والنَّظْم أبيات مقفاة موزونة قد تخلو من المشاعر ولكنها تشرح العلم المقصود باختصار أو بتفصيل حسب ما يريد الناظم. وكم أعانت المنظومات العلمية الدارسين عبر العصور على استذكار العلوم والتخفيف من ثقل كم المعلومات التي يتلقاها الطالب.
عندما بزغ فجر الإسلام في شبه جزيرة العرب ظل الشعر لزيمهم -كما كان أيام الجاهلية- وتكيف ليتم توظيفه في ذكر محاسن هذا الدين العظيم وبيان فضائل نبينا الكريم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-. قدرة الشعر على التكيف للتعبير عن كافة الموضوعات في كل زمان ومكان، جعلت منه عنصرًا أساسًا في تاريخ ثقافة المسلمين بكافة تفاصيلها.
وعندما توسعت العلوم التي انكب عليها العرب حبًا للتعلم بعد مجيء الإسلام؛ كان الشعر خير مصاحب لهم في رحلة الطلب، وشاع ما أصبح يعرف بـ(المنظومات التعليمية).
والنَّظْم أبيات مقفاة موزونة قد تخلو من المشاعر ولكنها تشرح العلم المقصود باختصار أو بتفصيل حسب ما يريد الناظم. وكم أعانت المنظومات العلمية الدارسين عبر العصور على استذكار العلوم والتخفيف من ثقل كم المعلومات التي يتلقاها الطالب.
وتنوعت هذه المنظومات مراعية الأعمار الصغيرة والكبيرة والمبتدئين في طلب العلم والمتقدمين، فكلنا يحفظ البيت الذي ألِفناه منذ الصغر لاستذكار حروف الإخفاء في علم التجويد المتمثلة بأول حرف من كل كلمة فيه:
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما *** دُمْ طيبًا زد في تقى ضع ظالما
وهو بيت يرد ضمن منظومة تحفة الأطفال التي أعانت الصغار قبل الكبار على تعلم أحكام التجويد عبر السنين، وقد لا أبالغ إن قلت: إنك ستجد أبياتًا قد نظمت لكل علم برز في عصر النهضة الإسلامية، كالنحو والفقه وأصوله والمواريث والقراءات والطب... وغيرها. وإن المطلع عليها ليعجب أشد العجب من قدرة هذه اللغة على التشكل في أبيات محكومة بقوانين الوزن والقافية لتصف أي علم بإتقان وسلاسة.
البداية المبكرة:
وقد منَّ الله عليَّ أن تعرفت على هذه المنظومات الجميلة في مرحلة مبكرة نسبيًا في الظروف الثقافية التي أحاطت بنا مطلع القرن الواحد والعشرين؛ إذ كنت على مشارف المرحلة الثانوية. لم أكن قبل ذاك أعرف من القصائد إلا ما نحفظه من المناهج المدرسية، ولم أكن قد تعرفت على الأناشيد الإسلامية حينها ماعدا القليل منها. وفي السنوات التي تلت ذلك درسنا ضمن البرنامج العلمي بالمركز الصيفي عددًا لا بأس به من المنظومات العلمية، مثل نَظْم البيقونية في علم الحديث، ولا زلت أذكر منها أبياتًا رغم مضي أكثر من عشر سنوات على اطلاعي عليها، كقول الناظم:
مسلسلٌ قُلْ ما على وصفٍ أتى *** مثلُ: أما والله أنباني الفتى
كذاك قد حدثنيه قائمًا *** وبعد أن حدثني تبَسَّما
ويريد بذلك وصف الأحاديث التي ينقلها رواة الحديث بمثل حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما نطق بها، فإن قالها واقفًا فإن راوي الحديث يحدث به واقفًا لمن بعده، وإن تبسم نبينا الكريم بعد قوله فإن راوي الحديث يتبسم بعد نقل الحديث لمن بعده... وهكذا.
ومن أجمل ما درست من المنظومات: منظومة الإمام الرحبي المعروفة بالرحبية، والتي نظم فيها علم المواريث بعبقرية فذة نالت على إعجابي في ذلك العمر؛ إذ كنت أعجب من قدرته على وصف حصص الوارثين وتعداد أصنافهم بسهولة ويسر. فهو يقول مثلاً في أصناف الفرائض:
فالفَرْضُ في نَصِّ الكِتابِ سِتَّه *** لا فرْضَ في الإرْثِ سِواها البَتَّه
نِصْفٌ ورُبْعٌ ثُمَّ نِصفُ الرُّبْعِ *** والثُّلْثُ والسُّدْسُ بِنَصِّ الشَّرعِ
والثُّلُثانِ وهُمَا التَّمامُ *** فاحْفَظْ فكُلُّ حافظٍ إِمامُ
ومن جميل ما قرأت هو استشهادُ الحكمي في منظومته بآخر بيت في منظومة الرحبي إذ قال:
وكلنا يحفظ قول الرحبي *** في نظمه المحرر المستعذبِ
إذ قال وهو حافظٌ همامُ ***فاحفظ فكل حافظٍ إمامُ
هذا اليسر في سردهم والبساطة في نظمهم هو ما حبّب إليّ العلوم الشرعية ودراستها في مرحلة عمرية معروفة باللعب والانشغال بما لا ينفع، وقد كنت أحفظ الأبيات وأنا أدندنها وأتسلى بنغمتها، وأنشئ لها الألحان السريعة التي يحلو تردادها مع الأصحاب في هذا الدرب. لم أكن عرفت بعد ما البحور وكيف يوزن الشعر ويضبط، ولكني أحسست بتناسق المنظومات، وكنت أنتبه مباشرة لاختلال اللحن إن زاد أحد الأصحاب حرفًا أو غير منها حركة من غير قصد.
كنا في الزمان ذاته نستمع لكثير من الأناشيد، حيث كانت هي مصدر التسلية المتوفر عند ركوب السيارة، وكان سوق الأناشيد آنذاك متقدًا ولا يكاد يمر أسبوع إلا وانتشرت أشرطة جديدة منها تحتوي الغث والسمين، لكن بعضًا منها امتاز بخاصية مميزة وهي إنشاد القصائد الطويلة، وانفراد شريط بقصيدة كاملة.
فنونية القحطاني مثلاً أنشدت من قبل عدة منشدين رغم طولها، ونونية ابن القيم كذلك في وصف الجنة، وبلا شك فإن مثل هذا المحتوى جذب شابًا بدأ يشعر بميل إلى الشعر حديثًا، فكانت تعمل في مسجل السيارة ذهابًا وإيابًا دون ملل مني، ولا أبالغ إن قلت: إنني استمعت لنونية القحطاني أكثر من مائة مرة حتى تشبث لحنها بعقلي إلى هذا اليوم، وقد يكون سر انجذابي لها في سن مبكرة هو بساطة مفرداتها ووضوح معانيها، فلا يحتاج المستمع إلى معجم أو شرح ليفهمها.
ومثل نونية القحطاني كانت دواوين الدكتور عبد الرحمن العشماوي بسيطة في تكوينها عميقة في معانيها التي تلامس قلب الشاب المقبل على الالتزام والاهتمام بقضايا الأمة الإسلامية، فكنت أحرص على اقتناء دواوينه وقراءتها كلما سنحت لي الفرصة، وكم هزت مشاعري قصيدة مشاهد من يوم القيامة، وقصيدة شموخ في زمن الانكسار، التي قال فيها واصفًا هامة الطفل الفلسطيني الشامخة:
طفلٌ صغيرٌ غير أن شموخَهُ *** أوحى إليَّ بأنه لا يهرَمُ
طفلٌ صغيرٌ والمدافِعُ حولَه *** مبهورةٌ والغاصبونَ تبرَّموا
محاكاة أخلاقية هندسية:
التحقت بالجامعة مباشرة بعد الثانوية واخترت تخصص الهندسة الميكانيكية، كان تخصصًا صعبًا يتطلب الكثير من التركيز بعيدًا عن التسلية، وهذه طبيعة الهندسة عمومًا، وكان من ضمن المواد المطلوبة في بداية الخطة الدراسية للهندسة هي مادة أخلاقيات ومهارات الهندسة، مادة بسيطة في مضمونها ولكنها بدت صعبة وغامضة لطالب السنة الأولى، وقد زاد من ثقلها عليّ أن المحاضر لم يكن يتمتع بأسلوب رشيق في الإلقاء، فكانت تمر الساعة فيها كسنة خالية من كل شيء عدا الضجر!
في تلك المادة تحديدًا دفعني الضجر لكتابة أول سطور بدت لي موزونة ومقفاة بشكل سليم، وقد كتبتها اعتمادًا على لحن نونية القحطاني وهي مكتوبة على البحر الكامل. لم أكن متأكدًا في بادئ الأمر أن ما كتبته كان شعرًا صحيحًا مطابقًا لقواعد الوزن والقافية، حتى عرضت ما كتبته على الدكتور العشماوي بعد محاضرة ألقاها في الدوحة، وأكد لي أن القصيدة مضبوطة الوزن، وقد أبدى إعجابه بما تحتويه من طرفة؛ إذ كانت تصف حالنا في المحاضرة الجامعية المملة.
استنتجت بعد هذا أنه يمكنني ضبط الوزن باستخدام اللحن، وعرفت فيما بعد أن تعليم عروض الشعر باللحن معمول به حتى في الفصول الدراسية المختصة، وأذكر أني سمعت في محاضرة أن الفراهيدي مر على رجل في البادية يدندن لأبنائه:
نعم لا نعم لا لا *** نعم لا نعم لا لا
فسأله عن قوله، فجاوبه أنه يعلم أبناءه الشعر.
كانت تلك بداية كتابتي للشعر، وقد كانت بداية هادئة تتعلق بذكر الأحداث من حولي، وأستطيع القول: إن وسائل التواصل الاجتماعي كانت وقودًا جيدًا لتنشيط ملكة الشعر عندي، فكنت أكتب الأبيات في تويتر وأسعد بتفاعل الناس معها؛ ما يزيد من نشاط الكتابة عن صباحات العمل والزحام والمشاهدات في السفر.
وعندما عملت في حقل الهندسة استطعت كتابة بعض ما كنت أوجهه من مهام وواجبات وظيفية لإضفاء روح من المتعة والتسلية على جمود الوظيفة؛ فكتبت مثلاً وأنا أقوم برسم أنابيب النفط على البرامج الحاسوبية لحساب قدرة تحملها للظروف البحرية:
أنبوبة مدورة *** أبعادها معتبرة
أحسب قدر الجهدِ *** عليها منذ عهدِ
كي أتفادى المشكلة *** إذا أتتها المعضلة
كعاتي الأمواجِ *** والعاصف العجاجِ
بقيت الأبيات التي أنظمها محدودة النفع؛ إذ لما أكن أكتبها لهدف معين سوى صقل المهارة والتسلية، واستطعت بالممارسة التمكن من بعض بحور الشعر تعلمتها عبر الألحان، فتعلمت البحر الطويل عبر سماع الشاطبية التي أنشدها العفاسي، والرجز من دندنة المنظومات، والوافر من بعض الأناشيد... وهكذا. حتى التحقت بسلك التعليم في عام 2014 ميلادية عبر منظمة (عَلِّم لأجل قطر) معلمًا لمادة الرياضيات.
وتعد الرياضيات إحدى أكثر المواد التي ينفر منها الطلاب حول العالم، فجربت عدة طرق لتحبيب الطلاب بها، ومن هذه الطرق كتابة الدرس وتلخيصه في قصائد يسيرة وواضحة. كانت أول أبيات كتبتها للرياضيات خلال فترة التدريب الصيفي للمنظمة لشرح درس مقارنة الكسور، وقلت فيها على بحر الرجز:
كسرانِ قد تساوا في المقامِ *** بسطهما مختلف الأرقامِ
قارنها بالعقلِ والتفكرِ *** أكبرهما صاحبُ بسطٍ أكبرِ
وإن رأيت عكسَ ذاك فانتبه *** وقارن المقامَ كي لا تشتبِه
ومضيت في هذا الطريق الذي وجدت أثره على الطلاب في تبسمهم وحماسهم عند إنشاد هذا معًا في حصص الرياضيات. كان الأمر مصورًا في البداية داخل جدران الفصل، حتى قمنا بإنتاج سلسة من الأناشيد الفصيحة لقيت رواجًا وقبولاً -بفضل الله- في وسائل التواصل الاجتماعي.
وتستمر هذه الرحلة بإذن الله لإنتاج المزيد لتحبيب الجيل الناشئ لهذه اللغة العظيمة. وقد أحسن حافظ إبراهيم عندما وصف عظمة اللغة وكأنها تصف حالها قائلة:
أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ *** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
إضافة تعليق