التسلسل المنطقي لتغيير شخص يتطلب بناء علاقة حب وود وتقبل ثم مساعدته على التغيير، ورغم أن ذلك يسهُل إدراكه والانتباه له في عموم العلاقات لكنه صعب مع أبنائنا

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

في وسط الفتن المتزايدة، والابتلاءات الشديدة، والدعاوى الصريحة لنبذ الدين؛ يقع الوالد المشفق على أولاده من السقوط والبعد عن طريق الله في مهب الريح.

يحنو تارة، ويتكلم تارة، ويقسو تارة أخرى ليقنع ذلك الولد الذي لم يعد طفلاً، والذي لديه مبررات للسير في عكس الاتجاه الذي يرغبه الوالد.

في وسط هذه التنازعات نحتاج إلى جلسة هادئة مع ذلك الوالد، الذي نعلم حبه وخوفه على أولاده، إلا أن الحب وحده لا يكفي، ولا أتخيل جرمًا في الحياة أشد قسوة من التشوهات الإيمانية التي يكسبها الوالدان لأبنائهما في صلتهم بالله.

وقد حرصنا أن تكون هذه القواعد عملية وواقعية، فلن تقرأ كلامًا إنشائيًا، ولكن قواعد تربوية تجمع بين المعرفة والمهارة ليسهل البناء.

1.    بناء العلاقة قبل بناء التدين:

التسلسل المنطقي لتغيير شخص يتطلب بناء علاقة حب وود وتقبل ثم مساعدته على التغيير، ورغم أن ذلك يسهُل إدراكه والانتباه له في عموم العلاقات لكنه صعب مع أبنائنا، حيث نبدأ من النصح والأمر والنهي، ونتصور أن الاصل أن الولد متيقن من حب والديه له فلا يحتاجان إلى إظهار المحبة أو بناء الود؛ لذلك نحتاج أن ندرك عدة نقاط:

· البدء ببناء القيم والنصح قبل بناء العلاقة يفسد عليك العلاقة، ويضيع القيمة؛ لما يخلق من أجواء الملل والتركيز على السلبيات.

· بناء العلاقة يستلزم التحبب وقلة النقد وكثرة الاختلاط والحكي ومنع الإيذاء والسخرية، والتفهم والتقبل لمراحل العمر وتقلباتها، وعدم المقارنة أو المن، والتصابي للصغير والحنو.

·غياب العلاقة والبدء بالتوجيهات والنصح يلجئ الطفل إلى الحياة بذات مزيفة، يمثل فيها ما يرضي والديه، فيعيش بشخصية في البيت وأخرى خارجه، فيصعب عليه في كبره تحقيق الاتصال بذاته الأصلية.

·متعة طفلك بالجلوس معك والحكي إليك وعدم خوفه من الاعتراف بخطئه وتقصيره؛ مؤشر جيد لقوة العلاقة.

· إذا لاحظت ضعفًا في العلاقة فأوقف النصح والتوجيه أو قلل منه وتغافل، واعمل على تقوية العلاقة بالتدرج ثم النصح بلين ولطف.

· من الملاحظ لدى الوالدين أن أعمق قيمة تأثر بها الأبناء من والديهم لربما لم يكلموهم عنها يومًا، لكنهم عاشوها أمامهما، مع صلة جيدة، فكان التأثر وتوريث القيم.

2.    مبالغتك في الحديث الآثار الحياتية للطاعات لن تزيد من الدافعية:

قالت لطفلها: إن واظبت على صلاتك نجحت في دراستك وامتحاناتك، فواظب الطفل على الصلاة ثم تعثر في الدراسة ولم ينجح، فجعل يتساءل: هل تكذب أمي؟!

من الخطورة أن تصاب القضايا المحورية في التدين لتشوه غير مقصود أو مبالغة مضلله؛ لهذا نحن نحتاج أن ندرك الآتي:

· الطاعات والقربات لها أثر في الدنيا قبل الآخرة، قد تكون محبة الصالحين وقد تكون انشراحًا في الصدر أو تيسير الطاعات أو سعة الدنيا أحيانًا، لكن ربط عموم العطاء والمنع في الدنيا بالطاعة فقط؛ لا يخلو من خطأ، ومع صغير السن قد يعرضه إلى إرباك لا تحمد عقباه.

· المبالغة في وصف القيم تشوه التناسق الرباني لبناء القيم، وتغير ترتيب الأولويات وفق منظور الشرع، وقد يكتسب الوالدان ذلك بالاعتماد على الوعظ فقط في تلقي مفاهيم الدين دون التعلم ودراسة.

· من صور المبالغة في بناء القيم عدم الحديث عن الجانب الآخر من القيمة ومدى انتشارها في المجتمع، فمن مستلزمات بناء العفة لدى المراهق أن يدرك مفهوم الزنا، وأن هناك من يرتكب هذه الكبيرة في المجتمع. كذلك لبناء قيمه الصدق أن نحدث الطفل عن الكذب، وأن في المجتمع من يكذب وأحيانًا من يتحرى الكذب، وأنه ليس له صورة قبيحة ظاهرة، ولا أن المتحرش له اظافر طويلة، ويبدو مخيفًا... كل المبالغات التي على هذا النحو تضلل الطفل وإن بدا منها حسن نية.

· من آثار التضخيم الزائد لآثار الطاعات رفع سقف التوقعات في انتظار التدخل الإلهي بما يتنافى مع طبيعة السنن وقواعد الحياة، وهذه أزمة يعاني منها بعض أولياء الأمور في مجتمعاتنا، ويُخشى أن تورث للأجيال. 

3.    أن تبقى السنة سنة:

شاء الله أن يجعل أوامر الشرع على مراتب بين الاستحباب والوجوب لعلمه بطبيعة الخلق وما يصلحهم، ولا يصح -ولو من قبيل الحرص على أولادنا- أن تكون السنة فرضًا عليهم، لذلك نحتاج إلى:

·  أن يختلف مدى إنكارنا لفعل المعاصي عن ترك السنن، وليس ذلك تقليلاً للسنة، لكن الفرائض يقدر عليها الجميع وليست كذلك السنن، فولي الأمر الذي ينكر على ترك الصلاة كإنكاره على عدم حفظ ورد القرآن، ولا يراعي قدرات الطفل على الحفظ والتذكر؛ يرهق ولده وقد ينفره من القرآن.

4. مزيد من الترغيب:

في جلسة مع بعض أولادنا طلبت منهم أن يعبروا عن يوم القيامة وعن القبر وعن الموت بكلمة، فكانت كل التعبيرات تدل على الخوف والترهيب، واختفت كل معاني الترغيب؛ لذلك نحن نحتاج إلى أن ننتبه إلى أن:

·   حاجة الإنسان إلى الترغيب لا تقل عن حاجته إلى الترهيب؛ لهذا اشتمل القرآن والسنة على جناحي الطائر في سيره إلى الله: الخوف والرجاء.

· الترغيب قد يعني ذكر آيات العطاء والإثابة، وقد يعني المكافأة والهدايا والثناء والاحتفالات بالإنجازات.

· ما لا يصح ذكره للكبير في الترهيب لا يصح ذكره للصغير، أعني من جهة صواب المعلومة، فليت الأسر ينتهي بها الحال إلى ذكر نصوص الشرع في الترهيب، لكن مع الأسف تزيد عليه قصص منفرة على أقل تقدير تربك الطفل، من ذلك من رأى طفله يتحسس أعضاءه الخاصة، فجعل يحكي له قصه طفل وجدوه في غرفته ميتًا وجسده يميل إلى الزرقة لأنه لمس أعضاءه الخاصة، ولعل الأب يدرك في قرارة نفسه أنه يبالغ ويتوهم أن نجاحه في كف الطفل عن الفعل مع عدم مراعاة بناء تصور سليم عن الجنس وأنه متعة في الأصل.

· من صور الترغيب التركيز على المميزات:

من أصعب الأسئلة التي يتأخر أغلب أطفالنا للجواب عنها: ما نقاط قوتك ومميزاتك؟! بينما إذا سئل عن عيوبه كان سريع الرد حافظًا لها، وليس وراء ذلك أكثر من تركيز الأسرة على السلبيات، متوهمين أن في ذلك صلاحًا لأولادهم!! إن أبناءنا بشر وليسوا ملائكة ولا شياطين، ونحتاج أن يصل إليهم من تعاملنا ذلك أننا نتقبل ونتفهم ما بهم من عيوب، ونساعدهم على إدارتها أو إصلاحها، وأننا كذلك مثلهم لنا عيوب ومميزات.

5. القدوة لا تتحقق برؤية الفعل فقط:

يتمنى الآباء أن يكونوا قدوات في عين أولادهم، ويظنون أن الفعل أمام الطفل يحقق الاقتداء، لكن واقع الأمر عند التأمل: كم من طفل رأى من والده صورة الفعل الحسن ومع ذلك خرج متنكرًا للقيمة غير ممتثل لها!! وليس هذا بخبط عشواء أو محض ابتلاء كما يتصور البعض، لكننا نحتاج إلى الانتباه إلى التالي:

·  الاقتداء لا يتحقق برؤية الفعل فقط، بل نحتاج قبله إلى بناء علاقة حب وتقبل.

·  الطفل يربط بين أفعالك كلها، حتى وإن لم يكن بينها صلة ظاهرة على الحقيقة، بمعني أن الأم التي تصلي وتحفظ القرآن ولكنها كثيرة الضرب والصراع مع من حولها؛ لا يرفض أبناؤها الضرب والصراع فقط، لكن يرفضون الصلاة والقرآن منها أيضًا، وأحيانًا كثيرة منها أو من غيرها.

·  الاقتداء لا يفرض، ومدخله الإعجاب، فذكر الأم لمعايب الزوج في غيابه لا يفقد الطفل الاقتداء بالأب فقط، بل بكليهما.

6.    الأداء الظاهر ليس هو الهدف؛

فكل متأمل في العبادات وفقهها يدرك تمامًا أن الأداء الظاهر للعبادة ليس هو المطلوب وحده، فقد يقوم العبد بالطاعة ظاهرًا ولا يثاب عليها، وقد يكون ذلك بدهيًا لدينا، لكن التطبيق العملي لتعليم الطفل الصلاة يقف في كثير من الأحيان عند ظاهر الأداء؛ لهذا يجب الانتباه إلى:

·  القيم لها بعد وجداني قلبي، أعني به التعظيم والإجلال، وهذا أصعب بعد في بناء القيم؛ فنجاحنا في بناء قيمة القرآن لا يعني أن الطفل يحسن التلاوة سلوكيًا فقط، لكن أن يعظم القرآن قلبيًا، لكن ذلك في الواقع بعد غائب عند قطاع ليس صغيرًا من الأسر، وجل الاهتمام أن يحفظ أو يجوِّد فقط!

·  إهمال البعد الوجداني قد يكون تدينًا شكليًا، لا أعني التقليل من أهميته في مرحلة عمرية، لكن أعني أن ندرك من أين يبدأ طريق البناء القيمة وأين ينتهي.

7. متى تنفع النصيحة؟!

النصيحة عبادة جليلة، فبمجرد المرور على مواقف النصح في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوقفك على فجوة بين ما نفعله ونتصوره نصحًا وما كان يقوم به -صلى الله عليه وسلم-؛ لهذا نحتاج إلى الانتباه إلى:

·  مراحل التغيير قد تبدأ بإنكار المشكلة أو إنكار الحاجة للتغيير، وفي هذه المرحلة يعتبر النصح في صورته المعهودة غير مساعد للتغيير؛ ففي المراهقة مثلا نلاحظ أحيانًا أسوأ صور المطاردة بين الناصح والمعترض، وإنما يحتاج المراهق منا إلى إثارة أسئلة، أو بناء أعمق من صورة المخالفة الظاهرة، أو التخفف من الأمر والنهي. مثال ذلك الذي يقلد النماذج السيئة من المشهورين لا يحتاج إلى مجرد النصح، لكن قد يحتاج إلى نقاش أعمق حول الحكمة في خلق الانسان، ومعايير الشخصية الناجحة، والفرق بين التقليد في الطفولة والرشد.

· أصدق الصور على التخفف من الأمر والنهي في هذه المرحلة القرآن المكي؛ ففي سورة مثل يوسف أو سورة الأنعام مثلاً لا تجد أمرًا أو نهيًا عدا الآيات المدنية، ومع ذلك تدفعك للعمل وتحفزك وتبني فيك الرغبة، وتثير التساؤل، كقوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية: 17 - 20].

· كثرة النصح لا تعني تكرار الاستجابة أو رسوخ القيمة، لكن تولد السأم، وفي الحديث: كانَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا. [متفق عليه].

8.  التظاهر بالعصمة ليس من الحكمة:

المتأمل في كتاب الله يدرك ببساطة الحكمة في ذكر فضائل الأنبياء، لكن ذكر صغائر الأنبياء يثير العجب؛ كأن الرسالة قبول للطباع البشرية، وضرب المثال على ذلك بالأكابر من الأنبياء وكيف أننا نحتاج إليهم قدوات في لحظات التعثر كحاجتنا إليهم قدوات في لحظات التفوق؛ لهذا:

·  إذا رآك طفلك على فعل خطأ أو ترك سنة؛ فليس المطلوب منك الإنكار مادام يدرك أنه خطأ، أو الكذب لمداراة المشهد؛ فقد تصلي في البيت لكسل تجده، فلا تحتاج إلى ادعاء المرض أو تحميل المشهد أكثر مما يحتمل.

·  طفلك يحتاج حكايات فخرك ونجاحك، وأيضًا حكايات إخفاقاتك وتعثرك مع تحليل بسيط يوصل إليهم أسباب النجاح والفشل وسنن الحياة.

وللحديث بقية في الجزء الثاني من المقال بإذن الله تعالى. 

مقالات ذات صلة
التعليقات
  1. 12 يوليو 2021
    أشرف نصر

    أحسنت القول ،،،،، مقالك مفيد حقا على اختصاره ،،،، و لعل الله يفتح عليك في هذا الباب تحديدا باستكمال مفصل و حبذا لو ينشر على اليوتيوب في شكل نقال صوتي حيث إن انتاج الفيسبوك يكتسب انتشارا وقتيا لا يلبث أن يتضاءل فقط لأن المقال قديم !! رغم جودته ،،،،، بينما لاحظت ان الانتاج الصوتي أو المرئي يكون أكثر ثباتا مع الوقت بل ويزداد الاقبال عليه

إضافة تعليق
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة