مع تغير وسائل العصر ومعطياته، وكثرة مدخلاته وملابساته، طرأت بعض التغيرات (الشكلية) المعاصرة في الوسائل وطرق التعلم والتعليم، لكن يظل جوهر المنهج ثابتًا والعقيدة راسخة والقيم والمثل ثابتة وراسخة
من
البديهي ألا يتولى التربية والدعوة إلا من كان على دربة ودراية بهذا الفن الجليل
والعلم العظيم، والذي هو -كما سبقت الإشارة اليه- رسالة جميع المرسلين من رب
العالمين، ومن المحال أن تؤتي التربية الجادة الملتزمة ثمارها مالم تستوفي شروط
التدريب والتأهيل للمربين على هذه الغاية العظمى والمنهج العظيم.
والمعلم
المربي إذا أُحسنت طرائق إعدادِه وتأهيلِه، وتم قبل ذلك حسن اختياره وفق الحد
المقبول من المواصفات التي تتناسب مع طبيعة المهمة، فإن ثمار ذلك ستكون واضحة
وجلية، ولو طال زمانها.
ومثَل
ذلك كمثَل الزارع الماهر العالم بالمواسم وطبيعة الأرض ووسائل الري وأنواع البذور
وطريقة بذرها ووسائل الحرث والزراعة، فجدير به بعد بذل الأسباب وحسن التوكل على
الله أن يجني ثمارا يانعة تسر الناظرين، وتحقق الغاية المرجوة من عملية الزراعة،
والعكس بالعكس، فلا ترجى ثمره نضيجة تحقق المراد إذا لم تتم العناية أولاً
بالمزارع الذي يدير كافة شئون الزراعة باقتدار وكفاءة لتحقيق الغاية التي وُجد من
أجلها.
ومن وجهة نظرنا، هناك عشر مرتكزات
لابد من تنميتها لدى المربي في مجال القيادة والإدارة التربوية حتى يصبح أهلاً لأن
يقوم بمهمة التربية للأجيال وهي:
1- الرؤية الواضحة:
من أبرز الملامح القيادية وضوح الرؤية لدى المربي وهي (البصيرة) المقصودة في دعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فلابد من توفرها ابتداء في كل ما يريد فعله وتصور ما يستطيع من أبعاده؛ غاياته ووسائله، ومداه ومنتهاه، وأوله وآخرة. لأن أي قصور في وضوح الرؤية يؤدي إلى الغبش والتخبط الذي يفرز اختلاط الأمور وتناقض المواقف، وتتداخل المناهج بالوسائل، فتكون النتيجة إنتاج هزيل متناقض رغم كثرة الوسائل وتعددها، لكنها تظل فاقدة التركيز المؤثر في حسن استثمارها وإدارتها لكي تنطلق من معين واحد مقصود ومحدد، ثم تصب في مكان مقصود ومحدد أيضا؛ وهذا يعود بالتأكيد إلى وضوح الرؤية لدى المربي. ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: " والله ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ما يخاف الا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"[1].
2- وضوح الغايات والأهداف:
ومن الملامح القيادية وضوح الغايات أو الأهداف البعيدة أو الأهداف الاستراتيجية، فكلها تعني (النتائج) الطموحة التي تحقق الرؤية المستقبلية، والغايات بعيدة المدى يمتد عمرها الى خمس أو عشر سنوات وربما أكثر أو أقل والذي يحكمها هو عامل الاستقرار.
وأما الأهداف فهي نتائج مطلوب تحقيقها لمدة أقل من الزمن، ويمكن اعتبارها وسائل وخطوات لبلوغ الغايات الكبرى في المستقبل وتحقيق الرؤية الطموحة للمربي والمنهج التربوي.
3- المنهج السليم:
ومن الملامح القيادية الاختيار المقصود والمؤكد للطريق الواضح التي يسلكها المربي القائد في تحقيق الغايات التربوية. فلا تكفي البصيرة ووضوح الرؤية، بل لا بد من وضوح وصفاء العقيدة والمنهج وهو منهج وسبيل الانبياء في الدعوة الى الله تعالى. ويمكن التدليل على هذا أن المبتدعة وأصحاب الضلال والأهواء كثيرا ما تكون لديهم رؤيتهم الواضحة وغاياتهم الطموحة، لكنهم في المنهج سلكوا سبيلاً غير سبيل المؤمنين ؛ فضلُّوا وأضلوا.
4- التخطيط التربوي:
ومن مبادئ الإدارة الحديثة التخطيط ورسم الخطط، وهي طريقة قديمة اتبعها كل المصلحين على مر الأزمان مع اختلاف الأسلوب والوسائل. والتخطيط يعني باختصار شديد إيجاد البرنامج العملي المزمن والمفصل لوضع الأهداف موضع التنفيذ. فهو أداة تساعد على إدارة الموارد المالية والبشرية والمدخلات التربوية، لإنتاج مخرجات مستهدفة بمواصفات محددة قابلة للقياس، في زمن محدد ومعلوم. فاذا غاب البرنامج الزمني الذي ينظم أوقات تنفيذ المهام وإسنادها الى المعنيين، تكون النتيجة تزاحم الأعمال، والتركيز على البعض وإهمال البعض، وربما يحدث تخبط وخلط في الأولويات وتقدم الأمور غير المهمة على حساب الأمور المهمة.
5-التنظيم والترتيب:
ومن مقومات الإدارة وجود العقلية المنظمة التي تجيد ترتيب الأمور، فهي القادرة على تقسيم الأعمال وتوزيع الأدوار، وإدارة العمل باقتدار وفق الإمكانيات والجدارات المتوفرة، ثم تنسيق الجهود والأدوار، وإدارة التقديم والتأخير، والشدة والمرونة، ومراعاة المصالح والمفاسد، وإدارة الأزمنة والأعمال، وضبط إيقاع المسير، في الطريق التي تحقق الغايات النهائية للعمل المطلوب.
6- تنمية مقومات القيادة والتوجيه والتحفيز:
الشخصية القيادية للمربي هي الشخصية القادرة على بث الحماس وحشد الطاقات والأفكار والجهود باتجاه الغايات الكبرى. وإدارة وتهديف برامج الثواب والعقاب باتجاه الغايات الكبرى، والتحكم بكل اقتدار في اكتشاف المواهب والطاقات، وإعطاء كل ذي حق حقه من الرعاية والاهتمام، مع التوازن بين قيم العدل والمساواة؛ فالعدل بين المختلفين في المواهب والطباع والانتاج والابداع بإعطاء كل منهم ما يستحق، والمساواة في معاملة الجميع بمبدأ القيم والاخلاق والمثل السامية الحميدة.
ويدخل فيها إدارة برامج التحفيز والترغيب والترهيب كاستراتيجية في بناء النفوس السوية، وتجنب وسائل الهدم من جرح المشاعر، وهدم القيم وتحطيم المبدعين والابداعات، باستخدام وسائل منفرة وطرق مقززة بدعوى التعليم والتربية. بل ينبغي التعامل معها بوعي وذكاء بتهيئة المناخات المناسبة لذلك، بما يولد الابداعات واستخراج كنوز العقول الذكية والمبدعة، كما ينبغي التخلص من ممارسات الكبت وخنق الإبداعات وكبت المشاعر التي يمارسها بعض المربين بحجج واهية منها فرض الهيبة وترك الدلال وتنويع أساليب التربية دون مبررات واقعية.
ويدخل فيها التنسيق بين الطاقات والابداعات وترتيب الأولويات بما يحقق الغايات التربوية، وتركيز الموارد بحسب تلك الأولويات، وإيجاد مناخ من التوازن بين تقديم الأهم على المهم وربما حسن إدارة الاهمية والأولوية والاستعجال في المهام.
7- التطوير والتحسين المستمر:
فلئن كان التطوير والتحسين المستمر مطلب مهم وملح للمتربي في المحاضن التربوية، فإنه من باب أولى مطلب في غاية الأهمية للمربي نفسه. ويقصد بذلك حسن إدارة التطور والتقدم المستمر في حياة المربي، كل يوم وكل اسبوع وكل شهر وكل عام وكل مرحلة من العمر، حتى تظهر الثمار بمراحلها المختلفة منذ بدايتها حتى الوصول إلى الثمرة النضيحة التي لم تأت جزافاً لكنها تولدت عن رؤية واضحة وقناعة راسخة وأهداف طموحة وخطة دقيقة.
ومن هنا كانت الغاية البعيدة من كافة برامج التطوير والتحسين المستمر هي إحداث ذلك الفرق، الذي لم يكن فرقاً عشوائياً بل مدروسا ومخططا وممنهجا.
8- تنمية روح الفريق:
وهي غاية كبرى من الغايات التربوية، وتعني حسن إدارة الناس وفرق العمل وقيادتهم، وتعليمهم على الهم الواحد والعمل المنسق الموحد الصادر عن مشكاة واحدة بوسائل متعددة، وواجهات مختلفة، مع التوازن بين الفروق الفردية للأفراد، وحجم النتائج المطلوبة من مجموع الفريق. كم تعني حسن إدارة الخلافات وإعمال مبدأ المصالح والمفاسد في إدارتها.
إن الاهتمام بروح الفريق الواحد يؤدي إلى تعزيز روابط الاخوة الإيمانية وتوحيد الجهود والطاقات باتجاه الأهداف، وتجنب تشتيتها في أحداث جانبية ومشاحنات ومشاكسات فرعية، لها انعكاساتها المؤثرة على بلوغ الغايات المطلوبة في الأزمنة المحدودة والجودة المرغوبة.
وتربية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قائم على مبدأ: "يد الله مع الجماعة"[2]، وتربية الحواريين والاصحاب من أتباع الأنبياء، كلها قائمة على نفس هذا المعنى، وأهم ما فيه تأهيلهم من خلال القدوة لمواصلة المسير في نفس الاتجاه الذي حدد معالمه قائدهم ومعلمهم ومربيهم.
9- التزام وبناء القيم السامية:
فالتزام القيم والمبادئ من قبل المربي، وتربية الأتباع عليها هي أسس وجوهر التربية الرشيدة، إنها القواعد الراسخة التي تحمل المبنى العظيم. فلئن كان المربي يمثل قواعد البناء، فإن المتربين يمثلون الأعمدة التي تحمل المبنى انطلاقاً من تلك القواعد.
إن أي إخلال في منظومة متانة القواعد والأعمدة، يؤثر تأثيراً خطيراً على رسوخ المبنى وصموده أمام عوامل التعرية، فضلاً عن ظهور الشقوق والشروخ في جوانب وأجزاء المبنى. ومعلوم في عالم العمران أن المواد الأصلية وحسن اختياراها وفق معايير الجودة وحسن تنفيذها وفق نفس المعايير، له أثره الكبير على تماسك وبقاء وصمود المبنى، والعكس صحيح.
وما كانت دعوة الأنبياء إلا مثلا شديد الوضوح على التزام القيم والمبادئ والمثل في أنفسهم أولاً، ثم غرسها في أهلهم واتباعهم، وهكذا تناسق البناء من الساس إلى الرأس، فأخرجوا أجيالاً حملوا رسالة الأنبياء بنفس القوة والمنهجية والوضوح.
10- تقييم وتصحيح الأفكار والسلوك:
وهي خاتمة الجهود وثمرة التربية والتعليم، وبعد اكتمال الثمرة، من الطبيعي والمناسب مع فطرة البشر ظهور بعض الأخطاء والانحرافات في الأفكار والمعتقدات والسلوك، فتبقى وظيفة التوجيه المستمر والمتابعة الدؤوبة ملازمة للعملية التربوية.
فكم حدثت من مواقف بين المهاجرين والأنصار، وبين الصحابة الأخيار، وكيف وقف النبي صلى الله عليه وسلم مسدداً وموجهاَ ومرشداً على الصواب، لم يفتر يوماً عن ذلك بحجة أنهم قد نالوا النصيب الكافي من التربية والتعليم ولن يحتاجوا لمزيد رعاية وتوجيه، بل كانت استراتيجية المتابعة والتصحيح دائمة مستمرة حتى قبضه الله تعالى، وتولى المهمة من بعده أبو بكر ثم عمر وسائر الخلفاء رضي الله عنهم وهكذا. أنها سيرة لا تنقطع من التصحيح والتصليح طالما وُجد بشر يخطئ فيرجع، ورب يغفر ويتوب، ومنهج يجب أن يعلو ويسود، وعباد للرحمن يجب أن يحملوا الرسالة الصحيحة من المهد إلى اللحد.
إضافة تعليق