على مرّ التاريخ الإنساني كانت الجماعات التي امتازت بكثرة أعدادها وتطبيق مفهوم الأمة الواحدة المتماسكة = هي القادرة على تنويع مصادر دخلها، وتقوية اقتصادها، وجيوشها بما يجعلها مهيبة الجانب قادرة على الدفاع عن أراضيها ومصالحها.
والمراقب لما يدور من تغيرات هائلة يمر بها العالم اليوم، يرى ضرورة العمل على تربية الأجيال الشابة والناشئة لتبني الصور الممكنة من التقارب والتكامل بين الشعوب المسلمة، بما ينعكس عليها جميعًا بفوائد تتعاظم قيمتها بشكل ربما لا يتخيلونه.
الأمة الواحدة في الإسلام
ومصطلح الأمة الواحدة تتغيّر صوره وأشكاله، فتتراوح بين الوحدة السياسية والجغرافية، مرورًا بالوحدة كمفهوم فكري يجمع المنتسبين إليه رغم تباعدهم، وانتهاءً بالوحدة كتطبيق اجتماعي ينصهر فيه الأفراد مُشكلين نسيجًا مترابطًا يجمعهم، وفقًا لرؤية ثقافية واجتماعية متقاربة.
والأمة هي تلك الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع يعتبرون بها واحدًا، ويسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد، أو هي الجماعة المؤلفة من أفرادٍ لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص؛ سواء أكانت كبيرة أو صغيرة، ويختلف هذا الرابط باختلاف مفهوم الأمة، فأمة الإسلام تربطها عقيدة الإسلام.
ويؤكد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أهمية وحدة الأمة المسلمة على أساس اشتراك أفرادها في اعتناق الدين الإسلامي، بغض النّظر عن خلفياتهم العرقية أو انتماءاتهم الجغرافية، فوردت لفظة الأمة في آيات عديدة من القرآن الكريم، من ذلك قول الحق- تبارك وتعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وقال تعالى: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال- جل وعلا-: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى: 13].
وأكد النبي- صلى الله عليه وسلم- أهمية وحدة الأمة، فقال: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى” (البخاري).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: “إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإضاعَةِ المالِ”.
ووردت لفظة “أمة” في نصّ صحيفة المدينة الذي كتبه النبي- صلى الله عليه وسلم- عند مَقدمه يثرب في هجرته، بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه يهود: “هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ الْمؤْمِنِينَ وَالْمسْلِمِينَ مِنْ قرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ. إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ” (السنن الكبرى للبيهقي).
لكن مع نشوء ما يُعرف بالدولة القُطرية أثرّ ذلك كثيرًا في تفتيت الوحدة السياسية للمسلمين، وتقسيم بلادهم إلى أقطار جغرافية متمايزة بعضها عن بعض، وأسهمت وحالة الضعف الديني والفكري والاقتصادي والعلمي- أيضًا- في زيادة الفرقة بين أقطار المسلمين بدرجة جعلت كل قطر يرى أبناء القطر الآخر غرباء وأجانب، إن لم يكونوا خصومًا.
ولعل شاهد ذلك ما يحدث في بعض الأزمنة التي تثار فيها حروب ونزاعات بين أقطار شقيقة لأسباب لا تخدم سوى أهداف القوى الاستعمارية التي خرجت من الأرض، لكنها بقيت مسيطرة على الفكر والقرار.
التربية على مفهوم الأمة الواحدة
وتكمُن أهمية البُعد التربوي لمفهوم الأمة الواحدة أنه مقترن بالبُعد الشرعي؛ فإذا كانت هداية الدين تمثل المحتوى النظري الصالح لإقامة الأمة، فإن ذلك لن يكون إلا بتربية أفرادها على هذا المنهج وتلك الهداية، وتأكيدًا لحتمية العملية التربوية في بناء الأمة، نجد أن مهمة الرسول تربوية بالدرجة الأولى.
وتُؤكّد بعض النظريات التربوية أن الطفل يُمكنه ممارسة سلوك محدد بشكل أفضل عندما تتوافر لديه معلومات واضحة ومقنعة بشأنه، ولعل النظرية المعرفية في علم النفس تبرز هنا بوضوح، حيث تؤكد أهمية التعامل مع المعلومات التي يتلقاها الشخص، والمعالجة الذهنية لها، حتى تتحول إلى سلوك يحقق أهداف الشخص أو رغباته.
لذا فمن الضروري الاستثمار في الفطرة الإنسانية التي ينشأ عليها الطفل، حيث يرى الناس أمامه سواسية، لكنه غالبًا ما يكتسب تحيزاته العرقية أو الإقليمية من بيئته المحيطة؛ فحينما يرى مَن حوله يمارسون أنواعًا متعددة من التحيز ضد أشخاص بعينهم، نتيجة كونهم مختلفين عنهم في لون البشرة، أو اللغة، أو هيئة اللباس؛ فإنه بالتأكيد ستتسرب إلى نفسه بعض هذه التحيزات المتعصبة ضد هؤلاء الناس.
- الأفضلية بالتقوى: فلا بُد من تربية الأبناء على هذه الحقيقة، ونذكرهم دائمًا أنه “… لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم …” (السلسلة الصحيحة للألباني).
- عدم التحيز: ونحن في مجتمعاتنا المعاصرة قد نغفل ونتفوه ببعض الكلمات أو الجمل ذات الأبعاد المخالفة لمفهوم الأخوة الإسلامية، ويتسرب ذلك إلى نفوس أطفالنا دون أن نشعر، وتبني مع التكرار عبر الأيام جبلًا من التحيز والعنصرية يقف حاجزًا منيعًا أمام مشاعر الوحدة الإيمانية، والتقارب بين الشعوب، والشعور بالانتماء لدين واحد.
- التطبيق السلوكي لمفهوم الوحدة: وحينما يتشرّب المربون فكرة الوحدة بمستوياتها المختلفة بين المسلمين، فإنه يصبح نقلها إلى الأجيال الناشئة والشابة أسهل، ويكمن الإشكال أحيانًا حينما يتصدى للتربية أشخاص ما زالت لديهم رواسب من التمييز بين الناس بناء على انتماءاتهم العرقية أو الإقليمية.
خطورة فرقة الأمة
وإذا لم يعمل المسلمون على تحقيق مفهوم الأمة الواحدة؛ ظهر الفساد وكثرت الأخطار، ومن آثار ذلك:
- مخالفة أمر الله ورسوله: فاختلاف المسلمين وتفرقهم مخالفة لما ورد في الكتاب والسنة من الأمر بالوحدة واجتماع الكلمة.
- اختلاف القلوب وتفريق الدين: فإن الاختلاف في الأعمال الظاهرة كصور أداء العبادات، وتحديد مواقيتها الزمانية أو المكانية، أو تباين مواقف المسلمين في القضايا المصيرية، يؤدي إلى اختلاف القلوب ويدل على تنافر المقاصد والنوايا، لذلك كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يأمر الصحابة بتسوية الصفوف عند الصلاة.
- الفشل وذهاب الريح: ومن أعظم أضرار اختلاف المسلمين وتفرق كلمتهم الفشل وذهاب الريح، وقد ذكرهما الله تعالى في القرآن لخطورتهما، فقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال: 46]، والفشل وذهاب الريح تعبير بليغ عن نقص قوة المسلمين وقصورهم عن بلوغ مقاصدهم في تقوية جيوشهم وإرهاب أعدائهم.
من الضروري أن نربي أنفسنا وأولادنا ومن ولانا الله- سبحانه وتعالى- المسؤولية على تربيتهم على مفهوم الأمة الواحدة، وأن نشعرهم أننا أمة واحدة، يجمعنا دين واحد، كلنا إخوة فيه كالجسد الواحد، فإذا تربينا على هذا وفقنا الله، وجمع بين قلوبنا، وأزال الأحقاد والضغائن التي بيننا، وارتفعت كثير من المظالم التي عند بعضنا لبعض، لأنّ المسلم إذا استشعر حقيقة هذا المفهوم فليس من المعقول أن يظلم نفسه، أو يقتل نفسه أو غيره، أو يحقد على أخيه، لأن نفسه ونفس أخيه واحدة.
المصادر والمراجع:
- الدكتور محمد الشريم: تربية الأجيال على مفهوم الأمة الواحدة.
- ناصيف نصار: مفهوم الأمة في القرآن.
- محمد رشيد رضا: تفسير المنار، 2/220.
- أحمد جلال: متى كانت أمة الإسلام أمة واحدة؟!
- محمود سعد محمود: مفهوم الأمة وخصائصها في فكر الشيخ محمد رشيد رضا.
- الدكتور سعيد إسماعيل علي: مركزية القضية التربوية في فهم واقع الأمة وأسباب تخلفها.
إضافة تعليق