(لقد وضعت ست نظريات في التربية.. واليوم لدي ستة من الأبناء ولا
أجد نظرية واحدة).
هكذا
نقل لنا التاريخ هذه الرسالة عن الفيلسوف والناقد والأديب الفرنسي جان جاك روسو
قبل أن يتوفى خلال القرن السابع عشر، ليلخّص التحدّي الحقيقي الذي يواجه الالتزام
بالقيم التربوية والحفاظ عليها.. نعم لقد قال ذلك في القرن السابع عشر في بدائية
ذلك الزمان، ولك أن تتخيّل اليوم -ونحن في القرن الواحد والعشرين- نوع وطبيعة وحجم
التحديات والتهديدات الموجّهة التي تستهدف قيمنا النبيلة.
ومع
الموج الجارف من الأفكار والأحداث والمستجدات التي يشهدها عالمنا اليوم تأثرت
المنظومة القيميّة للبشر؛ ما استدعى اهتمام القادة والمربين والمهتمين حول العالم
لدراسة وتحليل هذه الظاهرة، فتشكّلت شبكة عالمية يطلق عليها (مسح القيم
العالمي ww.worldvaluessurvey.org
- WVS) أنشئت في العام 1981، وتضم الكثير من
العلماء والباحثين حول العالم يسعون لرصد التغيرات في المنظومة القيمية الحاكمة
للأنماط السلوكية السائدة في مختلف بلدان العالم مع مرور الزمن؛ لمساعدة العلماء
وصناع القرار وواضعي السياسات العامة والرؤى الاستشرافية والخطط الاستراتيجية على
فهم التغيرات والتحولات التي تطرأ على الاعتقادات والقيم والبواعث، وتأمين بيانات
يمكن توظيفها في الربط بين العوامل الثقافية من جهة والازدهار الاقتصادي وعمليات
التحديث السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، من خلال تصميم وتنفيذ أبحاث عالية الجودة
عبر سلسلة موجات تنفذ بشكل دوري (صدر منها حتى الآن الموجة الأولى: 1981-1984، والموجة
الثانية: 1990-1994، والموجة الثالثة : 1995-1998، والموجة السادسة: 2010- 2014).
والشبكة حاليًا بصدد تنفيذ الموجة السابعة: 2016-2019.
وقد
شملت هذه الدراسة ما يقرب من 100 دولة، يقطنها حوالي 90% من سكان العالم، وقد صدر
عن هذه الشبكة حتى الآن أكثر من 4000 وثيقة بأكثر من 20 لغة.
وقد
أفاد آلاف من الفلاسفة وعلماء السياسة والاجتماع والقانون وعلم النفس الاجتماعي
والأنثروبولوجيا والاقتصاد من بيانات هذا المسح في تحليل محاور شتى، كالعلم،
والدين، والتقنية، والسياسة، ورأس المال الاجتماعي، والرفاه الشخصي، والنمو
الاقتصادي، وقيم الحق والخير والجمال بمختلف جوانبها الوجدانية والعاطفية
والسلوكية.
القيم
ميزان الفعل الاجتماعي:
إن
القيم هي الميزان المرجعي لإرشاد الفعل الاجتماعي نحو الفضيلة والاستقامة والثبات
على الحق، هي في حقيقة الأمر صمام للأمن والسلم الاجتماعي، وبالتالي فإن تهديد هذه
القيم هو تهديد للأمن والسلم الاجتماعي ودفع المجتمع للانزلاق لحالة من الفوضى
والتنافس لإشباع الغرائز الحيوانية والشهوات والملذات بكل الوسائل الممكنة
والمتاحة دون اعتبار لشرع أو أخلاق أو قيم أو ضوابط، وتحت مغلفات برّاقة كالحريّة،
والانفتاح، والتحرّر... وغيرها.
إن
وجود القوانين والتشريعات، يبقيها مجرد نصوص مكتوبة تمتلئ بها الرفوف والأدراج ،
وتداولها أوراق المؤتمرات والقمم دون أثر حقيقي لها في حياة الناس، ويتطلب تفعيلها
حشد الموارد الضخمة وابتكار وسائل الرقابة الحديثة لتتبع الالتزام بها، وإنزاع
العقوبات على مخالفيها، بينما تبقى القيم النبيلة الطاهرة هي البوصلة الأخلاقية
التي تضبط سلوك الإنسان وفق رقابة ذاتية داخلية من أعماق الإنسان نفسه، أكثر
فاعلية وأثرًا من وضع الإنسان تحت المراقبة والتهديد بالعقاب؛ فالإنسان أذكى وأقدر
على الالتفاف على القانون في حال قرّر التخلي عن قيمه النبيلة... حينها خديعة
القانون ليست أمرا صعبًا، بل يمكن القول بكل تأكيد بأن الترسانة الضخمة من
القوانين والتشريعات والنظم والتعليمات والإرشادات واللوائح والجزاءات دليل واضح
على تراجع القيم.
إننا
بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى صحوة الضمير، وحماية حصن القيم والأخلاق النبيلة
أمام كل ما يعمل على تهتكها وتمزيقها وإضعافها، إننا نعيش اليوم رهانًا على الحصن
الأخير لأمتنا والجيل الحالي والقادم في زمن توالت فيه النكسات.
إن
السؤال الذي يجب أن نضعه على أنفسنا، ما الذي يمكن عمله الآن؟! وما هي أفضل
الأساليب والطرق لبناء وتعزيز القيم النبيلة في ذواتنا وفيمن هم تحت مسؤوليتنا
كالأبناء والطلبة ومن في مستواهم؟! خصوصًا في زمن ضعف تأثير سلطة البيت والوالدين؛
لأنه أصبح يشاركهما العديد من الجهات المؤثرة كالمدرسة والإعلام والمجتمع المفتوح.
مشروع
تدريبي قيمي:
كإحدى
الإجابات لهذا التساؤل الكبير والمتشعب يمكن الانطلاق من أحد جوانب التخصص
والممارسة التطبيقية، وهو التدريب وبناء القدرات؛ إذ يمكننا وضمن مشروع بناء
وتعزيز القيم النبيلة لدى الناشئة تبني برنامج تدريبي متكامل طويل المدى تشترك في
تنفيذه على الأقل ثلاث مؤسسات محوريّة هي البيت والمدرسة والمسجد، بحيث يتولى
قيادة هذا البرنامج الأب أو الأم أو من يقوم مقامهما باعتبارهما أهم المعنيين
بالموضوع؛ بحيث يتم تبني آلية تنسيق بين المؤسسات الثلاثة لتتبع الالتزام الأخلاقي
والسلوكي للابن أو البنت، مع إعطاء عناية خاصة لمن يكونون في مرحلة المراهقة، مع
التركيز على قيمة الصدق والأمانة والشعور بالمسؤولية، والتدقيق في الصحبة
والأصدقاء.
ويظل
البيت هو المعين الأول لتشرّب القيم والتنشئة عليها، ويتحتم على الوالدين أو من
يقوم مقامهما مسؤولية كبرى لتبني إطار للتنشئة الصالحة عبر الأنشطة الجماعية
وتنفيذ المهام بشكل جماعي، وتقاسم الأدوار، مع التأكيد على احترام الوقت وحقوق
الآخرين، عبر مائدة قرآنية تجمع أفراد العائلة، وحزمة من الأنشطة العائلية
التربوية المتنوعة والجذابة، التي يمكن تصميمها بناءً على خصوصية كل عائلة وحجمها
والاعتبارات الوظيفية لأحد الوالدين أو كليهما وغيرها من الاعتبارات.
كما
يمكن الاستفادة من البرامج التي تعرضها بعض المؤسسات؛ كالأندية الرياضية والمراكز
الصيفية الهادفة للفتيان والفتيات وغيرها، وتشجيع الأبناء للالتحاق بها والمشاركة
في فعالياتها المختلفة، كالرحلات والزيارات الميدانية والدورات العلمية والمسابقات
وممارسة الهوايات والفنون، وتوظيف إمكانيات وموارد الإعلام الضخمة كوسائل متاحة
لتعزيز الأخلاق والقيم النبيلة، ويظل الحوار العائلي الدافئ أساس للتحفيز والتوجيه
والتقويم وتصحيح المسار.
ونضع بين أيديكم فكرة لنموذج خطة برنامج تربوي قيمي، هذا النموذج قابل للتطوير بحسب خصوصيات كل عائلة، مع إيماننا الكبير بأن هذه القضيّة لا تزال بحاجة لتحرك جاد ومزيد من النقاشات المعمّقة ومتعددة الأطراف لبلورة تصوّر يعزز بناء القيم ويرسخها، ويراعي التحولات الضخمة التي تواجهها الأمّة اليوم، والإسهام في إعداد نماذج قدوات للأجيال القادمة.
* نموذج مقترح لنشاط تدريبي معزّز للقيم التربوية:
إضافة تعليق