لا تزالُ تذكُرُ هذا الموقف حتى بعد وفاته بسنوات، حينما سُئلَتْ عن أعجب شيء رأَتْه من زوجها، بل إنه أثّر فيها؛ حتى إنها لم تكد تذكر هذا الموقف حتى سكتت قبل أن تهيج لديها ذكريات زوجها المربي ..
لا
تزالُ تذكُرُ هذا الموقف حتى بعد وفاته بسنوات، حينما سُئلَتْ عن أعجب شيء رأَتْه
من زوجها، بل إنه أثّر فيها؛ حتى إنها لم تكد تذكر هذا الموقف حتى سكتت قبل أن
تهيج لديها ذكريات زوجها المربي، فقد سأل عبيد بن عمير -رضي الله عنه- أمّنا عائشة
-رضي الله عنها- فقال: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي.
قلت: والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرّك، قالت: فقام
فتطهّر، ثم قام يصلّي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره، قالت: وكان جالسًا
فلم يزل يبكي -صلى الله عليه وسلم- حتى بلّ لحيته، قالت: ثم بكى حتى بلّ الأرض،
فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك
ما تقدم من ذنبك وما تأخر!؟
قال: أفلا أكون عبدا شكورًا!؟
(لقد نزلت عليّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إن في خلق السموات والأرض...)
الآية كلها)". رواه ابن حبان في صحيحه ،وغيره، وصححه الألباني.
نعم..
هذا هو المربي الأسيف، بأبي هو أمي -صلوات ربي وسلامه عليه-، تروي أمّنا عائشة هذا
المشهد العظيم الذي يدلّ على رقّة قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لتعطينا أنموذجًا حيًّا
لما ينبغي أن يكون عليه المربي، وما ينبغي أن يكون حال قلبه في علاقته مع الله
تبارك وتعالى.
والحق
أن هذه الحالة القلبية من الأحوال المهمّة التي ينبغي أن يتعاهدها المربي في نفسه؛
لأنها وإن كانت سببًا من أسباب تزكية النفس، فهي عامل مؤثر من عوامل نجاح التربية،
فصلاح القلب وصفاؤه ينعكس
إيجابًا على سلوك الداعية والمربي، والعكس بالعكس.
نهتم كثيرًا بالوسائل، والأساليب، والتخطيط التربوي للبرامج التربويّة، والتعليميّة التي نسعى ونبذل فيها كل السبل التي تعود على المتربي بالنفع، والفائدة، وقد نلوم ونعاتب المتربي إذا قصّر، أو أهمل، أو فرّط في هذه البرامج، ولكن.. أين برامج الوعظ والتذكير الموجّهة لصلاح قلبه؟ وأين -قبل ذلك- الحرص القلبي لدى المربي على المتربي؟ أين رغبته الداخلية في دلالته على الخير؟ أين شفقته عليه وهو يراه مقصّرًا؟! أين قلبه الذي يتفطر ألمًا حين يراه معرضًا عن الخير، أو يُزهِر فرحًا واستبششارًا حينما يراه في صفوف المسارعين إلى الخيرات.
تأمّل
-أيها القارئ الكريم- هذا الموقف من حياة المربي الأسيف صلى الله عليه وسلم الدال
على رقّة قلبه؛ حرصًا على صلاح أمّته، ونجاتهم من النار، فعن عبد الله بن عمرو –رضي
الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله جل وعلا في إبراهيم: "ربّ إنهنّ أضللن كثيرًا
من الناس فمن تبعني فإنه منّي....الآية"، وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: "إن
تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم،" فرفع يديه، وقال: (اللهم أمّتي
أمّتي) وبكى، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمّد صلى الله عليه وسلم -وربك أعلم-
فسله ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره بما قال -والله أعلم- فقال الله: يا جبريل،
اذهب إلى محمّد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك". رواه مسلم في
صحيحه.
الله
أكبر... أي قلب هذا القلب! ما هذا البكاء الذي جعل ربّ العزة جلّ جلاله يأمر جبريل
بالذهاب لمحمّد، فيسأله عن سبب بكائه – وهو أعلم بذلك سبحانه – فيأتي الجواب: (أمّتي أمّتي).
يأتيه
جبريل فلا يطلب منه مصالح شخصية، أو أغراضًا دنيوية، إنما يقول: (أمّتي أمّتي)، ألم
يبلِّغ رسالته على أكمل وجه؟ ألم يؤدِّ الأمانة، وينصح للأمّة خير نصح؟ فماذا يضيره
وقد اختار الله له المقام المحمود؟
إنه
المربي الأسيف صلى الله عليه وسلم، وإنها الشفقة على الأمة في كمالها، والرحمة في أسمى
صورها.
والمتأمّل
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يجدها مليئة بمثل هذه المواقف، والأحداث الدالة
على رقة قلبه.
ورقة قلب المربي مطلب من المطالب الملحّة
لتزكية نفسه، وعمارتها بالإيمان، والخشية، وتعظيم الله.
ومما
يعين على ذلك، تحصيل الدواعي التي ترقق القلوب، ومن هذه الدواعي:
1. التفكير في ذنوب
العبد وأهوال يوم القيامة:
يقول صالحٌ المري:
" للبكاء
دواعي: الفكرة في الذنوب، فإن أجابت على ذلك القلوب، وإلا نقلتها إلى تلك الشدائد والأهوال،
فإن أجابت على ذلك، وإلا فاعرض عليها التقلب بين أطباق النيران".
وكان عمر بن عبد العزيز يومًا ساكتًا وأصحابه يتحدثون، فقالوا له: ما لك لا تتكلم -يا أمير المؤمنين-؟ قال: «كنت مفكرًا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها»، ثم بكى.
2. قراءة القرآن بتفكر
وتدبر:
فما قرأ عبدٌ القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها، والتأمل فيها رقيقًا، قد اقشعر قلبه، واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى.
3. مخالطة ضعفاء
المجتمع ومعايشتهم:
فذلك مما يصلح القلوب ويرققها ويعالِج تورماتها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلًا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه، فقال له: "إن أحببت أن يلين قلبك، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين". رواه أحمد، وغيره، وحسنه الألباني.
4. تعظيم الله وكثرة
ذكره ودعائه:
فإنّ
من عظّم الله، وتفكّر في أسمائه وصفاته، علم أنه مفتقر إلى الله في جميع شؤونه،
ومن ذلك دعوة الناس وتربيتهم، فالهداية من الله، فالمربي لا ملاذ له عن مولاه،
يستعين به على تربية من هم تحت يده، ويسأل الله لهم الهداية.
هذا أحد الآباء يحكي عن معاناته في حث ابنه على الصلاة في المسجد، وقد اتخذ لذلك من طرق الترغيب والترهيب ما اتخذ، وكان الابن في غاية الصلف والعقوق، فلم يملك هذا الأب بعد أن استشعر عجزه وافتقاره إلى مولاه غير أن يذهب إلى المسجد ويدعو الله له بالهداية؛ يقول: وأثناء دعائي إذ سمعت باب المسجد يفتح، وإذا بابني يدخل المسجد ويصلي، ثمّ يمسك بمصحف يتلو كلام ربه.
5. استشعار المربي للمسؤولية
التربوية والدعوية:
فعن
عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: جاء قوم إلى عمر يشكون الجهد، فأرسل عينيه بأربع،
ورفع يديه، فقال: «اللهم لا تجعل هلكتهم على يدي، وأمر لهم بطعام»، فهل استشعر
المربي حاجة الأمّة إليه في خضم الأمواج العاتية من الفتن التي تحيط بأبناء وبنات
الأمة، ثم لينظر إلى قلبه بعد ذلك.
هذه
بعض الأسباب المعينة على رقة القلوب، وقراءة سيرة المربي الأسيف صلى الله عليه
وسلم من أعظم ما يعين على ذلك.
أسأل الله أن يرقق قلوبنا، ويزكي
نفوسنا، ويصلح أحوالنا.
إضافة تعليق