائع، العائلات والديموغرافيا، القضايا
والحقوق، المعاهدات والمواثيق الدولية، الحروب والأسرى.
هناك العديد من المؤسسات والهيئات
والمبادرات التي تعمل على نشر الوعي وزيادة المعرفة المتعلقة بالقضية الفلسطينية،
والتي يمكن أن نعتبرها موئلاً لأبنائنا ومصدراً معرفياً موثوقاً يتبقى منه معارفه.
على سبيل المثال لا الحصر:
· مؤسسة جدي كنعان للمعارف المقدسية:
مؤسسة مميزة ورائدة تعنى بتقديم
المعارف المقدسية للأطفال بصورة مشوقة وجاذبة لربطهم بالقضية الفلسطينية من خلال
مطبوعات منوعة مثل: موسوعة فلسطين للأطفال، وألعاب مقدسية مختلفة وأنشطة منوعة
ومخيمات ودورات خاصة للأطفال. وهذا رابط الصفحة الخاصة بهم على فيسبوك: https://www.facebook.com/jaddy.kan3an/
· أكاديمية دراسات اللاجئين:
تعد الأكاديمية مصدراً موثوقاً ثرياً نافعاً للآباء والأبناء وخصوصاً المراهقين والشباب. وتعد الأكاديمية "قفزة نوعية في التعاطي مع قضية اللاجئين الفلسطينيين، لتعيد طرح قضيتهم بإطار أكاديمي، وتخدم حق الشعب الفلسطيني بأرضه، وتشكل حراكاً ثقافياً حول ثقافة العودة، وتخدم فئات كبيرة من العرب والمسلمين والأوروبيين من خلال إطلاعهم على تفاصيل هذه القضية". وهذا رابط موقعهم الإلكتروني: https://www.refugeeacademy.org/
كما أن هناك العديد من المؤسسات والمنظمات والحملات التي تعمل على نشر الوعي بالقضية الفلسطينية؛ حيث تولي الأطفال والمراهقين اهتماماً خاصاً، وتقدم لهم أنشطة خاصة بهم ضمن برامجها المتعددة، مثل: رابطة المرأة الفلسطينية في الخارج، وملتقى القدس الثقافي، حملة "كلنا مريم"... وغيرها من الحملات والمبادرات.
ختاماً..
التربية للقضية غاية عظيمة مباركة
تنعكس بركتها على تربية الأبناء، وتحقق مكتسبات تربوية كبيرة، فهي تنشئ شباباً
فاعلاً متحركاً مبادراً نشطاً، شباباً يتحمل المسؤولية، إيجابياً منخرطاً ومندمجاً
بكل ما هو نافع، ويظهر أقصى ما لديه من الإمكانات. التربية للأمة وللقضية يحتاج
إلى وضوح رؤية وصبر ودأب ومتابعة كما هي التربية عموماً.
إن وعي الجيل بقضايا أمته
والارتباط بها، يمكّنه من الإعداد والاستعداد النفسي والروحي والعقلي والفكري
والإبداعي لاستعادة الأرض والمقدسات في معركة التحرير بإذن الله..
إضافة تعليق