دوائر منتظمة وحلقات من نور، دوي كدوي النحل يملأ المكان المبارك وشيوخ اقتطعوا من أوقاتهم في سبيل الله..ثم بعد بعض الوقت حركة ونشاط وحيوية وعلم ومسابقات ومنافسات
دوائر منتظمة وحلقات من نور، دوي كدوي النحل
يملأ المكان المبارك وشيوخ اقتطعوا من أوقاتهم في سبيل الله..ثم بعد بعض الوقت
حركة ونشاط وحيوية وعلم ومسابقات ومنافسات، وأحاديث تتردد هنا وهناك وأسئلة تتناثر
من عقول بريئة تسعى للعلم والمعرفة..هذا هو حال كتاتيب التحفيظ في المساجد التي
خرّجت عقولاً وقامات عالية من المفكرين والعلماء والأدباء من عصر النبوة المبارك
حتى هذا العصر..
قبل الإسلام:
في واقع الأمر، لم تكن فكرة الأماكن
التعليمية الملحقة بالمعابد مستحدثة في الإسلام، قيل أنها كانت موجودة عند
الفراعنة لتعليم الأطفال الخاصة، وعند المسيحيين في مدارس نصرانية ملحقة بالكنائس
والتي مازالت مستمرة حتى اليوم..ولكن مصطلح الكتاتيب أُطلق على الأماكن الملحقة
بالمساجد التي يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة والقرآن الكريم.
بعد الإسلام:
حث النبي صلى الله عليه وسلم على
العلم، وكان من أوائل ما فعله لنشر العلم والقراءة والكتابة بين المسلمين هو جعل
فداء أسرى بدر تعليم عشرة من المسلمين، وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (مَن جاءَ مَسجِدي هذا لم يَأتِهِ إلَّا لِخيرٍ يتعلَّمُهُ أو يعلِّمُهُ
فَهوَ بمنزلةِ المجاهِدِ في سبيلِ اللَّهِ ومن جاءَ لغيرِ ذلِكَ فَهوَ بمنزلةِ الرَّجُلِ
ينظرُ إلى متاعِ غيرِهِ) عن أبي هريرة في صحيح ابن ماجه.
ومع انتشار الإسلام وتوسع الدولة
الإسلامية توسعت فكرة الكتاتيب وتنظمت وأصبحت من الضروريات لتعليم المسلمين من غير
العرب القرآن الكريم واللغة العربية، وارتفعت مكانة اللغة العربية وانتشرت وكان
المعلمون والشيوخ يقدرون الألواح التي تُكتَب على الآيات القرآنية ويهتمون بها،
وأضيف على ذلك تعليم السنة النبوية الشريفة والآداب الإسلامية.
تنظمت عملية التعليم في الكتاتيب بشكل
أكبر في العصر الأموي، وكان كل طفل حين يتم الخامسة من عمره يذهب إلى الكتاب
ليتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن الكريم ويعرف أصول الإسلام من الصلاة
والوضوء والعبادات، حتى يتم عامه العاشر او الثاني عشر فيتجه لتعلم المهن والحرف
أو يكمل طريق العلم إن وجد منه شيوخه نباهة وذكاء واستعداداً للعلم كما كان الإمام
الشافعي رضي الله عنه حيث حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين. وكانوا يأخذون
بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عنواناً لهم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) عن
عثمان بن عفان، في صحيح البخاري..فكانوا يهتمون بتعلم القرآن وعلومه وتفسيره
وأحكامه وما يتبعها، وليس بحفظه فقط وترديده وتكراره..
أما أولاد الوزراء والخلفاء فكانوا
يُحضرون لهم شيخاً مربياً يعلمهم في منازلهم بشكل منفصل، ويهيأهم للحكم والسياسة
فيعلمهم إضافة لعلوم الدين بعض الفلسفة والتاريخ، وأيضاً كانت الكتاتيب تركز على
احترام اللغة العربية واحترام المربي الذي كان بدوره يعرف أن هؤلاء الأولاد أمانة
عنده يعلمهم ويوجههم ويؤدبهم حتى أنه سمي في بعض الفترات (المؤدب)، فهذا الإمام الحجة
أبو حامد الغزالي يضع فصلاً في كتابه القيم "إحياء علوم الدين" بعنوان
"بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول نشوئهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم"،
ومما جاء فيه: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبيان
أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل
لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمْهُ نشأ عليه،
وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر،
وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القَيِّم عليه والوالي له.
وقد وصل عدد طلاب بعض الكتاتيب إلى
ثلاثة آلاف طالب في كُتاب أبي القاسم البلخي، وكانت مساجد قرطبة تعج بطلاب العلم
الذي حول المسجد إلى ما يشبه الجامعة لكل العلوم الدينية والدنيوية يأتون إليها
مسلمين وغير مسلمين من أوروبا لتعلم الطب والفلك وكافة العلوم.
الكتاتيب في العصر الحديث:
تقول الدكتورة سهير السكري -الخبيرة
الدولية في علوم اللغويات وتنمية ذكاء الأطفال- تستطيع الكتاتيب أن ترفع الحصيلة اللغوية
للطفل إلى أكثر من خمسين ألف كلمة قبل بلوغه سن السبع سنوات! مما يساهم في تنمية ذكائه
وتعزيز قدراته، وهذا ما لم تستطع دور الحضانة الحديثة تحقيقه.
منذ بداية القرن العشرين تقلص دور
الكتاتيب خصوصاً في المدن على حساب المدارس التي انتشرت مع دخول الثقافة الغربية
وطغيانها على الثقافة العربية الإسلامية، وأصبحت هي أساس العلم والتعليم واقتصر
دور الكتاتيب على تحفيظ القرآن الكريم وبعض العلوم الدينية والأحاديث الشريفة.
والتي بدأت تقل بالتدريج وتتحول إلى مجرد مراكز تستقبل الأطفال في العطل الصيفية
لانشغال الأطفال في الدراسة خلال بقية العام، مما سبب تراجع العلوم الدينية عند الجيل
الحالي وانحسار الثقافة الإسلامية عندهم والتي أصبحت تؤخذ من التلفاز والشبكة
العنكبوتية فيما بعد بدلاً عن الشيوخ والمعلمين.
فأصبحت الكتاتيب عبارة عن حلقات
صغيرة في بعض المساجد تُقام في أوقات محددة يكتفون بها بتعليم الطفل بعض السور من
القرآن الكريم وبعض الأحاديث الشريفة، أو يكون حفظ القرآن الكريم مجرد حصة ضمن
الحصص الدرسية في المراكز التعليمية..
ومع تطور التعليم وانتقال جزء كبير
منه إلى التعلم عن بعد وخصوصاً في السنتين الأخيرتين بعد تفشي وباء الكورونا،
انتقل جزء كبير من حلقات التحفيظ إلى الانترنت وتحول الكتاب من حلقة في المسجد إلى
مجموعة على برنامج الزوم أو الواتس أو أي برنامج تواصل اجتماعي آخر..وتحولت نظرة
الأهل والطفل إلى هذا المكان المقدس، فلم يعد بالنسبة للطفل مرجعاً روحياً ومربياً
أخلاقياً يأخذ منه، بل مادة إضافية مثل المواد الدراسية العلمية، يُخصص لها وقت
محدد مع مدرسة خصوصية سُميت بالمحفظة أو شيخ يجلس مع الطفل يلقنه آيات القرآن
الكريم ويتأكد من حفظه لها وينتهي..
فهل تُعتبر المقارنة بين حلقات الحفظ في المساجد ودورس التحفيظ على النت عادلة؟...في الحقيقة هي ليست كذلك، فهي كما صرّحت إحدى محفظات القرأن الكريم كالفرق بين التربية والتعليم..وجاء هذا التعليق ضمن عدة تعليقات أيدت الحفظ في المساجد على الحفظ عبر الانترنت عبر استبيان قمتُ بعمله على عدة مجموعات على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، لأستشف آراء الأهل والمدرّسات في هذا الأمر، وكانت النتيجة 90% مع التحفيظ في الكتّاب، و10% فقط هم رأوا أن التحفيظ عبر الانترنت يفي بالغرض من أصل 744 مشاركة، ويمكن تلخيص المقارنة في نقاط عدة:
1- الخلط بين التربية في الكُتّاب والحفظ:
بعض الأهل بات يعتبر حفظ القرآن
مادة علمية مثلها مثل الرياضيات والعلوم في المدرسة، فإن تواجدت في المدرسة فهو
خير وبما أن أغلب المدارس ليس فيها هذه الحصة، فاستبدلوها بمدرّسة خصوصية بلقب
محفظة تحفظ الطفل القرآن الكريم دون أي دروس دينية أخرى..فيكبر الطفل وهو يفصل بين
دينه وحياته كأنه أمر لا علاقة للحياة به..
فالكتاتيب تربي في الطفل الخلق الإسلامي وتزكيه وتعوّد نفسه وقلبه على حب الله وتضع هذا في أولوية حياته وتجعلها جزءاً كبيراً منه أو هي همه الأول كمسلم فاعل في مجتمعه، وتخلق علاقة مهمة بين الطفل والمسجد فيصبح جزءاً من شخصيته ويساعده على المواظبة على الصلاة فيه، فيكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (قلبه معلق بالمساجد، لا يخرج منه حتى يعود إليه)..
2- الحفظ عبر الانترنت حل مشكلة كبيرة في زمن تغرّب فيه الكثير من المسلمين:
بعد أن تناثر المسلمون في أنحاء
العالم، أوروبا وأمريكا وفي ظل حياتهم في مجتمعات غير مسلمة كان لابد من وسيلة
تربط الطفل المسلم بدينه ولغته، وفي ظل بعد المسافات وقلة المراكز الإسلامية فكان
الانترنت حلاً رائعاً لهم وبديلاً ممتازاً ليبقوا على ارتباط نفسي وقلبي بإسلامهم.
وأيضاً بعد انتشار وباء الكورونا وتحول التعليم العادي إلى الانترنت كان أيضاً حلاً جيداً بدل الانقطاع المستمر والذي قد يكون غير جيد مع كم التحديات التي تقابل المسلمين من شبهات كثيرة وتشكيك بالإسلام وأحكامه، فهذا التواصل المستمر والارتباط بالقرآن الكريم وقاية بإذن الله للأطفال والشباب من الوقوع في فخ الإلحاد.
3- المشافهة في علوم التجويد مهمة جداً
فالصوت عبر الانترنت غالباً ما يأتي
مشوهاً غير واضح مما يسبب غياب الكثير من المخارج الصوتية وأحكام التجويد، وحفظ
القرآن الكريم يتطلب الإتقان والتركيز على المخارج لأن اختلاطها يسبب خلطاً في
الكلمات وبالتالي قد يسبب خلطاً في المعاني، وعدّ بعض علماء التجويد هذه الأخطاء
من اللحن الخفي في التلاوة.
وقد كان العلماء والمسلمون يسافرون أشهراً ليستمعوا لحديث شريف من صحابي سمعه من رسول الله، أو يتعلموا على يد عالم مهم علماً دينياً ما، وهذا كان في زمن لا توجد فيه وسائل النقل الحالية، فلا بأس من سفر لعالم أو مقرئ لمرة في سبيل الله للقراءة على يديه وتصحيح التلاوة بعد الحفظ عبر الانترنت.
4- تجارب ناجحة عبر الانترنت
التعميم بعدم جدوى الحفظ عبر
الانترنت أمر غير منصف، فهناك تجارب ناجحة استطاعت أن تربط الأطفال بالقرآن
وتشجعهم بوسائل مختلفة على الحفظ والمتابعة معهم دون إشعارهم بالملل لعدم التواجد
الفيزيائي، فالطفل بطبعه ملول لا يحب الجلوس والاستماع فقط دون المشاركة
والحركة..وهذه من عقبات التعليم عبر الانترنت.
وفي النهاية، فإن في المساجد بيوت الله حالة روحية لا يعرفها
إلا من جربها، ومن ذاق عرف، وفي جلسات الذكر وتدارس القرآن وعلومه سعادة ما بعدها
سعادة، ففيها يتحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قومٌ مجلسًا يذكرونَ
اللهَ فيه إلَّا حفتهُم الملائكةُ وتغشتهُمُ الرحمةُ وتنزلَتْ عليهم السكينةُ وذكرَهُم
اللهُ فيمن عندَه"
الراوي : أبو سعيد الخدري وأبو هريرة
إضافة تعليق