أقوى سلاح يملكه الداعي في توجيه كلامه ليصل إلى الآخرين هو اللغة، ولإيصال الدعوة إلى الأفهام لا بد للداعي من لغة القرآن..
حاجة
الدعوة إلى المؤثرين اليوم لا تقتصر على الباكي الذي يستثير عواطف السامعين، ولا
على الصارخ الذي يؤجج الحماس في قلوبهم؛ بل هي أعمق من أن يتصدر لها كل أحد. وإن
أقوى سلاح يملكه الداعي في توجيه كلامه ليصل إلى الآخرين هو اللغة، ولإيصال الدعوة
إلى الأفهام لا بد للداعي من لغة القرآن، فإذا استطاع أن يقف على دررها، ويلتقط
شواردها، ويلتمس نوادرها، ويوظف حروفها ضمن معانيها المختصة بها؛ فلا يناله الفشل،
ولا يعتريه خزي التعبير ولا الملل.
ولكل
فنّ ملكة، وملكة اللغة هي ذكاء وبداهة، ومن المعروف أن أنواع الذكاء سبعة ومنها:
الذكاء اللغوي، وهو باختصار: إيصال المعلومة بأقل تكلفة، وهو يشمل: (الكلمات –
الحديث – الكتابة – القراءة – الاستماع).
وهذا
الذكاء المنشود لا يأتي إلا بعد حب ورغبة في اللغة، وقد صُنِّف على أنه من أنواع
العقل، وليس كل إنسان مؤهلًا أن يفصح عما في خلده بطريقة مفهومة، فكم عايَنت
أبصارنا، وسمعت آذاننا أناسًا تكلموا وتفوهوا وتشدقوا ولم يكن في آخر المآل إلا
القيل والقال، ولا منفعة تجدي من كلامهم أو شيء يدل على فهم حالهم؛ لذا فأصل
الذكاء اللغوي أن نعرف متى نتكلم! وماذا نتكلم! وكيف نوصل الفكرة للآخرين دون
تعقيد ولا إسهاب!!
وإن
أولى من يجدر الانتباه لمقدراتهم واستثمارها في مجال الدعوة هم أولئك الصغار الذين
نصفهم بالبراعم الغضة الطرية، التي تكاد تتفتح أزهارًا يفوح شذاها، فإذا ما
أهملناها لم تُؤت الثمرة المرجوة.
كيف
نستثمر الذكاء اللغوي عند الأطفال في تنمية مهاراتهم الدعوية؟!
أولًا: اكتشف شغفهم: فمنهم من لا يصلح إلا أن
يكون طبيبًا أو مهندسًا، أو ربما نجارًا أو حدادًا أو خياطًا، فإذا حظيت منهم
بمحبٍّ للقراءة، أو للكتابة أو للتعبير أو للشعر، أو من يحب أن يتكلم بالفصحى أو
من يستخدم كلمات جديدة، فحسبك هو، ولك أن تدخر العلم عنده وتستثمر الذكاء اللغوي
لديه، فهذا مؤهل أولًا أن يكون حافظًا للقرآن أو خطيبًا أو شاعرًا أو صحفيًّا أو
داعيًا أو مذيعًا... ونحو ذلك من الأعمال التي ترتبط باللغة بشكل خاص.
ثانيًا:
لا تربط بين ذكائهم اللغوي وبين التحصيل الدراسي: فلربما يتفوق تلميذ على أقرانه
بالفصاحة ولا ينبغ في التكنولوجيا مثلاً. ويأتي على عاتق المربي أن يكتشف مهارات
الطالب اللغوية وطريقة تعبيره، وأسرد في هذا المقال بعض الوسائل المعينة على ذلك:
أولًا:
ابدأ بالحوار والحديث: ولكن انتبه! فلعلك تجد من لا يجيد الكلام بسبب شحٍّ تربوي
في بيئته، ولعله يجيد الكتابة! فهذا لا نُقِلّ الجهد معه، فالبيئة المتمثلة
بالأسرة والمدرسة والشارع والجامع تبني عند الصغار توجّهاتٍ كلامية حسب قوة
تأثيرها، وهذا واضح عند معلم الصف الذي يجد طالبًا يستخدم كلماتٍ دقيقة معبرة
وأديبة، وآخر يستخدم كلمات اللوم أو الشتم والسباب، وثالث يستخدم جملًا كثيرة بدل
كلمة واحدة تفي بالمراد.
وهنا
يبرز دور المربي في زرع كلمات قوية في عقل الطفل تجعله يشعر بالثقة في نفسه، لذلك
فالحوار أولًا، وبه يتدرب التلميذ على مهارة الإنصات؛ لأنه يريد أن يفهم ليعرف كيف
يحاور، وأيضًا يكتسب مهارة الكلام وهي ركن من أركان الذكاء اللغوي، فمثلًا ربما
يدور الحوار حول ما حصل مع التلميذ في المدرسة ومناقشة تصرفات بعض الطلاب
وموازنتها على الكتاب والسنة.
ثانيًا:
يمكن أن تطالب تلميذك الذي لفت انتباهك ذكاؤه أن يكتب مذكراته اليومية، أو يقوم بكتابة
قصة قصيرة من خياله؛ فأصحاب الذكاء اللغوي يتميزون بخيال واسع ودقة في الملاحظة.
ثالثًا:
لا بد من تنمية القراءة السليمة لديه مع اختيار ما يقرأ، على أن تكون قصصًا تاريخية
عن حياة الصحابة والتابعين، أو روايات أدبية أو دواوين شعرية تتدرج بالطفل حسب
مستواه، فإذا امتلك رصيدًا من الكلمات الجديدة طلبنا منه أن يستخدمها في جمل
مفيدة، وعندما نناقش معه أمرًا جديدًا نحاول أن نحفّز الكلمات الجديدة عنده.
ولا
ننسى أهم ما يتوّج هذا كله؛ وهو أن نحيله بين فينة وأخرى إلى الأحاديث الشريفة
ونطلب منه أن يشرح ما فهم منها، ثم نوجهه أن كل ذلك الشرح مختصر في جوامع كلمه -صلى
الله عليه وسلم-، ومثال ذلك: حديث: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) [متفق
عليه]. فهذه ثلاث كلمات اختصرت جملًا كثيرة في التأديب والتوجيه، فيغدو الطفل
متمثلًا لطريقة الأمر بالمعروف، وكذا فيما لو علمناه شيئًا من الشعر؛ كـ (لامية
ابن الوردي أو منظومات الآداب)، فهذه وسائل معينة للطالب كي يصبح لديه مخزون علمي
أدبي يعرف كيف يطرحه.
رابعًا:
إحالة التلميذ ليتعلم لغات أخرى، فمن
لديه الذكاء اللغوي لا يصعب عليه إتقان لغة أخرى بأقل جهد وأقصر وقت من غيره،
وعندما ينتقي المربي الأذكياء لغويًّا ويستثمر طاقاتهم فيختصر على نفسه تعب الآمال
التي يضعها في غير محلها عند طلاب لا يملكون القدرة الكافية لتحقيق ما يرجوه منهم.
وإن
إجادة اللغات الأخرى مَهَمَّة تقع على عاتق الداعي، ليستطيع تبليغ هذا الدين بأقصى
ما يملك من إمكانيات، كما أن تعلم لغة أخرى تشكل رصيدًا مهمًا يُضاف إلى مخزونه
الذهني.
خامسًا:
بث الثقة في نفس الطالب مع المتعة والراحة في أي موضوع يناقشه، أو شيء يقرؤه، أو
رأي يطرحه، فهذا يعزز لديه مهارات التواصل الاجتماعي، وهو ضروري لتربيته أن يكون
داعيًا.
سادسًا:
تطوير مفردات التلميذ وتجديد معلوماته العامة على الدوام، فقد يكون مستوى ذكائه
أفضل من المتوقع، ومع ذلك فيجب أن يعرف أنه بحاجة للازدياد لتبعد عن نفسه أمراض
الغرور والكبرياء.
سابعًا:
يستطيع الطالب الذي يملك الذكاء اللغوي أن يختصر الدروس عبر خرائط ذهنية توضيحية،
فيستحسن من المربي أن يطلب منه القيام بذلك، على أن يبادر بتعليمه من خلال عروض
تدريبية إثرائية؛ لتتوفر في ذهنه مادة مهمة تمهد له سبل القيام بالخرائط الذهنية
على كافة الأصعدة، سواء في طريقة حفظ آية طويلة أو حديث أو تلخيص درس أو طرح فكرة
بشكل منطقي مرتب، فالتعلم المتناغم مع طريقة العقل بالتفكير هو من أسرع أنواع
التعلم.
ثامنًا:
اجعل للألغاز مكانًا في استثمار ذكاء التلميذ وتنميته، فهي تجعله حذِقًا ولا يمكن
للخِبِّ أن يخدعه، فأخطر ما تعاني منه الأمة اليوم مَن يستغلون قلة فهم الآخرين
للدين، ويوجهون الناس بذكائهم اللغوي إلى سبل الضلال من خلال تلميع ألفاظهم
وإتيانهم بالغريب العجيب مما يصعب على العامة فهمه، فيبرزون لهم وكأنهم أذكى الخلق،
فيضِلون ويُضِلون بخروجهم من أحكام الدين والتعامل بالعقل المحض.
تاسعًا:
أضِف إلى المخزون اللغوي عند الطالب مخزونًا علميًّا دينيًّا، وعلِّمه مسائل
ومناقشات، ويمكن الاستفادة من مناقشات الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- للمعتزلة؛
فلعل الطالب لا يفهم تلك العبارات التي عفا عليها الزمن، ولكنّ القصد هو طريقة
المحاكمة العقلية وطريقة الافتراضات والرد عليها، فلا ينبغ طالب العلم حتى يقيم
الدليل على الشيء وضدّه.
عاشرًا:
اصحب التلميذ لحضور مؤتمرات وندوات، ليتأثر بالأشخاص الذين يملكون ثروة لغوية
كبيرة، وستراه يغبط من يستطيع الكلام بطلاقة أمام الجمهور، ويشعر أمام المثقفين
باحترام ممزوج بالرهبة، وأهم ما يثريه دينيًّا هي خطبة الجمعة، فلا تكن في منأى
عنه فيما يسمعه كل جمعة، فبادر معه بتعليمه الخطابة مع أسسها ومقوماتها، مستعينًا
بخطب السابقين من الصحابة والتابعين -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.
وأخيرًا:
لعل هذه الأمور يعرفها كل مربٍّ، ولكن عندما يصبّ المربي اهتمامه لما يُعَلِّمُهُ
بهدف تطوير الذكاء اللغوي عند طلابه فسينتج لديه نتائج مُرْضية، وخاصة أنه القدوة،
فلا يمكن لمعلم لا يملك الذكاء اللغوي أن نضيف لمهامه كيفية استثمار الذكاء اللغوي
لدى طلابه.
ومن
المهم أن يحبب المربي طلابه إليه؛ فأسرَع باب للتعلم هو التعلم بالحب؛ لأن الطالب
يُقلّد أستاذه، ولعله يستعمل نفس عباراته، فليحرص المربي كل الحرص على انتقاء ما
يخرج من بين شفتيه، فإنما الطلاب أمانة بين أيدي أساتذتهم، فأحسنوا حفظ الأمانة.
وفي
ختام المطاف حول استثمار الذكاء اللغوي أوجّه كلمة للمربين عسى أن يكتب الله لها
القبول في قلوبهم، وهي الابتعاد أشد البعد عما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، فهي
قاتلة للّغة مدمرة لها وتكاد أن تعدمها وخاصة لدى الصغار، فأنت -أيها المربي- تردد
بلسان الحال:
أريده
داعيًا مؤثرًا، أريده بليغًا، أريده رائدًا صادحًا بالحق وعنه منافحًا، ولكن العدو
يدمر ما تصنع بشتى الوسائل، ولعل الأهل أحيانًا -ومع الأسف- سبب من أسباب الهدم،
وهنا تكمن صعوبة الأمر؛ إذ لا بد من تواصل المربي مع الأهل ليطمئن على سلامة سير
عمله، ولا يكن كمن يبني وغيره يهدم. نسأل الله العافية والتوفيق في القول والعمل. والحمد
لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
إضافة تعليق