لو أغمضت عينيك وأرجعت ذاكرتك إلى طفولتك وفكرت فيما أسعدك بالماضي، ما الذي ستتذكره؟ رائحة طبخ أمك وهي تعد طعامك المفضل، متعة التجول مع الأصدقاء في الطرقات، الذهاب لتناول الآيس كريم مع والدك يوم العطلة، الانتظار بفارغ الصبر لوصول أقاربك وأبناء عمومتك لقضاء إجازة ممتعة أخرى مليئة بالمرح معهم. حتى في أعياد ميلادنا، نتذكر الألعاب التي لعبناها أو الأصدقاء الذين لعبنا معهم.

قد نكون محظوظين بعض الشيء أكثر من أبنائنا في تخزين ذكريات هائلة، فسابقًا لم تكن الحياة بهذا القدر من الزخم والخيارات الواسعة التي تجعل الآباء حاليًا يتطلعون دائمًا لتلبية متطلبات الأبناء اللانهائية تماشيًا مع تطورات العصر. 

فبين الأعمال المنزلية التي لا نهاية لها، والجداول الزمنية المعقدة، والعمل، والمدرسة، أصبح من الصعب توفير مساحة لقضاء وقت ممتع مع أطفالك. وللأسف بهذه الوتيرة ستنتهي طفولة أطفالنا قبل أن نعرف قيمة ذلك وحتى قبل أن يدخر أولادك قدر من الذكريات التي تشكل طفولتهم ليتذكروها لاحقًا.

لماذا تعتبر صناعة ذكريات لأطفالك أمرًا مهمًا للغاية؟

كم منا يتذكر بالفعل الهدايا التي حصلنا عليها في كل حفل؟ أو ما هي الألعاب التي لعبنا بها أو ما هي الألعاب التي كان لدى أصدقائنا؟ إذا فكرنا في الأمر حقًا، فإن ما نتذكره ليس الأشياء المادية، بل المشاعر والعواطف المرتبطة بها. نتذكر تجربة اللعب مع شخص ما والشعور الذي خلقته بداخلنا.

لسوء الحظ، فإن الجداول الزمنية لدينا اليوم إلى جانب زيادة الدخل المتاح يقودنا إلى شراء المزيد من الممتلكات المادية لأطفالنا وقضاء وقت أقل في خوض هذه التجارب. لكن هذه التجارب هي التي تخلق ذكريات طويلة الأمد، والشعور الذي يتم التقاطه من خلال هذه التجارب هو الذي يبقى في قلوبنا وعقولنا.

وعندما يتعلق الأمر بأطفالنا، فبالتأكيد نريد أن نمنحهم العالم، نريد أن نوفر لهم كل ما يحتاجون إليه ونتأكد من أن حياتهم سعيدة ومرضية قدر الإمكان. ولعل أحد أفضل الأشياء التي يمكننا القيام بها لأطفالنا هو خلق ذكريات لهم تبقى معهم إلى الأبد وتجلب الابتسامة على وجوههم بغض النظر عن الحياة التي تعترض طريقهم. 

وعندما نجعل التجارب جزءًا من روتيننا اليومي، فإننا نضمن أننا نخلق ذكريات تقربنا من أحبائنا لما لها من أهمية قصوى في التنشئة الاجتماعية والصحية والذهنية على النحو التالي:

1.   تساعد الذكريات في تشكيل حياة أطفالك

الذكريات هي أدوات قوية يمكنها تشكيل كيفية رؤية أطفالنا للعالم ومكانتهم فيه. ومن خلال خلق ذكريات إيجابية، يمكنك مساعدة أطفالك على تطوير شعور صحي بالهوية، وبناء الثقة، وخلق المرونة. على سبيل المثال، إذا كان لدى طفلك ذكرى جميلة عن الذهاب في نزهة سيرًا على الأقدام مع العائلة، فبالتأكيد سينمو لديه شعور إيجابي بتقدير الطبيعة.

2.   الذكريات تخلق الفرح

الأطفال مخلوقات بهيجة بطبيعتها؛ فعندما نخلق لهم تجارب تجلب لهم السعادة الدائمة والوفاء، فإننا نمنحهم شيئًا قيمًا بشكل لا يصدق - أمرًا سيكونون قادرين على النظر إليه كبالغين بكل حب وامتنان. على سبيل المثال، الذهاب إلى أحد مراكز الترفيه العائلية لقضاء يوم من الضحك واللعب يمكن أن يخلق ذكريات تبقى معهم لسنوات.

3.   ذكريات تظهر حبك

يعد إنشاء ذكريات ذات معنى معًا إحدى الطرق لإظهار حبك لأطفالك؛ فبهذه الطريقة تخبرهم أنك تهتم بقضاء وقت ممتع معهم والتأكد من حصولهم على أفضل تنشئة وطفولة ممكنة.

4.   الذكريات تشجع النمو والتطور

الذكريات هي أداة قوية للتعلم؛ فعندما يكون لدى الأطفال تجارب إيجابية، يمكنهم استخدامها كمحك للمساعدة في توجيه قراراتهم وسلوكهم لاحقًا في الحياة.

5.   الذكريات تقوي الروابط العائلية

لا يوجد شيء أفضل من التجارب المشتركة لإنشاء رابطة قوية بين أفراد الأسرة. فمن خلال إنشاء الذكريات معًا، فإنك تساعد أطفالك على تطوير اتصال أعمق مع إخوتهم وآبائهم.

6.   الذكريات وعلاقتها بالتنشئة السعيدة

إن خلق الذكريات هو المفتاح لتشكيل تجاربنا وخبراتنا في الحياة. فكلما كانت ذكريات الطفولة سعيدة، انعكس ذلك على تنمية الثقة والإبداع والموهبة، مما يساعد الأطفال على التفوق في حياتهم مستقبلًا.

وفي هذا الصدد؛ وجدت الأبحاث التي نشرتها جمعية علم النفس الأمريكية مؤخرًا في مجلة علم النفس الصحي أن الأشخاص الذين لديهم ذكريات سعيدة عن الطفولة يميلون إلى التمتع بصحة أفضل واكتئاب أقل وأمراض مزمنة أقل مع تقدمهم في السن.

فعندما نخلق ذكريات سعيدة للأطفال، فسوف يستوعبون ذلك ويكبرون ليصبحوا شبابًا أصحاء قادرين على التعامل مع تقلبات الحياة. ولكي يكون المرء صلبًا، يجب أن يكون لديه شعور بتقدير الذات، وهذا سيأتي من الطمأنينة التي يقدمها الآباء للأطفال في سنواتهم الأولى.

7.   الذكريات وتأثيرها على الصحة العامة

يؤكد ويليام ج. تشوبيك، الحاصل على الدكتوراه من جامعة ولاية ميشيغان وصاحب الدراسة السابقة، على التأثير الإيجابي للذكريات الجيدة على الصحة والرفاهية مستقبلًا. 

فيميل الأشخاص الذين لديهم ذكريات جميلة عن الطفولة، وتحديدًا علاقاتهم مع والديهم، إلى التمتع بصحة أفضل واكتئاب أقل وأمراض مزمنة أقل مع تقدمهم في السن.

وتأكيدًا على ذلك من خلال الدراسة؛ تبين وجود علاقة إيجابية طردية بين الذكريات الجيدة والصحة المتوازنة لدى الشباب، بما يشمل جودة أعلى للعمل ونجاح العلاقات الشخصية، وانخفاض تعاطي المخدرات، وانخفاض الاكتئاب، والتعرض لمشاكل صحية أقل.

ينطبق الأمر نفسه على ذكريات تقديم الدعم وإظهار المودة في الطفولة. فمن خلال البحث، وجد أن الأشخاص الذين يتذكرون المزيد من المودة والمحبة من أمهاتهم خلال طفولتهم يتمتعون بصحة بدنية أفضل وأعراض اكتئاب أقل في وقت لاحق من الحياة. فأولئك الذين يتذكرون دعم آبائهم لهم في الطفولة كان لديهم أيضًا أعراض اكتئاب أقل.

كيف تصنع ذكريات حسنة وممتعة لأطفالك؟

الأطفال يكبرون بسرعة كبيرة؛ في دقيقة يزحفون في كل مكان، وفي الدقيقة التالية ترسلهم إلى العالم الخارجي للروضة أو المدرسة. لذا قد يبدو خلق ذكريات دائمة وقضاء وقت ممتع مع أطفالك بمثابة مهمة رائعة خاصة عندما تكون مثقلًا بالعمل والأنشطة الاجتماعية الأخرى. 

واطمئن!.. لن تحتاج إلى الكثير من البذل في سبيل تحقيق ذلك، فخلق الذكريات لا تحتاج إلى أن تكون احداثًا مفصلة، وإنما تكمن أفضلها في عفويتها وعدم التخطيط المسبق لها.

ولعل أفضل ما يمكن أن نقتدي به في صناعة ذكريات أبنائنا هو خير البشر سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فكيف كان يتعامل رسولنا مع حفيديه (الحسن والحسين)؟

كان يطيل بهم السجود وهما على ظهره الشريف، وكان ينزل من على المنبر ويحملهم وهما يتجهان نحوه، تٌرى كيف كان شعورهما آنذاك؟ وكيف أثر ذلك في صناعة ذكرياتهم مستقبلًا؟.

فالتربية الرحيمة ذات أثر فعال وحيوي في حياة أبنائنا، ومن ثم لا بد من تعزيزها بالمقومات التالية التي تحقق الأثر النبوي حينما قال صلى الله عليه وسلم: «أكْرِموا أوْلادَكم وَأحْسِنُوا آدابَهم»، وقوله كذلك ترغيبًا في الإحسان للأبناء: «لَأنْ يُؤَدِّبَ الرجُلُ وَلَدَه خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ»، والمقصود بالتأديب هنا هو التهذيب والتعليم بالمزيد من الحبٍّ والرحمة، كما كان يفعل نبينا وسيِّد الخلق.

ولعل من أبرز هذه الطرق الفعالة في خلق الذكريات مع الأبناء هي بعض القواعد والمفاتيح الذهبية في ضوء كتاب "فن صناعة الذكريات مع الأبناء" للخبير التربوي "عبد الله عبد المعطي" هي:

1.   الاستثمار في بنك العواطف الأسرية

انتبه دائمًا لرصيد مشاعرك مع ابنائك؛ فإنه بمثابة الادخار في البنك، فيمكنك أن تودع فيه ما يحب أبناؤك من أفعال ومشاعر، وكذلك يمكنك سحب هذا الرصيد من الحب بالجفاء وسوء المعاملة والإهمال.

ويمكن تعزيز مشاعر الود بين الآباء والأبناء على سبيل المثال من خلال:

·        مشاركة الأبناء وقت اللعب.

·        توجيه رسائل الحب والدعم ليل نهار من خلال الابتسام في وجوههم وتشجيعهم على الإنجازات.

·        شراء الهدايا وإعداد المفاجآت بدون أسباب ولكن دون إفراط.

·        التوقف عن النقد والتوبيخ واستبداله بالمدح أمام الأهل والأقارب والأصدقاء.

·        التنزه العائلي من شأنه يصنع المزيد من الذكريات الممتعة والمضحكة أحيانًا.

·        تسجيل مقاطع الفيديو والاحتفاظ بالصور التي تصنع الذكريات المميزة.

·        مناقشة الطفل ومشاركته لأفكاره ومشاكله، وكذلك توجيهه بالقصص.

·        احترام مشاعر الأبناء وعدم التصرف في ممتلكاتهم الخاصة كاللعب والملابس بدون استئذانهم.

2.   توقف عن السلوكيات والأفعال التالية

·        السفر لفترات طويلة والابتعاد عن الأبناء.

·        عدم التفاف العائلة حول المائدة يوميًا.

·        العصبية والشتم وضرب الأبناء على وجوههم.

·        الدعاء عليهم وتمني الموت بسببهم.

·        توبيخهم وفضحهم أمام الناس.

·        التكبر وعدم الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عندما يخطئ أحد الوالدين بحق أبنائهم.

·        الانشغال الدائم عن الأبناء وخاصة في معظم الأوقات واللحظات التي يحتاج فيها الأبناء للمشاركة أو الدعم.

3.   كن والدًا مبدعًا وتوقف عن النمطية

بلا شك يبذل الآباء جهودًا مضنية في سبيل تحقيق المتطلبات الأساسية في الحياة كالمأكل والمشرب ونفقات الدراسة وخلافه، وهذا لا يمكن إنكاره أو التقليل منه.

وإنما خلال هذه الرحلة يقع الكثير من الوالدين في خطأ شائع جدًا، ألا وهو إهمال الجانب النفسي والعاطفي للأبناء من خلال مشاركتهم المواقف التي تبني حاضرهم ومستقبلهم.

ولهذا يناقش كتاب "فن صناعة الذكريات" هذه المشكلة من خلال عرض مقترحات لتربية مبدعة وواعية لا تٌنسى ولو بعد مرور سنوات طويلة؛ منها:

·        الاهتمام بالجانب القصصي خاصة قصة قبل النوم وتأثيرها نفسيًا وعقليًا على نفوس الأبناء؛ فالأطفال يخزنون هذه اللحظات السحرية بالرغم من قصر المدة التي يقضيها الوالدين في سرد القصة يوميًا.

·        الاحتفاظ بأسرار الأبناء وعدم البوح بها حتى لو على سبيل المزاح، لأن هذا يقلل من ثقة الأبناء في والديهم.

·        صناعة جدار الذكريات من خلال مشاركة الصور وأبرز الذكريات ليتذكرها الأبناء دومًا مما يمنحهم الشعور بالسعادة طوال سنوات حياتهم.

·        الاهتمام بالأحضان طوال الوقت وخلال اليوم ولأكثر من مرة وخاصة في الأوقات التي يحتاج فيها الأبناء إلى الاحتواء أو التنفيس عن غضبهم.

·        كتابة عبارات الحب وتخبئتها في أغراض الأبناء الخاصة، كملابسهم وتحت وسادتهم وحتى صندوق طعامهم بالمدرسة ليكتشفها الأبناء ومن ثم يمنحهم الشعور بالحب والاهتمام.

·        بالطبع لا تنس الاهتمام بتلقين الأبناء بالدروس والآداب والمواعظ بالمزيد من الحكمة والمودة، فما يتعلمه وخصوصًا من غرس القيم الراسخة من شأنها أن تعزز قيمة الذكريات.

4.   تطبيق السنن النبوية التربوية لدعم تخزين الذكريات

سٌئل رسولنا عليه الصلاة والسلام: ما هي أحب الأعمال إلى الله، قال:"أدومها وإن قل". فبتطبيق السنن النبوية التربوية  بشكل ثابت ومتكرر بحب ومودة، تصبح أجمل ذكريات بمرور الوقت والسنوات.

ولعل من أبرز هذه السنن البسيطة ذات الأثر النفسي الفعال هي:

·        القبلات المليئة بالحب والرحمة  والشكر والامتنان وغيرها

ففاطمة بنت النبي رضي الله عنها كانت إذا دخلت على النبي قام إليها فقبلها (على جبهتها أو رأسها) وأجلسها في مجلسه. فما أروع هذا الاستقبال النبوي حتى في لحظات انشغاله ومهما كان جالسًا مع آخرين فلم يشغله ذلك عن هضم حق ابنته من هذه القبلة المليئة بالرحمة.

·        المسح على الرأس مع المزيد من إبداء التعاطف والمحبة.

·        الدخول على أهل البيت بالبشاشة والحضور والحب والابتسام.

·        وداع الآباء للأبناء في لحظات المغادرة من المنزل.

·        اصطحاب الآباء لأبنائهم إلى مجالس العلم؛ فبهذه الطريقة تمنح أبنائك فرصة لتصحيح أخطاءه وتعزيز شعوره بالقرب من والده وكأنه صديق مقرب.

·        تطبيق اللعب النبوي بأشكاله الخمس:

1.   الضحك والمزاح مع الأبناء.

2.   التنافس معهم وإجراء المسابقات.

3.   السماح لهم باللعب معك وممازحتك.

4.   التحدث معهم عن ألعابهم.

5.   السماح لأصدقائهم بزيارتهم في المنزل واللعب معهم.

·        الدعاء للأبناء دومًا سرًا وجهرًا أمامهم؛ فيقول رسول الله: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر".

بالطبع لا تنتهي هنا التوجيهات والمقترحات الرائعة التي ناقشها كتاب "فن صناعة الذكريات" للدكتور عبد المعطي وإنما ننصح بقراءته لما به من معلومات وأفكار مناسبة للتطبيق تحت أي ظرف ووضع.

وأخيرًا.. علينا أن ننتبه أن الكيف أهم من الكم، فلا يمكن أن تجتمع العائلة وكلٌ مشغول في عالمه الخاص سواء بهاتفه أو ألعاب الفيديو وغيره.

ظاهريًا قد تبدو الأسرة مجتمعة، وإنما واقعًا لن ترسخ بأذهان أبنائنا أي ذكريات خاصة حول اجتماع الأسرة وبالتالي لن نكون حققنا المطلوب.

ذكريات الأبناء وعاء يجب ملؤه بأمانة.. فإذا قمت بملئه بطريقة صحيحة، سنجني ثمارًا رائعة في نفوس أبنائك لاحقًا، سيتذكرونها مستقبلًا وسيكون لك الحظ الأوفر بالمزيد من الحب والدعاء.