"الجنس"..
حين تثار تلك الكلمة وسط المحافل في مجتمعاتنا تتجه الأنظار نحو قائلها، وتسكت
الأصوات لوقعها على الآذان، وتهدأ الأنفاس في محاولة لتهدئة دقات القلوب، ويتعامل
البعض منا مع وقعها بالإثارة؛ باعتبارها من أهم المثيرات الحسية الموجودة في فطرتنا
البشرية منذ بدء الخليقة، والبعض الآخر قد يصاب بالحرج على اعتبار أنها تطلق في
الأذهان آلاف التابوهات المغلقة التي اعتدنا على عدم فتحها على الملأ، وأنها من
ضمن الأشياء المُحرم (مجتمعيًا) تداولها علنًا، والبعض الأخير يتحفز في جلسته ليصب
اللعنات على قائلها؛ ويكأنه فتح باب من أبواب الجحيم التي لا بد من غلقها لما لها
من شرور واسع المدى على مجتمعاتنا!
ولكن هل اقتران تلك الكلمة بمصطلح درج الجميع
على اعتباره مصطلحًا مقبولاً مجتمعيًا يحول تلك الكلمة الكابوس إلى مجال مستساغ
اجتماعي تناوله وتداوله؟! يعني حين يقترن مصطلح الجنس بمفهوم التربية؛ هل هنا
تتغير نظرة المجتمع لذلك المصطلح الذي يعده دومًا مشينًا أم يظل التعامل مع هذه
الكلمة على أنها عورة يجب تغطيتها عن الأعين؟!
وهنا ستكون نقطة الانطلاق نحو إيجاد مفهوم
واع ومقبول وعلمي وعملي في الوقت ذاته للتربية الجنسية لأبنائنا في ظل عالم
العولمة التي غدت فيه الكرة الأرضية ببراحها مجرد قرية صغيرة نتبادل فيها أطراف
الحديث؛ بينما كل منا في الطرف الأخر من تلك الكرة!
- نظرتنا نحو الجنس:
من المفارقات العجيبة؛ أن الأمة التي تعامل
دينها ومرجعها الأيديولوجي مع الإنسان على أنه كائن شامل، فلا يُعلى من جانب في
شخصيته على الآخر، تعاملت مع مفهوم الجنس على أنه شيء من الأفضل مداراته والتعامل
معه من خلال غرف النوم فقط! وكأنه شيء يعيب الشخص إذا تداوله أو تحدث عنه وعن
أهميته وتفاصيله في العلن.
فالجنس على عهد النبي– صلى الله عليه وسلم–
والصحابة– رضوان الله عليهم أجمعين- كان أمرًا مطروحًا للنقاش بلا تحرج؛ بل وبكثير
من التفصيل! لأن القاعدة السائدة آنذاك "لا حرج في الدين"، فلم يمنعهم
الحياء المصطنع عن تناول قضاياه؛ بل وأطروه بالدين وجعلوه جزءًا لا يتجزأ منه. ومن
غير المعروف سر هذا التحول الرهيب في عقلية وفكر المجتمعات الإسلامية ونظرته نحو
الجنس، والذي قد يكون نابعًا من بعد المجتمعات حاليًا عن النبع الصافي للشريعة.
والإسلام لم ينظر للجنس على أنه
"تابوه" يجب إحكام غلقه، وهو ما دفع كثير من الباحثين المعاصرين
للموازنة بين تعاطي الشريعة الإسلامية مع الجنس كفطرة جائزة بل ومع النية الصالحة
تتحول إلى عبادة؛ وبين تعاطي المسيحية مع الجسد على أنه دنس، وتعاملها مع الجنس
على أنه شهوة شيطانية لا بد من كبتها بمسوح من الرهبانية المبتدعة.
لذا؛ كان طبيعيًا من الإسلام- ذلك الدين الذي
تعامل مع الجنس بواقعية شديدة-، أن يتناول شهوة الفرج بشكل أكثر وضوحًا، فحفلت كتب
التفسير بروايات وتفاسير لآيات النكاح، كما احتوت كتب الحديث على أحاديث كثيرة عن
النبي– صلى الله عليه وسلم حول كثير من المواضيع الخاصة بالجنس، كما أن كتب الفقه
دونت بها عناوين وأبوابًا تهتم بذلك الموضوع أيما اهتمام.
ويمكن أن نحدد ثلاثة مستويات لفلسفة تعاطي
الإسلام مع المسألة الجنسية، في المستوى الأول؛ جاء القرآن الكريم- الذي يعد
المصدر الأول للتشريع- ليضع إطارًا كليًا وشاملاً لفلسفة الجنس من النظرة
الإسلامية ويحدد آدابه وأخلاقياته العامة. ليأتي المستوى الثاني؛ وهي السنة
النبوية التي تناولت التفاصيل؛ من خلال الإجابة على النوازل اليومية التي ترد
للنبي– صلى الله عليه وسلم- حول الجنس وطريقة تعامله معها. وفي النهاية، جاءت كتب
الفقه وفتاوى الصحابة– رضوان الله عليهم- واجتهادهم؛ لتغطي بقية المساحة وتكمل
الإطار الفلسفي لنظرة الإسلام نحو الجنس وتعالج التغيرات والطوارئ المعاصرة الخاصة
بهذا الموضوع.
أي أنه في المجمل؛ أن الجنس في الإسلام هو
فطرة من ضمن مكونات النفس البشرية التي خلقها الله– عز وجل-. فالإسلام لم يتجاهل
أي قضية تتعلق بنشاط الإنسان، فهو ينظر للفرد المسلم نظرة شاملة (جسمية– عقلية–
روحية)، لم يعل جانب على الآخر، ولم يسفه من جانب دون الآخر، "فالإسلام لم
ينظر إلى الإنسان نظرة (مادية مجردة) لا تتعدى هيكله الجسدي ومتطلباته الغريزية
شأن المذاهب المادية، في حين لم يحرمه من حقوقه البدنية وحاجاته العضوية.
أي أن الإسلام لم يكن " (ابيقوريًا)–
نسبة إلى الفلسفة التي وضعها" أبقور "عام 343 ق. م، والتي تعتبر اللذة
أساس الأخلاق وأنها وحدها غاية الإنسان وهي وحدها الخير- في إطلاق الغرائز
والشهوات من غير تنظيم ولا تكييف، ولم يكن كذلك (رواقيًا)– نسبة إلى الفلسفة التي
وضعها زينو القبرصي عام 342 ق. م، والتي تعتبر الشهوة شرًا محضًا يجب إبادته- في
فرض المثاليات وإعدام المتطلبات الحسية في الإنسان". [i]
فـ "الإسلام يؤمن من الكائن الإنساني
بما تدركه الحواس، وبما يقع خارج نطاق الحواس يؤمن بكيانه المادي المحسوس، وأنه
قبضة من طين الأرض.. يؤمن بما لهذا الكيان المحسوس من مطالب، ويؤمن بما فيه من
طاقات.. ويعترف بهذا الكيان اعترافًا كاملاً لا يغض شيء من قيمته ولا يهدر شيء من
طاقته.. يستجيب لحاجاته ومطالبه.. فيوفر له المأكل والملبس والمسكن والجنس ونصيبه
من المتاع. ويجند طاقاته لتعمل في تعمير الأرض وإنشاء النظم وتشييد الحضارات. وفي
الوقت ذاته يؤمن بالكيان الروحي للإنسان، يؤمن بأن فيه نفخة من روح الله، ويؤمن
بما لهذا الكيان الروحي من مطالب، وما يشتمل عليه من طاقات.. فيعطيه ما يطلبه من عقيدة
ومثل وصعود وترفع.. ويجند طاقاته في إصلاح كيان النفس وإصلاح شرور المجتمع وإقامة الحق
والعدل الأزليين بأن يصله بالله". [ii]
لكل هذا؛ تعامل الإسلام مع الجنس على أنه شيء
موجود بداخل النفس البشرية - ولا بد- من التعامل معه وعدم كبته، بل وأوجب حسن
إدارته فيما يفيد الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، فالأصل في الجنس من خلال المنظور
الإسلامي أن الفطرة التي وضعها الله في الجسد البشري هي طاقة يتم استخراجها من
الجسد من خلال اللذة الممتعة، ولكنه لم يجعل هذه اللذة الهدف المحض من استخراج تلك
الطاقة، فعقد أواصر المودة والرحمة بين الرجل والمرأة، وتكوين الأسرة، واستمرار
النوع والتكاثر، وتحقيق النفع الحسي والنفسي للإنسان، كل تلك أهداف يصبو إليها المنظور
الإسلامي لمفهوم الجنس.
- مفهوم التربية الجنسية
في الإسلام:
يرتبط مفهوم التربية بالثقافة السائدة في
المجتمع، والقيم الفكرية والإيدلوجية الموجودة فيه، لذا؛ فهي تختلف من مجتمع لآخر.
ولأن التربية في الإسلام تعني بشكل عام بالفرد المسلم من جميع جوانبه (نفسي/ بدني/
عقلي/ اجتماعي.. وما نحوه)؛ لذا؛ فقد اهتمت بالجانب الجنسي كجزء من التركيبة
البشرية للفرد.
"فالإسلام يرتقي بالإنسان من خلال
التربية الجنسية من طبيعة الفطرة التي فُطر عليها والارتفاع به عن مصاف الحيوانات،
على عكس التربية الجنسية في ثقافات ومجتمعات أخرى؛ والتي حطت من قدر الإنسان
وجعلته كالحيوانات، بل إن هناك من الحيوانات من ينفر من الفوضى الجنسية ويعيش حياة
جنسية منظمة حتى أن الذكر يغار فيها على الأنثى. فإذا كان الجنس مكشوفًا في حياة الأمة، هابطًا
عاريًا كما في بعض الحيوان، مباحًا مبذولاً بلا رابط ولا قيد؛ كان هادمًا للحياة
مدمرًا للمجتمع، منافيًا للفطرة التي تنفر من الفوضى الجنسية.
لذا؛ فالتربية الجنسية من المفهوم الإسلامي
تعنى: (الاهتمام برعاية الفرد جنسيًا في مراحل نموه المختلفة، من خلال تقديم
المعلومات العلمية والخبرات الصالحة والاتجاهات اللازمة والسليمة إزاء المسائل
الجنسية بالقدر الذي يسمح به نموه العقلي والجنسي، وبما لا يخالف تعاليم الدين
الحنيف ومعايير المجتمع الذي يعيش فيه، والتي تعمل على تنمية اتجاهات سليمة نحو نفسه،
والجنس الذي ينتمي إليه، ونحو الجنس الآخر ونحو الأمور الزوجية والأسرية في
مستقبله، ما يؤهله للتوافق مع المواقف الجنسية ومواجهة مشكلاته الجنسية للوصول إلى
الصحة الجنسية السليمة) ". [iii]
- أهمية التربية
الجنسية:
إن الخوض في الجنس والتربية الجنسية ليس من
قبيل نشر الفاحشة أو الإباحية والفساد؛ بل إن معرفة الصبي لعلامات البلوغ وحد
العورة والاغتسال وآدابه، وكذلك تعلم الفتاة لأحكام الطهارة من الحيض وأحكامه،
وأسس النظافة الأولية للجنسين، تعد من الواجبات التي سيسأل الوالدين عنها في حالة
تجاهلها، فالتربية الجنسية السليمة في مجتمعاتنا تنبع من الدين أساسًا.
كذلك التربية الجنسية للفرد منذ صغره هي
وسيلة المجتمع لضبط السلوك الجنسي للفرد وفقًا لضوابطه وتقاليده، فكل تجمع إنساني
يتطبع أفراده بما يغرسه فيه المجتمع من قيم وتقاليد وضوابط، لذا فمن الضروري وجود إطار
علمي وتربوي للتربية الجنسية منذ الصغر.
- أهداف التربية الجنسية
[iv]:
التربية عمومًا تسعى لتعديل سلوك الفرد إلى
الأحسن وتنمية قدراته بما يتناسب مع طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، والتربية
الجنسية التي تقوم على أسس دينية وأخلاقية في المقام الأول، نسعى من خلالها لتحقيق
أهداف إنسانية واجتماعية وتربوية شتى من ضمنها:
- من خلال المعلومات المقدمة للطفل عبر مراحل
نموه المختلفة حول الجنس، نستطيع أن نُوجد رأى عامًا لدى الطفل نحو الكثير من
القضايا الجنسية التي يهمنا أن يكون لديه نفس القناعات التي تتماشى مع صحيح الدين
وتقاليد المجتمع. مثل عدم نفوره من التكلم في الأمور الجنسية، والتعامل معها على
أنها أمور علمية يجب أن يعلمها ليصل للصحة الجنسية المطلوبة، وكذلك نفوره من
الشذوذ الجنسي بأنواعه المختلفة وغير ذلك. وأيضًا تساعد التربية الجنسية على
الوقاية من الانحرافات الجنسية والأخلاقية، التي ظهرت في مجتمعاتنا الآن نتيجة
للجهل بالأمور التربوية في الجانب الجنسي والانفتاح على الثقافات والحضارات
الأخرى.
- كذلك تساعد التربية الجنسية من المفهوم
الإسلامي للفرد على أن يجد رادع نفسي يمنعه من الوقوع في الفاحشة، وحماية المجتمع
ككل من انتشار الفساد فيه.
- أيضًا من خلال ما تقدمه من معلومات؛ تحاول
التربية الجنسية ضمان علاقات سليمة جنسيًا بين الرجل وزوجته مع تقدير المسئولية
المرتبطة بهذه الجوانب، وهو ما سيظهر معنا من خلال المقالات القادمة، والتي
سنتناول فيها مراحل تطور النمو الجنسي لدى الفرد، وطرق عملية للتربية الجنسية
تبعًا لكل مرحلة وتطوراتها، والأخطاء التي قد يقع فيها المربي.
إضافة تعليق