إنّ من السنن الغالبة في نفوس البشر محبتها لإظهار الخير؛ والتحدث به في الملأ، وعدم كتمانه، ولا شكّ أن ذلك يتناغمُ تمامًا مع دواعي الفطرة السليمة التي طبع عليها بنو آدم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إنّ من السنن الغالبة
في نفوس البشر محبتها لإظهار الخير؛ والتحدث به في الملأ، وعدم كتمانه، ولا شكّ أن
ذلك يتناغمُ تمامًا مع دواعي الفطرة السليمة التي طبع عليها بنو آدم، أما إسرار الحديث
والتّناجي بين طائفةٍ معينةٍ، وفي دائرةٍ من العلاقات الضيقة، ففي الغالب الأعمّ أنه
لا يكون إلا في شرٍّ، باستثناء بعض المواقف التي تستدعي ذلك، مما استثناه الشرع -كأمرٍ
بصدقةٍ، أو معروفٍ، أو إصلاحٍ بين النّاس-، أو ممّا دلّت عليه المصلحة -كإخفاء أمور
الحرب-، وقد حكم القرآن الكريم بانعدام الخيرية الغالبة على النّجوى: (لَّا خَيْرَ
فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ).
ولو تأمّلنا في هذه
القضيّة نجد أن القرآن العظيم قد جلّاها لنا، ووصَّفها أروع توصِيفٍ، وحدّد لنا السّلوك
الأرشد الذي يجب علينا امتثاله حيال تلك القضية.
ولعلّنا نقف مع فقه
تلك الآية؛ لنتعرف إلى مقدار الآثار السّلبية، والنتائج السّيئة التي تعقبها النّجوى
في المجتمع المسلم بعمومه، ثمَّ نُردف القول عن آثارها في دوائر العلاقات داخل البيئة
التّربوية، يقول الحق تبارك وتعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا
مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) {النساء:114}.
(كان اتجاه التّربية الإسلامية هو أن يأتي كل إنسانٍ
بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النّبي صلى الله عليه وسلم مُسارّةً إن كان أمرًا شخصيًّا
لا يريد أن يشيع عنه في النّاس، أو مُساءلةً علنيةً إن كان من الموضوعات ذات الصّبغة
العامّة، التي ليست من خصوصيات هذا الشّخص، والحكمة في هذه الاستراتيجية هي ألا تتكون
تحزباتٍ في المجتمع المُسلِم، وألا تنعزل مجموعات منه بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها
واتجاهاتها، وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التّناجي والتّبييت،
بمعزلٍ عن الجماعة المسلمة، وهذه حقيقةٌ تنفعنا، فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئًا
من هذه الظّاهرة، وأن يرجع أفراده إليه بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من
أفكارٍ، واتجاهاتٍ، أو مشكلاتٍ).
ولكن الأدهى والأمّر
إذا كان من يقوم بالنّجوى هو ممّن يُعنى بالإصلاحِ، وبناء الأجيال –كالمربّين، وغيرهم-،
فتناجيهم يعود بأسوأ النّتائج على العملية التّربوية؛ ذلك أن رؤية الإسلام في وسائل
التّربية متنوعةٌ؛ لكنه في الوقت ذاته يؤكّد على أن أهم تلك الوسائل وسيلة التّربية
بالقدوة؛ فالقيم والمبادئ والمُثُل
العُليا تظلّ نظرياتٍ محبوسةً في بطون مصادرها المعرفية، لا يستفاد منها ما لم تتحول
إلى حقائقَ ملموسةٍ، وصورٍ حيَّةٍ تتحركُ على الأرض، فيراها الناس، ويستفيدوا منها،
فهي إذن أشد ما تحتاج إلى مَن يمتثلها، ويترجمها تجسيدًا، وسلوكًا عمليًّا على أرض
الواقع.
والقدوات من المربّين
وغيرهم أولى النّاس بامتثال وتطبيق المبادئ والقيم الإسلامية التي يُعلّمونها للآخرين،
ويربّوهم عليها، وبلا أدنى شكٍّ أن القدوة أهم الثّوابت في العملية التّربوية؛ لا تنفكّ
عنها بحالٍ من الأحوال، وما ذاك إلا لأنّ المتربّي يرى في المربّي القدوة والأنموذج
الحسن، الذي ينبغي له أن يقتدي به، ومحصّل هذا يؤكّد أن العلاقة التّفاعلية الحسّاسة
بين الطّرفين في العملية التّربوية تقوم على الاقتداء، والتأسي.
ولكن قد يحدث من المربّي
ما يفسد تلك العلاقة، ويعكّر صفوها، حين تظهر في شخصيته بعض الآفات -كآفة النّجوى-؛
مما يحدث اهتزاز تلك العلاقة، والذي بدوره يدمّر العملية التّربوية، ويقوِّض بُنيانها.
ويمكن أن نقول بإيجازٍ:
إن حدوث النجوى بين المربّين، وداخل البيئة التّربوية وبدوائر علاقاتها المختلفة، يُخلِّفُ
آثارًا سلبيةً كثيرةً لا يسع هذا المقال حصرها، لكننا يمكن أن نذكر منها ما يلي:
1) انعدام الثّقة: فإن المتربّي -كما
أسلفنا- يرى في المربّي القدوة والأسوة الحسنة، فإذا رأى نقيض ذلك، وأن المربّي خالف
فعلُه قولَه انعدمت ثقته به، واهتزّت شخصيته في نظره، بل أصبح لا يقبل منه.
فلا بدّ أن يعيَّ المربّون أن نجاحهم
في العلمية التّربوية مرهونًا بمدى امتثالهم للقيم، والمبادئ بذواتهم، فعن جُندب
بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي
يعلّم النّاس الخير ولا يعمل به، كمثل السّراج يضئ للنّاس، ويحرِق نفسه" (رواه
الطّبراني في الكبير، والضّياء في المختارة).
ولقد كان أسلوب التّعليم
والتّربية بالفعل والأسوة من أعظم الأساليب النّبوية في تربية النّاس وإرشادهم؛ ذكر
ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الإصابة في ترجمة: (الجُلَنْدَى ملك عُمان)، وكان النّبي
صلى الله عليه وسلم بعث إليه عمرو بن العاص يدعوه إلى الإسلام، فقال الجُلَنْدَى:
"لقد دلّني على هذا النّبيّ الأُميّ أنه كان لا يأمر بخيرٍ إلا كان أول آخذٍ به،
ولا ينهى عن شرٍّ إلا كان أول تاركٍ له".
فلا بدّ أن يحذر المربّون
من حالة الفِصَام النّكد بين العلم والعمل، والتّربية والتّعليم، يقول الحسن البصريّ
-رحمه الله-: "كان الرّجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشّعه، وهَدْيه،
ولسانه، وبصره، ويده".
2) سوء الظن: التّناجي داخل البيئة
التّربوية يورث سوء الظّن؛ فالمربّي إذا عُرف عنه أنه كثير التّناجي، ولَّد ذلك اتّهامه،
وتخوينه، وسوء الظّن به، فحامت حوله الشّكوك والظّنون، وما كان ذلك ليكون لولا انتهاجه
لهذا السّلوك المشين، وبكل تأكيدٍ ويقينٍ تامٍّ أن العملية التّربوية لن تؤدّي دورها
المرجوّ إذا خيَّم على أفرادها سوء الظّن، والاتّهام، بل سيؤدي ذلك حتمًا إلى الفُرقة،
والعداوة، والبغضاء، وانخرام أواصر العلاقة في تلك البيئة.
3) الأذى النّفسي: من الأمور المستقرّة لدى التّربويين
مراعاة المشاعر والأحاسيس داخل البيئة التّربوية، ومحاولة الجُفول عن كل ما
من شأنه أن يؤدي للأذى النفسيّ للمتربّين، والنّجوى من أعظم ما يسبب الأذى النّفسيّ،
وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: (إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ ) {المجادلة:10}.
ومراعاة المشاعر والأحاسيس،
واحترام الأنفس، وعدم إثارتها بما يسوؤها ويؤذيها، مطلبٌ من مطالب التّربية الواعية.
تلك الآثار قد تكون
من أهم الآثار التي تخلّفها النّجوى داخل البيئة التّربوية، أوردتها على اختصارٍ.
والله تعالى أعلم.
إضافة تعليق