فطر الله تعالى الإنسان على حبّ الاستقلال في الشّخصية، والأَنَفة من كلّ ما يلغِي شخصيته؛ حتى يكون مؤهّلًا لتحمل مسؤولياته، والقيام بالتّكاليف الشّرعية باختياره..

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله الطّيبين، وصحبه الغُرّ الميامين،  وبعد:

كثيرًا ما نتعجّب ويتملّكنا الاستغراب المشوب بالغضب، عندما يخالف المتربّي النّصائح الموجّهة إليه، والتي فيها مصلحته، ونشعر في كثيرٍ من الأحيان أننا نفقد القدرة على توجيه ذلك المتربّي نحو ما ينفعه، وأن ذلك التّوجيه ليس ذا قيمةٍ لدى المتربّي.

ولهذا الأمر أسبابٌ عديدةٌ، ومن أهمها: أننا نكتفي بتوجيه النّصائح في صورة أوامرَ وتحذيراتٍ، مفرّغةً من مشاعر الحب والرّحمة بالمتربّي، مجرّدةً عن بيان القيمة المعرفيّة لها، المتمثّل في المصلحة المتعلّقة بها، والضّرر المترتب على إهمالها، فلا يدرك معها المتربّي معاني الحبّ له، والرّحمة به فيها، ومدى نفعها، والضّرر المترتّب على إهمالها؛ مما ينتج عنه شعور المتربّي أن تلك النّصائح ما هي إلا تكاليفٌ وقيودٌ مفروضةٌ عليه، تقيّد رغباته وحريته، وتلغِي شخصيته، وحينها تتولّد لديه بسبب ذلك ردة فعلٍ عكسية، وربما يتطور الأمر حتى تحصل النّفرة منها، وممن يقدم له تلك النّصائح.

وذلك لأن الله تعالى قد فطر الإنسان على حبّ الاستقلال في الشّخصية، والأَنَفة من كلّ ما يلغِي شخصيته؛ حتى يكون مؤهّلًا لتحمل مسؤولياته، والقيام بالتّكاليف الشّرعية باختياره، فإذا شعر المتربّي أن تلك التّوجيهات تقيّده، وتجعله تابِعًا لا شخصيةَ له معها، لم تحصل الاستفادة منها.

ومثال ذلك في الواقع العمليّ أنّ الشّخص ربما يضيق ذرعًا عندما يُمنع من الخروج من منزله، ولكنه قد يقعد أيامًا طويلةً في منزله لا يخرج منه، والفرق أن جلوسه نابعٌ من رغبته الشّخصية، وقد علّل الإمام ابن الجوزيّ في كتابه صيد الخاطر ذلك، بأن الله خلق النّفس حبيسةً في الجسد، وأن التّكليف والتّوجيه حبسٌ آخر لها، فتضيق به، وتنفر منه.

فلو كان المنع من الخروج من البيت بأسلوبٍ يبرز جانب الحبّ والرّحمة، ويعرّفه ما جهله من الفائدة المترتّبة على ذلك، كأن يخبره بوجود خطرٍ خارج الدار يخشى عليه منه -كحيوانٍ مفترسٍ أو عدوٍّ متربصٍ-، وأنه يخشى عليه، ويحبّ نجاته، فإن الموقف سيختلف، وسيحبُّ الأمر بالمكوث في البيت، ويشعر بالامتنان تجاه النّاصح، ويبادله مشاعر الحبّ والتّقدير.

وهكذا فإن القاعدة العامة أن التّوجيه التّربويّ، لا بدّ أن يُراعَى فيه البناء المعرفيّ والوجدانيّ، فيلبّي مطالب الفطرة البشريّة الفكريّة والعاطفيّة، ببيان الخير فيما يؤمر به، والشر فيما ينهى عنه، وأن دافع النّصح إنما هو الحبّ للمتربّي، والرّحمة به.

وقد تجلّت تلك الطّريق في شخصيّة المربّي الأول، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128)، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164).

فعلى المربّي أن يكون توجيهه للمتربّي توجيهًا معرفيًّا بنائيًّا، يضيف إليه معلومةً مهمةً، وفي نفس الوقت يُشعره بأن دافع التّوجيه هو الحرص والاهتمام بما ينفعه، ويغمره بمشاعر الحبّ والتّقدير له، بأفضل الطّرق الممكنة لإيصال الفكرة المطلوبة للمتربّي.

إن التّوجيه من خلال البناء المعرفيّ والوجدانيّ، تتكامل معه مطالب النّفس البشريّة الفكريّة والعاطفيّة، ويصقل شخصية المتربّي، ويعزّز لديه الثّقة الواعية بمن يربّيه، وبنفسه، كما يعزّز لديه الشّعور بالمسؤولية التي فطره الله عليها؛ حتى يكون مؤهّلًا لتحمل التّكاليف الرّبانية؛ فينشأ شخصًا مدرِكًا لما يقول وما يفعل، قادرًا على التّمييز بين الصّواب والخطأ بشكلٍ متوازنٍ، والاعتماد على نفسه في تدبير أموره، واتّخاذ المواقف الصّحيحة في حياته.

وللتّوضيح أمثِّل بثلاثة نماذج تطبيقية تبيّن هذه المسألة على سبيل التمثيل لا الحصر:

المثال الأول: جملة التّوجيهات التي وجّهها لقمان الحكيم لابنه وهو يَعِظه، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 13-19).

تلك الوصايا تمتزج فيها معاني الرّحمة والحنان التي يغمر بها ولده، بمجموعةٍ من المعارف التّي ترقّيه ليتكامل في شخصيّته؛ وتبزر مشاعر الحبّ والحنان الأبويّ بقوله: "يا بنيّ" ثلاث مراتٍ؛ لتكون مدخلًا لجملة النّصائح بعدها، والتي راعت أهم المعارف التي يحتاجها الطّفل في بناء شخصيته، وعلاقته بربّه وخلقه، وتحفظ فطرته سليمةً.

فبدأ بتقرير التّوحيد، والنّهي عن الشّرك، وأنه أعظم الظّلم، وأقبح الأخلاق، ثم أردفها بالوصية بحسن صحبة الوالدين في المعروف، وأن بِرّهما من حقوق توحيد الله تعالى، وفيه قيامٌ بحقّهما الواجب، وذكّره بشيءٍ مما تحمّلاه من مشقةٍ في رعاية ابنهما، وأن يتبع سبيل المُنِيبين إلى الله تعالى؛ استعدادًا ليوم الجزاء بين يدي الله تعالى.

ثم علّمه أنّ الله قد وسع علمه، وأحاط بكل شيءٍ؛ وأن ذلك يستدعي خشية الله، ومراقبته في السّر والعلن.

ثم أوصاه بجملةٍ من الوصايا، وهي: أداء الصّلاة، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر على ما يصيبه في ذات الله تعالى، معلِّمًا إياه أن تلك الصّفات صفات أهل العزائم الكبيرة والعظيمة.

وبعد وصيته بحقوق الله تعالى، وحقوق والديه، أوصاه بحقوق الخلق، فنهاه عن الكِبْر، والخُيلاء؛ وعلّمه أن الله تعالى يبغض المختال الفخور، ثم أمره بالتّواضع في مَشيه، وخفضِ صوته؛ لأنها صفة أصوات الحمير.

المثال الثاني: موقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع الحسن بن عليّ -رضي الله عنهما-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: أخذ الحسن بن عليّ تمرةً من تمر الصّدقة، فجعلها في فيه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنّا لا نأكل الصّدقة)، وفي روايةٍ: (أنّا لا تحلّ لنا الصّدقة)، متفق عليه، واللفظ لمسلم.

وفي هذا الحديث: نهى الحسين عن أكل تمر الصّدقة وهو صغير، بلفظة محببةٍ لدى الأطفال، وهي: "كخ، كخ"، ولم يقتصر على ذلك، بل بيّن له السّبب، رغم صغر سنّه؛ لتتكامل المعلومة لديه، وهي: أن بني هاشم لا تحلّ لهم الصّدقة، وأنها محرّمةٌ عليهم.

المثال الثّالث: وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس -رضي الله عنهما-، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: (يا غلام، إني أُعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيءٍ، لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصّحف). رواه أحمد، والتّرمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

بدأت الوصية بقوله: "يا غلام"، وهو نداء لطيف، فيه إظهار الرحمة والحبّ بابن عباس، ثم سهّل له الأمر، وشوّقه إليه بقوله: "إني أعلّمك كلمات".

وبعد أن تهيّأت نفسه واشتاقت لمعرفة ما سيقال، جاءت الوصية النّبوية بالاستقامة على التّوحيد، وبيان جزائها، ولوازمها.

فبيّن له أن الاستقامة تكون بحفظ الله تعالى بطاعته، وتوحيده، وأن جزاءها حفظ الله تعالى لعبده، وقربه من عبده دائمًا، وتحقيق ذلك بالتّوجه إلى الله وحده، ومن ثَمّ؛ فالسّؤال لا يكون إلا لله تعالى، والاستعانة لا تكون إلا به، وأن من لوازم ذلك أن كل شيءٍ لا يكون إلا بإذن الله تعالى وقضائه وقدره، وأن الخلق عاجزون عن النّفع والضر، وأن ذلك كله لا يكون إلا بإذن الله تعالى.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة