إنّ من أفضل نتائج تعليم الطّفل في الصّغر هي تعويده طلب العلم وغرس حب العلم في نفسه، حيث يزداد لديه شعور عميق بالفضول والرّغبة في التعلم واكتشاف العالم من حوله، فيطرح الأسئلة ويستكشف الأفكار الجديدة والتحديات، ويُقبِل على الدّراسة بحبّ وتفانٍ، فيحصد خيري الدنيا والآخرة.
وتربية الصغار على حُب الدراسة والتعليم، عملية تتطلب ربط العلم بالحياة اليومية لهم عبر الأنشطة والألعاب والتجارب العملية، وتشجيعهم على طرح الأسئلة، وإظهار الاهتمام بالعلم والحرص على قراءة الكتب والمجلات العلمية أمامهم، واصطحابهم إلى المتاحف والمواقع العلمية.
طرق تربية الأبناء على حب العلم
وتتعدد وسائل وطرق تربية الأبناء على حب العلم والدّراسة في مراحل العمر المختلفة، ومنها ما يلي:
- غَرسْ حب التّعليم في نفس الطفل منذ الصغر: فقد حرص الصحابة ومن تبعهم وأصحاب الحديث على تعليم الصغار، فهذا الحسن يقول: “قدموا إلينا أحداثكم فإنهم أفرغ قلوباً وأحفظ لما سمعوا”.
- حفظ الطفل قسمًا من القرآن والسنة: ولا بد من تحفيظ الطفل القرآن الكريم، فهو النور الذي سيضيء له طريق العلم والفلاح، كما أن دراسته في الصغر أصل من أصول الدين. قال الحافظ السيوطي: “تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام فينشأون على الفطرة ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال”.
- اكتشاف مواهب الطفل وتوجيهها: فعلامات النجابة ومخايل العبقرية تظهر في الصغر، لذلك ينبغي محاولة اكتشاف المجال الذي يتفوق فيه الطفل ويحبه وتوجيهه إليه، بعد حفظ القرآن الكريم والسنة المطهرة واليسير من العلوم النافعة.
- اختيار المعلم الصالح والمَدْرَسَةِ الصالحة: فالمعلم الصالح قادر على صياغة الطفل ومساعدته في صناعته كعالم، بحيث يكون في هذا المعلم كل شروط القدرة.
- إتقان الطفل اللغة العربية: لأنها لغة القرآن ومفتاح كل العلوم، وكلما قوي الطفل في اللغة كانت قوته سببًا في الخوض في أي علم من العلوم التي يرغب في تعلمه وأحب أن يكسبه. واللغة العربية حفظها السلف الصالح وكانوا يربون أولادهم في البادية حتى لا تضطرب لغتهم.
- ربط الطفل بالمسجد ودروس العلم فيه: فالمسجد هو الصرح الذي يبني الأجيال تلو الأجيال من العلماء، ولقد كان وما زال هو المصدر لأجيال باعوا أنفسهم لله وساروا على منهجه يدافعون عنه وينشرون علومه. لهذا عني أطفال الصحابة بالصلاة في المسجد، وطالب النبي- صلى الله عليه وسلم- أئمة المساجد أن يخففوا من الصلاة رأفة بالأطفال والأمر الذي يدل على جواز صلاة الأطفال وأخذهم للمسجد وأهمية ربطهم به لكي يشبوا مرتبطين ببيوت الله ولكي يتلقوا في جنباته العلوم النافعة.
- المكتبة المنزلية: وهي من أهم الوسائل التي تدفع الطفل للعلم وتساعده في طلبه، لذا يجب توفيرها حتى لو كانت بسيطة.
- استخدام القصة ورواية طفولة علماء السلف في طلب العلم أمام الأطفال: لأن القصة لها دور كبير في شد انتباه الطفل ويقظته الفكرية والعقلية وتحتل المركز الأول في الأساليب التربوية المؤثرة في عقل الطفل لما لها من متعة ولذة. يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف: 111].
- البقاء مع الطفل: فالبقاء مع الطفل في المنزل، وتوفير الجو المناسب للدراسة، والامتناع عن مشاهدة التلفاز في أثناء أوقات تحصيل العلم، وتحديد وقت الخروج والزيارات، وتحديد مواعيد الغداء والعشاء، مما يوفر التركيز على دراسته، ويجعل الطفل يتخلص من التشتت، فيحب العلم ويقبل عليه.
- التركيز على التعلم لا على العلامات: فعلى الرغم من أن المُعدّل المرتفع أمرٌ مطلوب، لكنه قد يُصبح كارثيًّا عندما يكون هو الأولوية والاهتمام الوحيد، فقد يصعب على الطفل تحقيق العلامات العالية دومًا، أو يصعب عليه أن يكون الأول في المدرسة.
- مشاركة الطفل رحلته في التعلم: فلا بد من أن الطفل سيحتاج إلى مشاركة أفكاره وترتيبها، وسيحتاج إلى الافتخار بإنجازاته ومعلوماته الجديدة التي حصل عليها.
- تحديد المشكلات والعقبات: سؤال الطفل عمّا إذا كان يُواجه مشكلة ما في المدرسة، أو في مادة معينة، لنُساعده في اكتشاف المشكلة مبكرًا لإيجاد الحل بأسرع وقت.
- مكافأة الطفل: فمن الطبيعي أن يحب الأطفال اللعب والمفاجآت والهدايا، لذا بإمكاننا استغلال ذلك في جعلهم يحبون العلم والدراسة أكثر، بالاتفاق معهم على جائزة مرضية إذا أنجزوا جانبًا من دراستهم، أو حل واجباتهم المدرسية.
- مساعدة الطفل على التخلص من التوتر: فيصعب علينا جميعًا العمل والإنجاز إذا كنا نشعر بالتوتر وكثرة الضغوطات، لذا لا بد من أن نساعد الطفل في تحديد المشكلات أو الأمور المزعجة التي تشكل عبئًا عليه.
- لا نجعل التعلم عقابًا: وذلك من خلال التوبيخ أو الصراخ في كل مرة نساعده فيها الصغار على الدراسة وتحصيل العلم، لأن ذلك سيرتبط بعقلهم الباطن أن الدراسة بحد ذاتها، هي السبب وراء غضب الوالدين، ما سيجعلهم يتهربون من الدراسة بفعل أي شيء.
- نجعل التعلم وقتًا ممتعًا: باللجوء إلى عدة طرق تضيف المتعة إلى الدراسة، بهدف زيادة حب الأطفال لها، وإيصال المعلومات بشكل أفضل، ومن الممكن أن يكون ذلك عن طريق الألعاب التعليمية، إذ يمكن شراء المجلات والألعاب الورقية، أو حتى الاستفادة من التكنولوجيا، بتحميل الألعاب والفيديوهات التعليمية.
- تعريف الطفل بأنواع العلوم المختلفة: فهذا يجعله ينتقي العلوم التي يميل إليه قلبه، فيتوسع فيها ويبدع ويبتكر.
- المثابرة: وذلك في تشجيع الأطفال على حب العلوم، فغالبا ما يأتي الحب والتقدير للعلم في وقت لاحق من الحياة حين يتعرف الأطفال إلى أنواع مختلفة من العلوم.
- التعرف إلى العلماء: لمساعدة الأطفال على تعلم حب العلوم.
- تجارب علمية في المنزل: يوجد عدد لا يحصى من الكتب والمواقع الإلكترونية التي تشرح بالتفصيل التجارب العلمية التي يمكن القيام بها مع الأطفال في المنزل، وهو ما يحببهم في العلم والدراسة.
- التدرج في التعليم: بمعنى نأتي معهم بالعلم شيئًا فشيئًا، وهذا يعني أيضًا معنى من المعاني التي ذكرها العلماء والمفسرون في قضية: (وَكُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران:79]: فالرباني: الذي يربّي الناس بصغار العلم قبل كباره.
- تجربة تعليم غير مشروطة: بتشجيع الطفل على الخوض في التجارب التعليمية دون إلزامه أو تقييده بشروط معينة، ونترك له مساحة كافية للتخيل، وربط المعلومات والأفكار بالطريقة التي يجدها مناسبة له، فهذا سيجعله يشعر بالراحة الكافية للتعبير عن رأيه فيما تعلم.
- تقديم أنماط التعليم المختلفة: فكل شخص لديه تفضيلات معينة، وطرق تناسبه في التعلم والدراسة، إذ إن بعض الأطفال يفضلون نمطًا معينًا في التعلم، وبالمقابل فإن بعض الأطفال يحبون المزج بين الأنماط المختلفة، وإن الحالتين صحيحتان، فلا يوجد نمط معين صحيح ليتبعه الجميع، فالبعض يحب التعلم البصري، إذ ستجده يفضل التعلم عن طريق مشاهدة الصور التوضيحية، والفيديوهات التعليمية، بينما تجد أن مجموعةً أخرى تحب التعلم السمعي، إذ لا تفضل القراءة وحدها.
نماذج تربوية عن حب العلم
كثيرة هي النماذج التربوية التي تكشف عن مدى حب العلم والتعلم في التاريخ الإسلام، من ذلك:
- عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، قال: “كنت أنا وجارٍ لي من الأنصار، في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزل جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك” (البخاري).
- وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: “لما تُوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قلتُ لرجل من الأنصار: يا فلان، هلمَّ فلنسأل أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا بن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- مَنْ ترى؟! فترك ذلك، وأقبلتُ على المسألة… قال: وكان ذلك الرجل بعد ذلك يراني، وقد ذهب أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، واحتاج الناس إليَّ، فيقول: كُنتَ أعقلَ مني يا بن عباس” (البخاري).
- وعن عروة بن الزبير- رضي الله عنه- قال: “قالت لي عائشة: يا بن أختي، بلغني أن عبدالله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج، فالْقَه فاسأله؛ فإنه قد حمل عن النبي- صلى الله عليه وسلم- علمًا كثيرًا، قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-“، (مسلم).
- وروى أبو هريرة- رضي الله عنه-: “إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشبع بطنه، ويحضُرُ ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون” (البخاري).
- وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-، قال: “والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولا أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه” (البخاري).
- وقال عبد الرحمن بن قاسم العتقي المصري أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما: كنت آتي مالكا غلسا- يعني: في آخر الليل- فأسأله عن مسألتين أو ثلاث أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتيه كل سحر، فتوسدت مرة عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء له برجلها، وقالت لي: إن مولاك قد خرج، ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة.
- وهذا الإمام الحازمي- رحمه الله- كان يدخل بيته في كل ليلة، فيطالع في الكتب ويصنف إلى الفجر، فقال أحدهم لخادمه: “لا تدفع إليه زيتًا للسراج، فلعله يستريح الليلة، فلما أقبل الليل، طلب الحازمي من خادمه زيتًا ليوقد السراج، فاعتذر إليه بانقطاع الزيت، فدخل الحازمي -رحمه الله- بيته وصفّ قدميه يصلي لله في الظلام حتى طلع الفجر”.
- وخرج البخاري إلى الحج وهو في السادسة عشرة من عمره مع أمه وأخوه، فلما أتموا المناسك عادت أمه وأخوه وبقي لطلب الحديث والأخذ عن الشيوخ، وظل في الحرمين الشريفين ستة أعوام ينهل من شيوخهما، ثم انطلق إلى حواضر العالم الإسلامي يتكبد مشاق السفر والانتقال.
- وقال أبو إسحاق المرادي: “جاورت الحافظ المنذري- رحمه الله- ثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلةٍ من الليالي في ساعة من ساعات الليل، إلا وجدت ضوء المصباح في بيته، وهو مشتغل بالعلم، حتى كان في حال الأكل والكتب عنده يشتغل فيها”.
- وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم- رحمه الله-: “كنا بمصر سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ، وبالليل: النسخ والمقابلة. قال: فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا، فاشتريناها ، فلما صرنا إلى البيت، حضر وقت مجلس، فلم يمكنا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام، وكاد أن يتغير، فأكلناه نيئا، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه. ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
- وهذا ابن القيم- رحمه الله-، يقول: سمعت شيخنا أبا العباس ابن تيميه- رحمه الله يقول- وقد عرض له بعض الألم- فقال له الطبيب: أضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر، فقال: ألستم تزعمون أن النفس إذا قويت وفرحت أوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع العارض؛ فإنه عدوها، فإذا قويت عليه قهرته؟ فقال الطبيب: بلى، فقال إذا اشتغلت نفسي بالتوجيه والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت فأوجب ذلك دفع العارض.
- وقال ابن الجوزي- رحمه الله-: تأملت عجبًا، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله. فإن العلم لما كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة.
إن تربية الأطفال على حب العلم والتعلم مهمة تتطلب الصبر والمثابرة والقدوة في تحصيل العلم، فمن الصعب أن ينشأ طفل محب للعلم والدراسة في بيت يهمل العلم ولا يفكر فيه، ولا يهتم بالكتب أو وسائل العلوم المختلفة، لذا على الوالدين والمربين تدريب وتربية الصغار على حب الدراسة منذ الصغر بكل الوسائل المتاحة.
مصادر ومراجع:
- صيد الفوائد: كيف تصنعين عالمًا؟
- أريج حوامده: كيفية تربية الطفل على حب الدراسة.
- ليلى علي: 15 طريقة لمساعدة الأطفال على حب العلوم.
- د. عدنان باحارث: ترغيب الطفل في التعلم.
- د. خالد بن أحمد السعدي: كيف نحبّب أبناءنا في العلم والقراءة؟!
- الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/830.
- ابن القيم: مفتاح دار السعادة 2/170.
- ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص 281.
إضافة تعليق