في مطلع كل عام هجري جديد، تستقبل الأمة الإسلامية هدية ربانية ومنحة سماوية من رب البريّة لعباده الموحدين، لتكون فرصة سنوية لتجديد معاني الإيمان التي تندرس وتبلى

في مطلع كل عام هجري جديد، تستقبل الأمة الإسلامية هدية ربانية ومنحة سماوية من رب البريّة لعباده الموحدين، لتكون فرصة سنوية لتجديد معاني الإيمان التي تندرس وتبلى مع معايشة الوسائط والبيئات الآكلة للقيم والمبادئ في عصر هيمنة فنون اللذة والخلود إلى الأرض.

في العاشر من شهر الله المحرم كانت البشرية على موعد مع واحدة من أكبر معجزات الله الباهرات ودلائل قدرته الشاملة، كانت البشرية مع موعد إغراق فرعون جنوده ونجاة موسى -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين، وهو المشهد الذي من روعته خلّده الله تعالى في القرآن الكريم في عدة مواضع وعشرات الآيات، لتكون عبرة وعظة للعالمين عبر العصور.

فهذه القصة وغيرها من قصص مصارع الظالمين الواردة في القرآن الكريم دلالة واضحة على أن الإسلام لا يريد أن يكون هلاك الطغاة حدثًا عاديًّا عابرًا يمحى من الذاكرة بمرور الأيام والسنين، إنما يريده أن يكون يومًا خالدًا معظمًا يعيش في ذاكرة البشرية ولا ينسى.

وعاشوراء (العاشر من المحرم) يوم عظيم من أيام الله تعالى احتفل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصامه وأمر بصيامه، وأمر بتمرين الأبناء على صيامه، حتى قالت الربيع بنت معوذ: أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان قد أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه". فكنا بعد ذلك نصومه ونصومه صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعب من العِهْن -الصوف-، فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناها إياه حتى يكون عند الإفطار".

ومن ثَم فيوم عاشوراء فرصة طيبة يجب أن تغتنمها الأسرة المسلمة للارتقاء بأبنائها خطوات على طريق التربية وغرس الإيمان في قلوب النشء.

لماذا نصوم يوم عاشوراء؟!

روى البخاري ومسلم عَنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهْوَ يَوْمٌ نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا للهِ، فَقَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ"، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا، قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ".

وعن فضل صيام هذا اليوم ورد في جزءٍ من حديث طويل في صحيح مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "...وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ". وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاس -رضي الله عنهما- قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ. يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ".

كيف نستفيد من عاشوراء تربويًا وإيمانيًا؟!

قصة مشوقة:

صيام عاشوراء لابد أن يكون فرصة رائعة للآباء والأمهات ليُبدوا حديثًا مشوقًا ذا طابع قصصي عن صيام هذا اليوم، وليكون أول حديثهم عن قصة نجاة موسى -عليه السلام- والمؤمنين من فرعون، والتفاصيل الكثيرة التي كانت في ثنايا رحلة موسى -عليه السلام- من البداية حتى النهاية، وهي مليئة بالعبر والعظات والأخبار المشوقة التي تجذب السامعين.

وتعد القصة من أقدم الأساليب التربوية التي تعمل على تنمية الفضائل في النفس، فهي السبيل للدخول إلى عالم الطفل، ويبقى أثرها في نفسه ووجدانه، فالطفل يستمع للقصة بكل حماس وشغف، فهي مصدر للمتعة والتسلية والتربية، فيقضي وقتًا ممتعًا في سماعها ومتابعة أحداثها، وبذلك تكون القصة لها أثر بالغ في حياة الطفل وتربيته، فالأطفال شغوفون دائمًا بالقصة مولعون بها، يتوحدون مع أبطالها، ويعايشون أحداثها، فعن طريقها تقدم الأفكار والخبرات والتجارب في شكل حي معبر مشوق جذاب مؤثر، وعن طريقها نثري المفردات اللغوية والقيم الاجتماعية والدينية لدى أبنائنا.

لذلك فعاشوراء فرصة لا تعوض لدى الآباء والأمهات لانتشال أطفالهم من أسْر الإنترنت ومواقع التواصل وشاشات التلفاز حيث أفلام الكارتون المليئة بالأفكار والقيم الغربية المنافية للإسلام والمروجة لنمط الحياة في الغرب وعاداته وسلوكياته الليبرالية، والأبطال الخرافيين والأساطير القديمة بكل ما تحمله من عقائد فاسدة وإلحاد وشركيات وتمجيد للشرور والانحراف.

دروس تربوية وركائز إيمانية:

وقصة عاشوراء نستطيع أن نعلم أبناءنا فيها الكثير من الدروس، وننمي فيهم كثيرًا من الفضائل والركائز الإيمانية؛ منها:

1-الإسلام دين كل الرسل:

فإننا نصوم ونحتفل بعاشوراء فرحًا وشكرًا لله -عز وجل- على إنجائه لعباده المؤمنين على الرغم من اختلاف الزمان والمكان والشخوص، فالجميع يربطه حبل واحد ويستظل تحت مظلة واحدة؛ الإسلام.

2-المحبة العابرة للجغرافيا والتاريخ:

فصيام عاشوراء يربي في قلوب المؤمنين المحبة بينهم ووحدة الهمّ والمصير، فبصيامه يتذكر الإنسان ذلك الحدث التاريخي الذي مرّ على إخوانه في الدين من بني إسرائيل من محاربة لهم وإيذاء على أيدي أهل الكفر، ثم نجاتهم وتخليد القرآن لخبر نجاتهم، فيعتاد الطفل على الفرح لأفراح المسلمين ولو كانوا في آخر بقاع الأرض، ويحزن لمصابهم.

3-الأخوة الجامعة:

 فصيام يوم عاشوراء يربي المسلم على أخوة الدين فقط؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أحق بموسى منهم"، وما ذلك إلا لرابطة الدين التي بيننا، وإلا فإن بني إسرائيل أقرب لموسى -عليه السلام- من حيث النسب. وبذلك ينشأ الطفل متحررًا من أسر الروابط الأرضية والمصالح الدنيوية، متحررًا من أفكار القومية والعصبية والشعوبية والوطنية... إلى آخر منتجات فكر الدولة الحديثة التي تجعل الولاء والبراء للوطن أو الدولة أو القبيلة أو اللسان أو العرق، وليس لله -عز وجل- كما أمر، وهذه النقطة تحديدًا من أكثر الأمور العقدية الواجب ترسيخها في قلب الطفل؛ لأن بغياب عقيدة الولاء والبراء تضيع بوصلة الطفل في حياته، ويتوه ويتخبط بين أفكار وأشخاص أبعد ما تكون عن الصلاح والدين.

4-شرف الانتساب:

 فصيام يوم عاشوراء يعلمنا أن الأمة الإسلامية المحمدية هي خير الأمم، وأولى الأمم بالأنبياء والمرسلين، لذلك قال رسول الله -صلى الله عليهم وسلم-: "أنتم أحق بموسى منهم". فأمة الإسلام هي الأمة الوسط الشاهدة على كل الأمم، وهي التي ستشهد لكل رسول على أمته أنه قد أدى الأمانة وبلّغ الرسالة. فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟! فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟! فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟! فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلغ -ويكون الرسول عليكم شهيدًا- فذلك قوله -جل ذكره-: (كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].

والطفل عندما يرسخ في عقله أن أمته هي خير الأمم والشاهدة عليهم، وأن شرف الانتساب إليها أعظم وأكبر من أي شرف آخر، ينشأ معتزًا بدينه وأمته، ساعيًا لنصرتها ورفعتها واستعادة أمجادها، مدافعًا عن كرامتها وعزتها، فينجو الطفل بذلك من حالة مبكرة للشعور بالدونية والانهزام النفسي أمام أضواء الغرب ولمعان حضارته المادية الفارغة.

5-حتمية التمايز:

 فصيام عاشوراء يعلمنا بجانب أحقية أمة الإسلام برسل الله، يعلمنا أهمية التمايز ومخالفة المشركين وأعداء الله، حتى ولو كان الأصل الجامع بين الفريقين واحدًا، وهو الاحتفاء بنجاة موسى -عليه السلام-؛ فمن تأمل الأحاديث في يوم عاشوراء تبين له أن أصل مخالفة المسلمين للمشركين أمر مقرر عند الصحابة، ويدل على ذلك أنهم لما علموا صيام أهل الكتاب مع صيامهم مباشرة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: "إن اليهود والنصارى يصومون هذا اليوم". بصيغة تعجب وتساؤل!! فكأنهم قالوا: أنت يا رسول الله علمتنا مخالفة اليهود والنصارى، وهم الآن يصومون، فكيف نخالفهم؟! فأمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بصيام يوم قبله، وقال: "لئن بقيت إلى العام القادم لأصومن التاسع".

فصيام عاشوراء يعلم أبناءنا حتمية مخالفة المشركين مهما كانت الروابط معهم، وهذه المخالفة تمتد لتشمل المظهر والمخبر، الظاهر والباطن، العقيدة والعبادة. لذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يربط في مناسبات كثيرة بين العمل ومخالفة المشركين. فقد أخرج أبو داود -رحمه الله- من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم". وقال أيضًا: "خالفوا الكفار، حفوا الشوارب وأعفوا اللحى". وقال أيضًا: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". والأمثلة كثيرة في هذا الباب.

6-شكر النعمة:

 فصيام عاشوراء واحد من أعظم تجليات نصر الله تعالى لعباده الموحدين وإنجائهم من كيد الكافرين، لذلك استحق أن يفرد بشكر من نوع خاص يناسب حجم وقيمة النعمة العظيمة؛ نعمة النجاة.

صيام يوم عاشوراء دليل على أن الشكر يكون بالفعل كما هو بالقول حتى عند الأمم السابقة، فقد صام موسى -عليه السلام- شكرًا لربه سبحانه، وهذا منهج الأنبياء جميعًا، فقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن طول صلاته بالليل، فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

فالطفل يتعلم من صيام عاشوراء أن ما به من نعمة فمن الله وحده، لذلك فهو وحده المستحق للشكر، فيصاحبه هذا الشعور طيلة حياته، ولو تشّرب قلب الصبي بعبادة الشكر، سيتعلم معظم القيم النبيلة والفضائل الراقية في التعامل مع الناس، فمن اعتاد شكر ربه، سَهُل عليه شكر الناس.

7-الجدية والاحتمال والصبر:

 ولعل ذلك من أظهر الأمور المستنبطة من الأحاديث التي وردت في صيام عاشوراء؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر المسلمين بصيام عاشوراء وحضهم عليه، ثم أمرهم بأمر غير اعتيادي بالنسبة لهم، ألا وهو تصويم الأطفال -على الرغم من المناخ الحار-؛ فقد قالت الربيع بنت معوذ -رضي الله عنها-: " أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان قد أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه". فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّمه صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعب من العِهْن -الصوف-، فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناها إياه حتى يكون عند الإفطار".

وفي الحديث فوائد كثيرة؛ أهمها: تدريب الأطفال على الصوم رغم مشاقه. والطفل إذا اعتاد أن يلبي له والداه كل رغبات فسيصعب عليه الانصياع لأوامر الله وتكاليفه، وسينشأ ضعيفًا خائرًا أسيرًا لعاداته ورغباته وشهواته، ومن هنا فتشريع صيام عاشوراء يربي الأطفال على الفطام مبكرًا، ليس الفطام من الطعام والشراب، ولكن الفطام من زينة الدنيا وجذبتها وغرائزها المستعرة ليل نهار.

والعجيب أن الغرب قد انتبه لموضوع التربية على الجدية والاحتمال مبكرًا؛ فجعلوا من ركائز النشاط المدرسي في مراحل التأسيس، عمل المعسكرات الكشفية وتعلم مهارات الحياة والبعد عن الرفاهية المتلفة للقلب والجسد.

وأخيرًا فإن تخليد المسلمين ليوم عاشوراء وتعظيمه إنما هو ليبقى المسلم دائمًا متفائلًا موقنًا ذاكرًا أنَّ الله منجز لعباده المؤمنين وعده، وموهن كيد الكافرين، وأنه لن يترك الأرض إرثًا ولا ضيعةً للفاسدين والمستكبرين؛ إنَّما هي حق لعباد الله الصالحين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة